المرأة كفاعل قانوني في ثورة عاشوراء: زينب بنت علي (عليها السلام) نموذجًا

د. جمانة جاسم الاسدي

2025-07-05 01:17

عادةً ما تُصوَّر المرأة في الثورات التاريخية بوصفها عنصرًا هامشيًا أو داعمًا، ولكن ثورة كربلاء قدّمت نموذجًا مغايرًا، حيث برزت السيدة زينب (عليها السلام) كفاعل قانوني وأخلاقي وسياسي، تجاوز الدور التقليدي للمرأة، لتتبوأ موقعًا رياديًا في فضح السلطة، ومساءلة الحكم، والدفاع عن القيم الدستورية الإسلامية. ففي لحظة انهيار الدولة الأخلاقية، وسقوط النظام الحاكم في مستنقع الظلم والدم، لم تكن زينب مجرد "شاهدة على المجزرة"، بل كانت "مرافعةً ناطقة باسم الضمير الإسلامي"، و"مؤسسة للخطاب الثوري"، الذي رسم بوضوح حدود الحاكمية والشرعية وحرية التعبير في الإسلام.

قدّمت السيدة زينب (عليها السلام) نموذجًا متكاملًا لما يمكن تسميته اليوم بـ"الخطاب القانوني المقاوم"، حيث جمعت بين البيان السياسي والمرافعة الأخلاقية، مستندة إلى أحقيتها كمواطنة وكأخت لإمام معصوم مظلوم. ومن ذلك خطبتها في الكوفة، حين قالت: "يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر… أتبكون؟! فلا رَقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة… إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا…". لقد قامت زينب (عليها السلام) في هذا الخطاب بمحاكمة شعبية وجماعية، تضع فيها الأمة أمام مسؤوليتها القانونية والدينية، مستخدمة القرآن في بناء الحُجة، ومبدأ المحاسبة كمرتكز لمخاطبة الرأي العام، وهذا أحد أركان الخطاب الحقوقي الحديث: مخاطبة الجمهور من موقع الضحية الناقد للسلطة.

وفي قصر ابن زياد، حين سألها بشماتة: "كيف رأيتِ صنع الله بأخيك؟"، أجابت بقوة المؤمن الواثق بعدالة قضيته: "ما رأيتُ إلا جميلًا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم…". لم تكن إجابتها مجرد موقف صبر، بل تأسيس لشرعية المقاومة في مواجهة من يحاول تجريمها.

كرّست زينب (عليها السلام) من خلال مواقفها مبدأ "حرية التعبير المسؤول"، وهو ما يُعدّ من أسمى الحقوق في النظم القانونية المعاصرة. وقد عبّرت عن ذلك في مجلس يزيد، حيث وقفت أمام الطاغية بكل إباء، وقالت له: "أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟!". في هذا الموقف، وضعت زينب (عليها السلام) يدها على جوهر انحراف السلطة: الاستبداد، وسلب الكرامة، وتسييس الدين. كما أنها استخدمت موقعها الاجتماعي والديني لتذكّر الخليفة غير الشرعي بأنه "ابن الطلقاء"، وهي عبارة قرآنية وتاريخية تشير إلى عدم مشروعيته في تمثيل الأمة. وقد قال الله تعالى: ﴿الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشى أحدًا إلا الله﴾ (الأحزاب: 39)، وهذا ما جسدته زينب (عليها السلام)، إذ كانت ناطقة بالحق، لا تخشى سلطانًا، ولا ترهب من ظلم الحاكم.

لم يكن دور السيدة زينب (عليها السلام) دفاعًا عن العائلة فحسب، بل عن الأمة وقيمها المهددة، وهي لم تمارس الفعل السياسي بعقلية رد الفعل، بل بالرؤية الواضحة لموقعها في حركة الإصلاح الإسلامي. فبعد انتهاء المعركة، أدّت زينب الدور الأخطر: حماية النساء، حفظ الرواية، تثبيت المظلومية، وقيادة القافلة إعلاميًا وروحيًا.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وقد طبقت زينب (عليها السلام) هذا الحديث بكل مراحله: شاركت، وتكلّمت، وواجهت، وفضحت، ودوّنت المظلومية التي كانت ستُدفن لولا صوتها، فهي لم تكن تابعة، بل مُبصرة، ذات وعي فقهي وسياسي رسالي، تُمارس الحق وتنتزعه، لا تنتظره.

إن خط زينب (عليها السلام) يمثّل تيارًا عميقًا في الفقه الإسلامي، يمكن تسميته بفقه الاحتساب المقاوم، الذي يرى أن المرأة ليست فقط كيانًا محكومًا، بل قادرة على المرافعة، والبيان، والاعتراض، بل حتى إسقاط الشرعية الرمزية للنظام الحاكم. وقد كانت خطبها في الكوفة والشام دروسًا في كيفية تحويل الحدث المأساوي إلى قضية قانونية وأخلاقية تفضح المستبد وتُحرج صمت الناس، فقد نقلت المعركة من أرض الطف إلى أروقة العروش، وحوّلت المأساة إلى خطاب عالمي، لا زال يدوّي إلى اليوم.

قال تعالى جل وعلا: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار﴾ (هود: 113)، وكانت زينب (عليها السلام) في خطابها إعلانًا صارخًا لعدم الركون، وعدم الصمت، وعدم الاستسلام.

ختامًا، تُجسّد السيدة زينب (عليها السلام) في ثورة الحسين (عليه السلام) المبدأ الإسلامي القائل إن المرأة ليست عنصرًا صامتًا في المجتمع، بل شريكة في صناعة الوعي ومواجهة الظلم. وقد برهنت أن الصوت النسوي، حين يتصل بالحق، يمكنه أن يهزم الطغيان ويُخلده التاريخ. إن حضورها لم يكن طارئًا، بل ضرورة في معادلة الثورة، حيث توزّعت أدوار النهضة بين السيف والكلمة، بين الشهادة والرواية، بين الدم والصوت. وهكذا علمتنا زينب (عليها السلام) أن المقاومة ليست حكرًا على من يحمل السلاح، بل تشمل من يحمل الكلمة، ويذود عن الحق، ويواجه السلطان الجائر بكلمة صدق.

د. جمانة جاسم الأسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية بجامعة كربلاء.

ذات صلة

التربية الحسينية وبناء الشخصيةعاشوراء ثورة سلميةعاشوراء ودروس رفض التطبيع مع الدكتاتورالوعي الحسيني: طاقة متجددة للمطالبة بالإصلاح ومحاربة الفسادسيدة الجنوب الاولى ومحراب الحسين: دموع لا تموت..