بانتظار الخطوة الثالثة لإقامة نظام الحكم الرشيد
قراءة في محاضرة صوتية للإمام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره-
محمد علي جواد تقي
2016-12-21 08:31
لماذا الحركات الاسلامية، قليلة، وعلى قلتها لا تنجح؟، السبب في عدم نجاح الثورات التي قامت بها هذه الحركات يعود الى قلة الوعي، بمعنى أن تلكم الثورات والحركات غير مكتملة، كما هو حال الطفل الذي يولد لأربعة أشهر، او طائرة من دون جناح وهكذا... واحياناً عدم تحليق الطائرة يتعلق بجزء صغير فيها، فضلاً عن الاجزاء الكبيرة.
للإجابة على السؤال الآنف الذكر، علينا أن نعرف أن الاسلام على ثلاثة شُعب:
الأولى: الدين، وما يمثله من مسجد، و مدرسة، وخطيب، وكتب دينية، ورسائل عملية، ومفاتيح الجنان، وكتاب المكاسب للشيخ الانصاري، وأمثال ذلك.
هذه الشعبة يزاولها جميع المتدينين، ومثال ذلك؛ مجلس ضخم يغصّ الحضور يكون المنبر لخطيب مفوّه وبارع في طرح مسائل وافكار اسلامية قيّمة، والمئات من الحاضرين يستفيدون من هذا الخطيب ويثنون عليه، هنا؛ الخطيب صنع حسناً، والحاضرون صنعوا حسناً، والباذل كذلك، بيد أن هذا ليس كل الحياة، إنما جزء من الحياة.
أما الشعبة الثانية: وهي لم نصل بعد اليه، نحن المتدينون في جميع انحاء العالم الاسلامي، من علماء دين، واحزاب، وتنظيمات، ومراجع، وخطباء، وهي؛ التجدد في الوسائل، مثل؛ الاذاعة والتلفزيون، والصحف، والمدارس الأهلية، والمستشفيات، والأندية، والمصارف، والسينما الاسلامية، وما أشبه ذلك. نعم؛ ربنا طوّر البعض منّا شيئاً بسيطاً من الوسائل، مثل؛ استخدام مكبرات الصوت للمجالس العامة، او افتتاح مدارس اهلية في بعض البلاد الاسلامية، أما الاذاعات والقنوات التلفزيونية والأندية وغيرها، فلا... وهذا ايضاً لا يرتبط بالحياة العامة، إذ نفترض أني تمكنت بمساعدة الاثرياء أن أسس مائة قناة تلفزيونية واذاعة، وكلها تبث برامج اسلامية عن النبي والامام علي والزهراء، عليهم السلام، وعن الصلاة والصوم والصدق والأمانة والنهي عن الخمر والقمار، بل واشترينا مطابع وطائرات لنقل المبلغين، وأسسنا دور نشر، وغير ذلك كثير، وهو أمر واجب وضروري بأن نسير في طريق تطوير الوسائل الاسلامية، بيد ان كل ذلك، هو الآخر، لا يرتبط كاملة بالحياة.
وإذن؛ فان همّ المراجع والعلماء والخطباء والاحزاب الاسلامية، نقل الاسلام من المرحلة الاولى الى المرحلة الثانية، ولذا فانهم يمدحون ويثنون على من يشيد مدرسة أهلية، او يؤسس مشروعاً ثقافياً، كما أن البعض يمدحونني بإقامة بعض المشاريع، في حين أرى أن هؤلاء المادحين لا يفهمون الحياة، في حين أننا صنعنا شيئاً صغيراً من الواجب من المرحلة الاولى، مثل تأسيس مدرسة، او شيئاً صغيراً من الواجب في المرحلة الثانية، مثل مدرسة الامام الصادق، عليه السلام، الاهلية في كربلاء المقدسة، أو حتى تمنع انساناً خماراً من شرب الخمر وتهديه الى الطريق الصحيح، بل حتى وإن تمكنا من تحويل مخمراً الى مكتبة – كما فعل احد الخطباء- وهو انجاز عظيم لاشك، بل حتى وإن تمكن ذلك الخطيب المتوفي – رحمه الله- من غلق جميع أماكن شرب الخمر، فهو صنع حسناً ولكن؛ من المرحلة او الدرجة الثانية.
أما الشعبة، أو الخطوة الثالثة؛ فهي الوعي والتطبيق. وأن نعرف ما هو الحكم في الاسلام؟
إن أولئك الذين يطالبون بتطبيق حكم الاسلام في البلاد الاسلامية لا يفهمون ما هو حكم الاسلام، وهذا يعني الوعي، ثم يأتي دور العمل الموصِل، كما فعل رسول الله، عندما جمع جماعة وملئهم وعياً بالحكم الاسلامي ثم دفعهم الى الامام حتى تسلموا زمام الامور، سواءً كان صحيحاً، مثل الامام علي، او باطلاً، لكن في كل الاحوال، جميعاً في خط الرسول الاكرم، وليس في خط ابو لهب او كسرى او قيصر.
لذا نحن بحاجة الى الوعي في جميع المجالات؛ السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، ومن وسائل التوعية؛ التأليف، و لكن لا نجد في مكتباتنا اكثر من خمسة الى عشرة كتب تعنى بالوعي السياسي ، بينما لدينا كتب عن؛ النبي والامام علي وابو ذر والصلاة والصوم وغيرها، كما لدينا؛ جامع المقدمات والسيوطي والمكاسب.
كما لدينا قصور في فهم الاقتصاد، ودنيا اليوم متوقف على فهم الاقتصاد، وقد قال ماركس: ان العالم يحركه الاقتصاد، وهو كلام غير صحيح، مع ان الاقتصاد منذ البداية كان له مدخلية في تحريك العالم، ولكن ليس العامل الأوحد، إنما جزء صغير. وهناك احاديث في هذا الشأن "الفقر سواد الوجه في الدارين"، و"من لا معاش له لا معاد له"، وإذن؛ فهم الاقتصاد واجب، ثم دفع الناس نحو الاقتصاد.
ان الحروب في العالم تدور على محور الاقتصاد، والدول الاسلامية تتعرض للحروب من اجل الاقتصاد، بمعنى أن البلاد الاسلامية كانت تتعرض سابقاً للاستعمار السياسي، واليوم اصبحت تواجه الاستعمار الاقتصادي. وحسب اطلاعي، فان شريحة المتدينين، ليست لديهم علاقة بالاقتصاد بتاتاً، لا عملاً ولا طريقاً. فالدعوة الى حكم ونظام اسلامي، يعد كلاماً نظرياً يحتاج الى وعي ودفع الى الامام.
في بلادنا حصلت ثورات كبيرة وسقط آلاف القتلى، ولكن بقيت الانظمة الديكتاتورية على حالها ولم تسقط، وما يزال الحكام يقتلون ويضطهدون الناس، فالمشكلة في عدم وجود الوعي السياسي الكافي الذي يحول الثورة الى نظام حكم ناجح، وليس الى ديكتاتورية جديدة تشهد التهافت والتكالب على السلطة، كما حصل في تجربة باكستان بعد استقلالها من الهند. بالمقابل نلاحظ أن البلاد الغربية لديها نظام سياسي ونظام اقتصادي متكاملين.
من العقبة أمام حركة الوعي وآليات التطبيق؟
قبل الاجابة على هذا السؤال المتمخّض من الحديث الآنف الذكر، تجدر الاشارة الى قوة تنبؤ الامام الشيرازي بالتطور الكبير في وسائل الاعلام ذات التوجه الاسلامي، من قنوات فضائية واذاعات ومواقع نت وغيرها، فضلاً عن المؤلفات ودور النشر والتوزيع، وهي في مرحلة المراوحة في مكانها لعدم وجود الخطوة الثالثة من بعدها، وهي؛ الوعي ثم ايجاد المصاديق العملية على ارض الواقع، ولمزيد من الدقّة والموضوعية، فان بعض الانجاز من التوعية في بعض المجالات حاصل لاشك في الاوساط الاجتماعية، بيد أن العبرة في المحصلة النهائية، وما يجب ان تفضي اليه النتائج، وما اذا تركت أثرها على الوضع القائم، كأن تدفع الى إقامة نظام حكم ديمقراطي بنسبة عالية من رعاية الحقوق والحريات والعدالة وتحكيم القيم والمبادئ، ولعل العراق اليوم، يكون المثال البارز.
ان الذين كان يقصدهم سماحة الامام الشيرازي – قدس سره- بتحمّل مسؤولية الانتقال من الخطوة الثانية الى الثالثة، ويطلق عليهم بـ "المتدينين" فهم العلماء والخطباء و اساتذة الجامعات والشريحة المثقفة والواعية في المجتمع، وهؤلاء كانوا موجودين في سني السبعينات – تاريخ تسجيل المحاضرة- وما يزالون حتى اليوم من حيث النوع، وإلا فان جيلاً جديداً خلف الجيل السابق من هذه الشريحة، ثم حصلت تطورات بالاتجاه الايجابي تؤكد المسؤولية التي دعا الى تحملها سماحته منذ حوالي اربعين عاماً. فقد وصل الاسلاميين في عديد من البلاد الى الحكم، او خاضوا التجربة السياسية ودخلوا ميادين الاقتصاد بفروعها وميادينها؛ الزراعية والصناعية والتكنولوجية، كما جربوا الادارة والتخطيط والقانون والخدمات العامة، مع كل ذلك نلاحظ الحياة العامة للشعوب الاسلامية في ضيق من الناحية المعيشية وتأزّم من الناحية النفسية وتخلف شديد من الناحية الصناعية والتكنولوجية، علماً أن في العراق – مثلاً- ارتفع عدد الجامعات والمعاهد الاهلية وايضاً المدارس الأهلية، كما ارتفع عدد الخريجين وحملة الشهادات العليا، وكذا الحال في الحوزة العلمية التي خرجت خطباء وعلماء كُثر، الى جانب اتساع شريحة المثقفين وظهور تنظيمات ومؤسسات ناشطة ضمن "مؤسسات المجتمع المدني".
ونظراً الى معطيات سياسية واجتماعية على الارض، يبدو أننا ابتعدنا كثيراً عن الطموح الكبير الذي حمله الامام الشيرازي بإقامة نظام الحكم الاسلامي المتكامل والناجح على غرار تجربة النبي الاكرم وتجربة أمير المؤمنين، عليهما السلام، إنما توقفنا عند مشكلة ربما هي أقرب الى العقبة في تحقيق الطموح الأقل درجة؛ بأن تتصل هذه الشريحة المثقفة وأهل العلم والمعرفة بالشريحة الأوسع في القاعدة الجماهيرية وتزودها بالوعي والمعرفة لصنع ثقافة البناء والاعمار والإصلاح.
فما تزال الهوّة واسعة وعميقة بين الشريحتين، بل ثمة مؤشرات على تكريس هذه الهوّة تارةً، وتجاهل مسألة تجسير العلاقة تارةً اخرى، لنأخذ الاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها المعنية بملف الوعي السياسي، كم هي المسافة التي قطعتها نحو الجماهير لنشر الوعي وصنع الثقافة بما يؤهل المواطن – مثلاً لا حصراً- لانتخاب الأصلح والأكفأ في الانتخابات المحلية والبرلمانية؟ كذلك الحال بالنسبة للاقتصاد، فهنالك الخبراء والعلماء في الاقتصاد، من حملة الشهادات والمتخصصين، ولديهم كل النظريات التي يفترض ان تشكل فرص للنمو والتطور، بيد انها بعيدة عن التاجر في السوق أو المزارع في الحقل او صاحب المشروع الصناعي. بل اكثر من هذا وأمرّ...! الثقافة الصحيّة، من الملاحظ أن الطبيب يجد ثمة حاجزاً نفسياً بينه وبين المريض من أن يبادله المعلومات الصحية ويشرح له خلفيات المرض والعوارض الجانبية للعلاج، وطرق الوقاية وغير ذلك. إنما يكتفي بسماع بعض الشكوى بكلمات قصيرة خلال ثواني تكفي لملء الوصفة العلاجية.
عندما يتحدث بعض المفكرين والمنظرين عن حالة الجهل في المجتمع، فان الحريّ بهم التحدث وبشجاعة عن جهل آخر يقابله لدى أهل العلم والمعرفة في ضرورة نشر ما لديهم من هذا العلم وتلك المعرفة، وهذا يبدأ من الاساس التعليمي والتربوي في المدارس، من طريقة تعامل المعلم والمدرس مع الطلاب الصغار، ومن ثم في المحيط الجامعي، وعلى الصعيد العمل الحزبي والمؤسسات الثقافية. فالملاحظ أن النتاج الثقافي والعلمي لهذه الشريحة يتم تداوله ضمن دائرة مغلقة، ربما تكون أشبه بالدائرة التلفزيونية المغلقة، تطرح نظريات وافكار وتناقش وتبحث ثم يخرج الجميع بالنتائج القيمّة – احياناً- ولكن تبقى في عالمها الخاص البعيد عن واقع الناس.
فاذا ما ارادت الشريحة المثقفة والمتعلمة ايجاد المصاديق العملية لافكارها وطروحاتها وتحقق لها النجاح الملموس على ارض الواقع، ما عليها إلا أن تفتح جسور العلاقة مع مختلف أطياف المجتمع، من الطفل الصغير الى الشاب والكاسب والمرأة والأمّي والمزارع والعامل والفقير وحتى المعدم وسكنة العشوائيات وغيرهم، عندئذ يمكن القول بقرب صناعة مجتمعٍ واعٍ قادر على صنع الحدث والمصير وصياغة مستقبله بيده، بعيداً عن التدخلات الخارجية، كما هو طموح سماحة الامام الشيرازي – قدس سره-.