الرشد الفكري وديمومة التنمية العقلية
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2025-12-15 03:46
(الرشد الفكري من أهم المقدّمات التي توصل الإنسان إلى النجاح)
الإمام الشيرازي
الرشد يعني الاهتداء، والأخير هو البوصلة التي تقود الإنسان نحو النجاح، والرشد هنا يشمل مجالات الحياة كافة، منها على سبيل المثال بلوغ الإنسان محطة الرشد الفكري، بمعنى إنه لا يظلّ فكريا، كونه اهتدى إلى ما هو سديد وصحيح وصالح، ولكن كيف يبلغ الإنسان مرحلة الرشد، هذا في الحقيقة يتطلب سعيا وعملا سديدا يحافظ على شرط النمو العقلي بشكل متصاعد ومستمر.
بمعنى لا يقف العقل عند نقطة معينة، ولا يبقى يراوح في مكانه، وإنما يواصل النمو من خلال التنمية في المجالات التي يخوض فيها، فإذا كان مهندسا عليه أن ينمّي قدراته الهندسية، وإذا كان تدريسيا مطلوب أن يواظب على تنمية العقل في الحقول العلمية المتخصص فيها وهكذا بالنسبة للحقول الأخرى، فالرشد الفكري يتطلب تنمية عقلية ذات ديمومة غير قابلة للسكون أو التوقّف ولا التراجع.
الرشد ببساطة يعني النجاح، ولا يمكن تحقيق التميّز والتفوق والنجاح إذا فقد الإنسان خصيصة الرشد، لأن عقله في هذه الحالة يتعرض إلى الجمود وبالتالي فقدان التنمية العقلية وديمومتها، ومن ثم فقدان فرصة الاهتداء والميل إلى النقيض وهو الغيّ، الذي يرمي بالإنسان في متاهة الجهل، ومن ثم فقدان فرصة النجاح التي لا يحصل عليها البشر إلا عبر التنمية العقلية التي تأخذ بيد الإنسان نحو فضاءات الفوز دائما.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (القطوف الدانية/ الجزء الرابع):
(من أهم المقدمات الموصلة إلى النجاح هو الرشد الفكري وقد جاء الرشدـ في بعض معانيه بمعنى: الاهتداء إلى المطلوب وهو مقابل الغيّ حيث يقول اللّه سبحانه وتعالى: {قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ} ).
شتّان بين الرشد الجسدي والفكري
وهناك نوعان من الرشد، حيث يوجد رشد جسدي وهو الذي يمنح الإنسان درجة الرشد جسديا، أي أنه يصبح إنسانا راشدا، وهذا ما اتفق عليه الناس منذ أزمنة بعيدة، ويمكن أن تصح هذه التسمية علميا، أي أنها لا تخضع لعادات الناس وثقافتهم، وإنما يسمى الإنسان بالراشد عندما يصل مرحلة عمرية معروفة ومتفَّق عليها وهذا هو الرشد المادي للإنسان.
ولكن في نفس الوقت هنالك النوع الثاني من الرشد، وهو رشد عقلي وفكري يتعلق باستعداد الإنسان وسعيه الدؤوب نحو تنمية عقليه، واستمراره في الاطلاع والبحث العلمي الذي يمنحه رشدا فكريا يجعله فاهما وقادرا على التفكير الصحيح كي يصل إلى النتائج التي تصب في صالحه، بمعنى إن الرشد الفكري يسهم بطريقة وأخرى في تطوير حياة الناس.
لذا يوضّح الإمام الشيرازي هذه النقطة بالطريقة التالية:
(عندما نقول الإنسان الراشد أو الرشيد فقد نعني به مرة الرشد الجسدي: بمعنى أن هذا الإنسان ترك وراءه مرحلة الطفولة ووضع القدم في مرحلة الشباب. ومرة نعني به الرشد العقلي والفكري: الدال على مستوى الفهم والتفكير الموصل إلى النتائج الحسنة وهذا هو الذي يدور الكلام).
ومما هو متعارف عليه أن جميع الناس وهبهم الله تعالى عقولا، بمعنى هم في هذه الحالة متساوون عقليا، أو أن كل إنسان حصل على عقل بالولادة، وهذا الأمر لا يخضع للإنسان إنما هو هبة ربانية، ولم يختر الإنسان أن يكون عاقلا، بل العقل موجود في جسده تكوينيا مع لحظة الخلق، ولكن هذا العقل قد يختلف في قدراته المكتسبة بين إنسان وآخر.
فليس كل الناس يستثمرون عقولهم بالشكل الصحيح، فهناك من يهمل عقله ولا يعبأ بالتنمية العقلية، لذلك هناك من يمتلك العقل لكنه يفتقد للرشد الفكري، لأنه يعجز عن تنمية عقله ولم يهتم به كما يجب، ولم يهتدِ إلى السبل والوسائل التي تجعل منه مستثمرا لعقله بالشكل الصحيح، وهو بهذا السلوك واللامبالاة يخسر فرصة أن يكون إنسانا راشدا فكريا.
يقول الإمام الشيرازي:
(الناس من حيث العقل متساوون؛ لأن العقل من المواهب الإلهية فهو أمر تكويني خلقه اللّه سبحانه وأودعه في كل إنسان وليس باختيار الإنسان أن يكون عاقلاً بمعنى يمتلك عقلا أو ليس بعاقل أي يكون فاقداً له).
إذَا نفهم مما تقدم بأن الله تعالى أعطى لكل إنسان عقلا يسترشد به، ولكن هنالك شرط يفعّل هذا الاسترشاد وهو أن يقوم الإنسان نفسه بتنمية عقله وتطويره والبلوغ به إلى مرحلة الرشد التي تقترن بالديمومة حتى يضمن الإنسان دوام التطور والتقدم والتميّز في المجالات التي ينشط ويخوض فيها، وفي حال حدوث تلكّؤ في هذا المجال أو ذاك فهذا يعني خسارة الإنسان للمزايا الهائلة التي يوفرها العقل لصاحبه، وأهمها الاهتداء إلى الرشاد الذي يقوده إلى النجاح والصلاح دائما.
استثمار العقل كما يجب
نعود لنقول إن الناس جميعا متساوون في فرصة الحصول على العقل، ولكنهم ليسوا جميعا يقومون بتنمية عقولهم، وإنما يوجد تباين في هذا الجانب، فالإنسان لا يمكنه اختيار عقله، لكنه يمكن أن يختار تجويد العقل وتوظيفه لصالحه وهذا أمر اختياريّ، أي قد يختار الإنسان استثمار العقل بشكل جيد وقد يهمل ذلك فالعملية هنا اختيارية تعود للشخص نفسه.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي قائلا:
(إن وجود العقل وعدمه في الإنسان ليس اختيارياً، بل عندما خلق اللّه سبحانه الإنسان خلقه عاقلاً؛ ولهذا فإن الناس متساوون من جهة العقل، ولكن إعمال العقل وتنمية القدرات العقلية من مميزات الناس وهذا الشيء راجع إلى اختيارهم).
ويضيف الإمام الشيرازي رحمه الله:
(بعض الناس ينمون مواهبهم فيصبحوا علماء وقادة بينما البعض الآخر مع امتلاكهم العقل لا ينمون تلك العقول فيبقون طوال حياتهم ملازمين للجهل والخرافة).
وهناك ميزة عقلية مهمة وكبيرة وتعود على الإنسان بفوائد جمّة، وهي تتعلق بالكما والنقص، وهذه قضية يتصدى لها العقل، أي أن عقل الإنسان يكون قادرا على المعرفة والتمييز بين اباطل ونقيضه، وبين الهدى ونقيضه، وبين الكمال ونقيضه، إنه يعرف هذه المسميات المتناقضة جيدا، ويمكنه أن يفرق بينها بشكل تام.
بمعنى يمكن للإنسان أن يختار الهداية والاستقامة والصواب، ويمكنه أن يختار النقيض الذي يمكن أن نسميه بالانحراف، والاعوجاج، والخطيئة، فهنالك عقول تعرف إن الهداية أفضل من الضلال، وتعرف أيضا بأن الاستقامة في الفكر والتصرف أفضل من المسالك العوجاء، ومع ذلك قد تختار العقول ما هو أسوأ لها، يحدث هذا حين يهمل الإنسان التنمية العقلية بشكل مستمر، فتكون النتيجة فقدان الرشد بكل أنواعه ومنه الرشد الفكري الذي يمكن أن يمنح الإنسان تفوقا وتميّزا على الآخرين، من خلال تحقيق النجاح الدائم.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(إن العقل له القدرة والاستطاعة على تمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال والنقص من الكمال. وترك له الخيار في سلوك الطريق الذي يشاء منهما. وبالتالي للعقل دور كبير في سعادة الإنسان أو شقائه).
وأخيرا لابد أن يكون الإنسان مدركا لأهمية استثمار عقله بالصورة الصحيحة، حتى يكون قادرا على الرشد الذي يعني فيما يعنيه الاهتداء إلى سواء السبيل، فما فائدة امتلاك الإنسان للعقل تكوينيا، ولا يستثمره ولا يهتم به لكي ينقذه من دروب الضلال التي تعجّ بها الدنيا، ولابد أن يدرك بنو الإنسان بأن إهمالهم لعقولهم يعني بالنتيجة سقوط وتراجع وفشل وانحراف، وفقدان مؤكَّد وحتمي للتميّز والنجاح.