عاشوراء ودروس رفض التطبيع مع الدكتاتور

د. لطيف القصاب

2025-07-05 01:18

مما يُنقل عن المهاتما غاندي أن التضحية هي الروح التي تدبّ في هيكل الدين، وبهذا الاعتبار فلا دين من دونما تضحية. والتضحية التي جادت بتقديمها ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء تُعدُّ نموذجًا تاريخيًا لـرفض التطبيع مع الدكتاتورية والفساد، والقبول بالحكم الجائر، والحاكم الجائر لا لشيء إلا لأنهما أمران واقعان. وهذا الرفض المؤسس على تضحية جسيمة يمثل في حد ذاته درجة متقدمة في سلم الوعي، هذا الوعي الذي غاب عن مشاهد الحياة السياسية الإسلامية طوال الحقبة المظلمة التي أحكم فيها معاوية بن أبي سفيان على الجغرافية التي كانت تدين سابقًا بالولاء للإمام علي (عليه السلام). 

وبهذا الرفض استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) تحويل الدين إلى حركة وعي ثوري لمناهضة الطغيان، فالدين ليس طاعة لأهل الظلم بل هو مقاومة لهم، ومبدئيًا لن يكون الدين دينًا ما لم يكن كذلك، على أن هذا المبدأ الذي يسري في تصوراتنا الحالية بوصفه مسلمة إسلامية لم يكن له وجود حتى في صفوف كثير من النخب الإسلامية التي عاصرت نهضة الحسين (عليه السلام)، ليس في نطاق عِلية القوم فحسب، بل في نطاق جزء من أهل بيته (عليهم السلام)، وهم الذين حاولوا بإصرار على ثنيه (عليه السلام) عن إرادة التصدي للطاغوت رغبة منهم في الحفاظ على حياته، وإذا عزّ ذلك المراد فليستبق عياله أي (النساء والأطفال)، فيكون الرد منه (عليه السلام): "إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدي..."، وذكره للفظة (جدي) على وجه التحديد هي الغاية في ردّ الحجج الصادرة من أهله بيته بمراعاة ما توحيه هذه اللفظة من سياق عاطفي.

إن موالاة الطغاة الظلمة يمثّل تعطيلًا لرسالة الإسلام، حتى لو رفع هؤلاء الطغاة رايات الإسلام اسميًا وصوريًا. وإن الحرية عند الحسين (عليه السلام) هي حق أصيل لا يقبل المساومة، ويستوي في الإحساس بها المؤمنون والكافرون على السواء شريطة أن يكونوا أحرارًا، وذلك مصداق قوله (عليه السلام) مخاطبًا جموع العدو: ((إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارًا في دنياكم)). إن وعيًا بمفهوم العبودية والحرية لم يكن حاضرًا في الوجدان العام للمسلمين آنذاك جراء القمع الذي مورس ضدهم طوال عقود، بل لم يكن مضمون الثورة الساعية لإسقاط مستعبدي الرعية أكثر من (تنافس سياسي)، ولذلك شاعت بينهم مقولة: (ما لنا والدخول بين السلاطين).

لم يكن رفض الإمام الحسين (عليه السلام) البيعة إذن تعبيرًا عن رد فعل مزاجي يتعلق بمصلحة خاصة ضائعة، أو ضغينة شخصية تجاه يزيد مثلًا، بل لما يمثله هذا الطاغية من (نموذج) منحرف عن قيم العدالة، والحرية، واحترام حقوق الإنسان. فكانت قولته "مثلي لا يبايع مثله" إيذانًا بانطلاق أولى معارك حرب الحرية والتحرير من ربقة الاستعباد والإذلال. لقد رأى الحسين ببصيرته الفذة أن السكوت عن الظلم يُحوّل الأمة إلى قطيع خانع ذليل، وهو المشهد البائس الذي كان عليه معظم الناس آنذاك، ولم تدر في مخيلتهم بشاعة صورته، بل أبى معظمهم الإقرار بوجوده أصلًا، مخدوعين بوعيهم المتخلف حتى أبصروه صاغرين مهطعين بعد حين مع أحداث التنكيل التي بلغت ذروتها في وقعة الحرة، وذلك حين أخذ الإرهابي (مسلم بن عقبة) البيعة من أهل المدينة على أنهم عبيد ليزيد... وعبيد للعصا!

لقد كانت شهادة الحسين (عليه السلام) محاولة نجحت إلى حد بعيد في إيقاظ الضمير الجمعي للناس، وقد تبدّت هذه اليقظة بسيل الثورات المناهضة للطغيان التي تلت شهادته بفترة وجيزة.

إن فلسفة الإمام الحسين (عليه السلام) في مقارعة الطغاة، والإنكار عليهم، أو منع التطبيع معهم بلغتنا المعاصرة تنبع من رؤى توحيدية وأخلاقية، وقد تجلّت هذه الفلسفة في خطبه، ومواقفه المعلنة التي ما تزال شاخصة للآن في وجدان فريق من الناس بفضل قوة الاستذكار، وحضوره المستدام على الرغم من مشاريع المحو والطمس قديمًا وحديثًا، ولعلنا لا نغالي حين نقول إن الاستذكار بصرف النظر عن بعض ملابساته السلبية لا يقلّ في كثير من ملامحه ومظاهره عن عظمة الذكرى ذاتها.

لقد كان في وسع الحسين بإجماع المؤرخين مبايعة يزيد، وهو في المدينة المنورة، أو في مكة المكرمة، أو في صحراء كربلاء حين وجد نفسه محاصرًا من أربع جهات! لكنه اختار بوعي راشد، ونفس مطمئنة أن يبرز إلى معسكر العدو فردًا حاسرًا، جاعلًا صحبه وأهل بيته في حلّ من أي التزام تجاهه، فقال مخاطبًا إياهم: ((ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا، وتفرّقوا في سواده فإن القوم إنما يطلبوني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري))، لكنهم أي صحبه وأهل بيته لم يفعلوا، ولو فعلوا لنجوا من القتل، ولتوقفت أعمارهم حال موتهم أو بعدها بأمد قليل، ولم تستمر حياتهم خالدة أبد الدهر بوصفها وحيًا يلقي في عقول المريدين وقلوبهم دروس الإباء والحرية والكرامة.

ذات صلة

التربية الحسينية وبناء الشخصيةعاشوراء ثورة سلميةالمرأة كفاعل قانوني في ثورة عاشوراء: زينب بنت علي (عليها السلام) نموذجًاالوعي الحسيني: طاقة متجددة للمطالبة بالإصلاح ومحاربة الفسادسيدة الجنوب الاولى ومحراب الحسين: دموع لا تموت..