عالجوا أرواحكم بالقيم الفاضلة
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2016-09-11 09:43
كما يمرض الجسد، تمرض الروح، علاج الأول بالدواء المادي الملموس (شراب، حبوب، زرق ابر، مرهم....الخ) حسبما يصف الطبيب المعالِج، أما علاج الروح فهو ليس علاجا ماديا ملموسا أو مرئيا، وإنما هو علاج يُدرَك بالعقل، ويُعرَف بالتدريب والمران والاكتساب، وهو يُزرع في تربة الروح والعقل، كما تُزرع البذرة في التربة، فتنمو وتكبر وتعطي لزارعها ثمارها يستفيد منها، كما يستفيد الجسد من الدواء.
المشاعر على اختلافها، كالرضا والغضب والحب والكراهية وكل أنواع المشاعر، مصدرها الروح، فإذا كانت الروح تتحلى بالشجاعة فصاحبها شجاع، وإذا كانت كريمة يتحلى حاملها بالكرم، وهكذا بالنسبة لجميع المشاعر الأخرى، أما الجسد فإن الأمراض التي تطوله معروفة، فقد يمرض أحد الأعضاء ويحتاج الى جراحة وما شابه، هنا يكون العلاج مادي ملموس.
إذاً لكل من الروح والجسد انحراف في مجال ما، كما نلاحظ ذلك في كتاب الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الموسوم بـ (الفضيلة الإسلامية)، حين يقول: (الإنسان له روح وله بدن، والأول مصدر العلم والفضيلة، والرضا والغضب، والحزن والسرور، والجبن والشجاعة، والسخاء والبخل... وما إليها.. والثاني مصدر الإدراك والذوق، والسمع والبصر، والشباب والهرم، والصحة والسقم وما إليها.. ولكل من هذين استقامة وانحراف: فانحراف الجسد: المرض، واستقامته: العافية، وانحراف الروح: البخل والجبن... وما إليها، واستقامته: الكرم والشجاعة.. وما إليها).
فالاثنان الروح والجسد يحتاجان الى العلاج، كما يحتاجان الى الوقود، فالجسد كما هو معروف لا يتحرك ولا ينتج في أي مجال إذا لم نمدّه بالطعام والشراب كلما احتاج إليهما، وكذا الأمر بالنسبة للروح، لابد أن ندها بالوقود المناسب وهي حزمة من القيم التي لا يمكن للروح أن تتخلى عنها، كالفضيلة والعدل والعلم وما شابه.
حول هذا الجانب يقول الإمام الشيرازي: (وكما أنّ بدن الإنسان لا يقوم إلا بالوقود، من أكل وشرب وهواء وضوء.. كذلك روح الإنسان لا تقوم، إلا بعلم وعدل، ومروءة وفضيلة.. وكما أنّ المريض يحتاج إلى الطبيب الجسماني وإلا هلك.. كذلك المريض النفسي يحتاج إلى الطبيب الروحاني، وإلا هلك. و(الأخلاق) إنّما وضعت لإصلاح الروح، كما إن (الطب) إنما وضع لإصلاح الجسم. فعلينا إذاً أن نزوّد أنفسنا بالوقود الخلقي، كما نزوّد أجسامنا بالوقود البدني. وعلينا أن نعالج أرواحنا المريضة، كما علينا أن نعالج أجسامنا المريضة).
الفضيلة ميزان الروح
الزيادة كالنقصان، وكما يُقال (كل شيء يزيد عن حده ينقلب ضده).. أي أن الزيادة في تناول الطعام مثلا تؤدي الى التخمة، وقد تؤدي الى أمراض لا يُستهان بها، كما أن الجوع يصيب الجسد بالهزال والضعف، الروح كذلك ينبغي أن تتوازن، فالشجاعة وهي تنتمي الى الروح، اذا زادت عن الحد المطلوب تتحول الى تهور، وهذا يقود الإنسان الى الهلاك، وكذا بالنسبة للخوف، إذ لا يصح أن يزيد على الحد المطلوب لأنه سوف يتحول الى جبن، والأخير يلحق بالإنسان خسائر كبيرة لفرص كثيرة لم يستغلها بسبب جبنه.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (الروح ليس بدعاً من الأمور، فلها ميزان خاص وقسطاس مستقيم، إن تعدّاه الشخص أوجب ذلك اختلالاً في توازنه، وخذ مثلاً: يحتاج الشخص إلى قدر من الشجاعة لمواجهة مصاعب الدهر ومتاعبه وتأمين حياته قبال الكوارث، فإن زادت الشجاعة إلى القدر المعين كان ذلك (تهوّراً) يوجب اقتحام المهالك ـ بلا جدوى ـ وإن نقصت عن القدر المعين كان (جبناً) يوجب الفرار عن المشاكل وفيه من المهانة والذلّة والهلاك ـ أحيانا).
وهكذا يتضح أن الإنسان يحتاج الى ميزان، يجعله يعرف ويختار الحل المتوازن، أو النقطة التي تتوسط الطرفين، فلا إسراف ولا تقتير، وكما أن الجسد يحتاج الى التوازن في الطعام والشراب والحركة وما الى ذلك، فإن الروح أيضا تحتاج الى الوسطية، بعيدا عن المغالاة أو التبجح والتعالي، فكل شيء يخرج عن حدوده يهدد الروح ويصيبها بالسوء، كما هو الحال مع التكبر الذي يصيب الإنسان بتضخّم الذات.
فمثل هذا الإنسان يكون مكروها يتحاشاه الناس ولا يتعاونون معه، وإذا كان ذا سلطة أو جاه فإن الناس قد تتعامل معه وتقترب منه خوفا أو حرصا على مصلحة معينة، ما أن تزول فيزول معها تأييد الإنسان للمتكبر والمتعالي الذي يؤكد علماء النفس بأنه مريض نفسيا، أي أن روحه مصابة بمرض التعالي على الناس، الوسطية هي الحل.
يقول الإمام الشيرازي: (إنّ المتهوّر يلقي بنفسه في الهلكة، والجبان يجبن عن مواجهة فأرة. إذاً فالفضيلة هي القدر المعين من الشجاعة. وهكذا قل: بالنسبة إلى الجود، والغيرة، والحب.. وأمثال ذلك، ومن هذا نستنتج إنّ الفضيلة هي الحد الوسط بين الزيادة والنقصان وهذان هما الرذيلة. وربما يكون قول نبي الأخلاق (ص): (خير الأمور أوسطها) إشارة إلى هذا).
تحصيل القيم الرصينة بالتمرين
إذاً يحتاج الإنسان الى الفضيلة، الى الأخلاق، حتى تستقر الروح وتكون متوازنة، فينعكس ذلك على الجسد، ويكون سلوك الإنسان متوازنا، وحتى لا يُحرَم الإنسان من تجارب روحية مهمة، ينبغي أن لا يبقى على حال واحدة، فالغني مثلا، ربما يجرب الترف بأنواعه، وقد يُحرم من تجربة السيطرة على النفس، والجبان سوف يُحرم من تجريب الشجاعة، وهكذا بالنسبة للطبائع الأخرى، كالبخل والكرم وما ينعكس منهما على سلوك الإنسان، هذا الأمر يستدعي من الإنسان أن يتوازن روحيا وجسديا من خلال الفضيلة والأخلاق.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (المترف الذي لا يزال يدور في ترفه، محروم عن لذة السيطرة على النفس. والجبان الذي يجبن حتى عن خياله، محروم عما للشجاعة من فضيلة وثناء. والبخيل الذي لا يعطي لفقير درهماً، محروم من آثار الجود وفوائد السخاء).
قد يطرح أحدهم هذا التساؤل، كيف يمكننا الحصول على الفضيلة، هل هي مخلوقة مع الإنسان في تكوينه الروحي والجسدي؟، أم أن هناك سبل وطرق أخرى يمكن من خلالها الوصول الى الفضيلة؟، قد يُفاجأ البعض إذا قيل له يجب عليك أن تتمرن لكي تحصل على ضالتك، فمثلما يتدرب الرياضي الربّاع أو حامل الحديد على حمل الأثقال وزيادتها بالتدريج حتى يصل الى رفع اكبر مقدار منها، وهي حالة تتعلق بالجسد، فإن الفضيلة أيضا تحتاج أن نكسبها بالتدريج من خلال التمرين المتواصل وإن كانت تنتمي الى الروح.
ولا يمكن أن نكون من أصحاب الفضيلة لمجرد أننا نتمنى أن نكون كذلك، فالأماني لا تمنح صاحبها قدرة على الفضيلة، ولا كسبا مضمونا للأخلاق الرفيعة، إنما يتحقق ذلك عندما يمضي الإنسان قُدُما في تدريب نفسه لتحصيل هذه الأهداف، التي لا يمكن الفوز بها ما لم يكن الانسان صبورا مكافحا متبصّرا ومصمما على تحقيق الهدف الأسمى، ألا وهو معالجة النفس بتحصيل الأخلاق الفاضلة بالمران المستدام.
الإمام الشيرازي يؤكد هذا المنهج عندما يقول: (إن من تمرن على رفع عشرين كيلواً، ازداد قوة حتى يتمكن من رفع ثلاثين وهكذا. وليست الفضيلة مما تلقي على الإنسان بمجرد التمني وإلا لأصبح كل فرد فاضلاً يقول الله: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به./ سورة النساء: آية 123)، بل إنما تحتاج إلى تبصر في الأمور، واكتساب دائم ودؤوب في التحصيل).