الامام الشيرازي ونسف نظرية المؤامرة
نظافة مدينة كربلاء مثالاً
محمد علي جواد تقي
2017-01-02 09:14
وفق المعطيات الاولية لواقع الشعوب الاسلامية، فان ما يُعرف بـ "نظرية المؤامرة" اندفعت بقوة في اوساطنا تتسلل في العقول والنفوس، منذ أول لحظة شعور بالهزيمة والهوان أمام القوى الاخرى، ولم تعد الوسيلة لتفسير الاحداث الكبرى، مثل الحروب والانقلابات العسكرية والاضطرابات السياسية والاقتصادية، وحسب، إنما باتت شماعة الازمات والاخفاقات نلقيها بعيداً عن كاهل المسؤولية لنستريح على وعود من ساسة وحملات تعبوية و تجييش عاطفي موجه لمصالح معينة بعيدة كل البعد عن واقع الناس المر.
ليس اليوم او قبل سنة او عشر سنوات، بل قبل حوالي نصف قرن من الزمن (50 عاماً) نسف الامام الراحل والمرجع الديني السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- خلال وجوده في كربلاء المقدسة، هذه النظرية أمام مرأى الجميع، وأن وجود أو عدم وجود مؤامرة من الداخل او الخارج لللإبقاء على حالة التأزم في اوساط المجتمع، من الاشكال كافة، لن يكون مبرراً بالمرة، للجلوس وندب الحظ، او الترجّي والدعاء بالقول دون العمل، او التوسّل باللعن والسب للمسببين والدعاء عليهم بالهلاك! بل لابد من تقديم البديل الاحسن من خلال النهوض بمشاريع تنموية وعمرانية حتى وإن كان عملاً بسيطاً، بيد أنه يمثل بداية مضيئة لسلسلة مشاريع في قادم الأيام، وهو ما حصل في داخل العراق وخارجه.
مناسبة هذا المقال؛ مقطع نصّي ارسله لي أحد الاصدقاء المؤمنين والمتابعين للشأن الثقافي، من موسوعة الفقه لسماحة الامام الراحل، اقتطف الصديق من مقدمة سماحته للجزء 121 "فقه النظافة" في سياق حديثه عن المظاهر غير اللائقة في كربلاء المقدسة في عقد الستينات، حيث تنتشر الاوساخ والقاذورات في الطرقات والازقة، لاسيما في مواسم الزيارة، لعدم وجود مرافق صحّية واماكن جمع النفايات وغير ذلك.
وفي طيّات استذكار سماحته لتلك الايام وحواره مع مدير بلدية ذلك العهد، وانتزاع اعتراف منه بأن الاوامر صادرة من بغداد بإهمال المدينة مهما حصل، يشير سماحة الامام الشيرازي الى مبادرته بإنشاء مرافق صحية في موقعين: الاول قرب حرم الامام الحسين، عليه السلام، وتحديداً في "سوق العرب"، والثاني بالقرب من حرم أبي الفضل العباس، عليه السلام.
من الناحية الموضوعية؛ فان القوى الكبرى في العالم، تنظر دائماً بعين الريبة الى أي بقعة في العالم تصدر منها ما يهدد مصالحها وتواجدها، فتعمل على التصدّي لها بمختلف الطرق، فتحرك أذرعها المتعددة الاشكال، من ساسة في أنظمة الحكم او منظمات او شركات اقتصادية او وسائل اعلام، وغيرها من وسائل الضغط لتطويع الشعوب على الامر الواقع، يبقى في الجهة الاخرى موقف الشعوب وقادتها وطليعتها المثقفة والواعية، فهو الذي يكون على المحك، فاذا كان الرضا بالموجود، فان كل شيء يمضي على ما يرام، وإن لم يتحدث أحد عن وجود "مؤامرة تُحاك في الظلام"، ولكن؛ يكفي أن تصدر كلمة من خطيب او كاتب او قائد، وتخترق القلوب وتهزّ الضمائر فتحدث التموّج الكبير والانتفاضة العارمة، نرى كيف أن كل تلك الأذرع تتناثر هنا وهناك ولا يبق منها شيء، فضلاً عن "المؤامرة".
ولذا يمكن القول: إن الذي يعزز نظرية المؤامرة في الاذهان، أمران – بين عدة أمور-:
الامر الاول: نظريات دون مصاديق عملية على ارض الواقع، رغم ما تحمل من افكار وتجارب وبراهين، ولكنها تبقى حبيسة الجدران وأوراق الكتب، بينما الذي يصنع الواقع، المشاريع الناجزة والمبادرات العملية في شتى الميادين، لاسيما في المجالات الحيوية، مثل مجال الطفل والمرأة والنظافة والتعليم والصحة والفن والادب.
الامر الثاني: التمسك بالنظرة السلبية إزاء الواقع الخارجي، إذ يبدو لدى البعض أن كل عمل محكوم عليه بالفشل سلفاً أو غير ذي جدوى، وهذا ما نلاحظه من ردود الفعل إزاء أي عمل ثقافي او تنموي، مثل إصدار مطبوعات معينة او تشييد مؤسسة او أي مشروع آخر، فيحكم عليه بـ "المكرر" أو "المثالي" وحتى "المستحيل"، وهذا البعض يغفل عن حقيقة صادمة، أن هذه النظرة السلبية بذاتها هي التي تنعش القوى الكبرى، بقطع النظر عن مسمياتها، وتضمن لها الاستمرار في تحقيق المزيد من المكاسب في بلادنا، وإذن؛ فنحن نقدم الخدمة المجانية لمن نعدها بـ "المؤامرة" دون شعور منّا!
الامام الشيرازي الراحل في معظم مؤلفاته وأحاديثه النهضوية يطرح أفكار قيّمة وعميقة ذات ابعاد واسعة، ثم يقرنها بالعمل و"الدفع الى الامام" نحو التطبيق العملي، وإلا فان المكتبة الفكرية والثقافية والنصوص الدينية، تحفل بالنماذج الراقية والافكار السامية التي من شأنها تحقيق السعادة والحياة الآمنة والكريمة للانسان، في حين نلاحظ الواقع اليوم أشبه ما يكون بغابة "أطبقت على مُذئب منه أو مُسبع"، كما جاء في قصيدة الجواهري.
إن الامام الشيرازي الراحل، عاش ظروفاً، أقلّ ما توصف بانها استثنائية، لم تحصل لأي عالم دين مصلح ومجاهد من قبل، وفعل ما فعل، وتحدى مختلف اشكال الضغوطات والاستفزازات والتهديدات، وما تزال معالم العديد من مشاريعه ماثلة للعيان، رغم مرور اكثر من خمسين عاماً على إنشائها، أما اليوم فان العراقيين – جميعاً- يرفلون اليوم في أجواء الحرية الكاملة التي لم يشهدها العراقيون من قبل، وهي تعد أهم مقومات النجاح لأي مشروع تنموي وثقافي، مما يعني أن باب الاعذار بعدم نجاح هذا العمل او ذاك مغلقاً تماماً، إنما هنالك فرص عديدة لتحقيق أي عمل يخدم الصالح العام، بدءاً من النظافة ومروراً بالخدمات العامة والامن والتعليم والصحة، ومن ثم الاقتصاد والتجارة وحتى التأثير على القرار السياسي وتطويعه مهما كانت الظروف.
التآمر على هذه المدينة المقدسة، بل وعلى سائر المدن المقدسة في العراق وفي جميع البلاد الاسلامية، ليس بالأمر الجديد مما يحتاج الحديث حوله، لما عرفه الحكام ومن خلفهم القوى التي جاءت بهم الى السلطة، من مكانة في القلوب، وما يمكن ان تنهض به من أدوار حضارية كبرى في حاضر ومستقبل الشعوب، إنما المهم في كيفية معالجة الواقع الذي نعيشه.