محورية الإنسان في البناء الحضاري عند الإمام الشيرازي

باسم حسين الزيدي

2025-09-21 03:29

أخطر ما يمكن ان يواجه المجتمعات الانسانية بصورة عامة، والاسلامية بصورة خاصة، في الوقت الراهن، هو الاحتكام الى المادية وجعلها المرجعية الاساسية في التعاملات البشرية، ومن دون ان يدرك الانسان ان ضياع هويته واستلاب فطرته سيحوله الى مجرد عتلة صغيرة في آلة المادية الضخمة التي تبتلع في طريقها كل القيم والضوابط والمشاعر والحريات والحقوق الانسانية. 

اذ يعيش الإنسان حالة من التشتت بين المبدأ والواقع، بين الطموح والتطبيق، ومع ذلك، ووفق المنظور الاسلامي، لا يمكن ان تبنى حضارة أصيلة إلا إذا كان الإنسان هو الأساس، الركن الذي عليه تدور الدوائر، والمقوم الذي يقيم باقي العناصر: الفكر، المؤسسات، القيم، والتاريخ.

المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، من الذين جعلوا الإنسان جوهر مشروعه الحضاري، مؤمنا أن أي بناء بدون الإنسان لا يكون إلا بيتا من رمال، او كنسيج العنكبوت سرعان ما يزول، ففكره يعنى بالفرد والمجتمع، بالتربية والحرية، بالمسؤولية والتغيير.

مفهوم الإنسان عند الإمام الشيرازي

يرى الإمام الشيرازي أن للإنسان تكريم ثابت في خلقه، وهو تكريم ليس مكتسب من بيئة أو سلطة، بل من خالقه الذي كرمه على سائر المخلوقات، ومن دينه الذي ميزه بالحقوق وحفظ كرامته، هذه الكرامة تلزم كل نظام وأي بناء حضاري أن يبدأ بها، ويحفظها، فالدين الإسلامي اسس الاطار العام الذي يقوم على حماية الإنسان والرفع من شأنه، ورعايته ضد الاستباحة او الانتهاك.

بالمقابل يشير الامام الشيرازي إلى حتميه سقوط الفكر الغربي وهزيمته كنتيجة طبيعية أمام عدم فهمهم الإنسان كهوية إنسانية كرمها الله، ومعنى ذلك أن أي منظومة إنسانية أو ثقافية تجاهلت الإنسان في جوهره –مع ما يلزمه من حرية وكرامة ومبدأ الاختيار– فهي حتما معرضة للانهيار أو الاستلاب.

كما يرى الإنسان ليس مجرد كائن مستهلك من سائر القوى –سياسية أو اقتصادية أو ثقافية– بل هو فاعل مستقل ومسؤول، له دور محوري في البناء والتغيير، فهو مبادر وليس مستعبد، له إرادة، وضمير، وقدرة على التمييز بين الحق والباطل.

لقد انطلق من مفهوم أن الرسالة الإسلامية والمبادئ التي تدعو إليها ليست وليدة لمؤثرات خارجية بل إنها نابعة من سعي الإنسان وتبنيه لهذا الارتقاء أو التغيير.

الشيرازي (رحمه الله) لا يفصل بين الإنسان كفرد والإنسان كجزء من مجتمع، الفرد في رؤيته ليس منعزلا، وإنما هو جزء من كيان أكبر، المسؤولية الفردية تتجاوز الذات لتشمل الأسرة، المجتمع، الأمة، والتغيير يبدأ من الفرد، لكنه لا يقف عنده، كما يرى أن منهج الإسلام هو المنهج الذي يشكل الإنسان الصالح والمجتمع الصالح، بمعنى الكمال الذي يحقق التكامل بين الجسد والروح، الدنيا والآخرة، المبدأ والممارسة.

ولكي يكون الإنسان محورا فعالا في البناء الحضاري، لا بد من توفر عدة مقومات أساسية أبرزها:

1. التربية الصحيحة: التربية ليست مجرد تلقين معلومات، التربية الصحيحة تعني بناء الشخصية المتوازنة روحياً وفكرياً وأخلاقياً، أن يتعلم الإنسان كيف يفكر ويختار ويتصرف ويصبر ويعمل، ولا يتم ذلك الا من خلال المنهاج التربوي الإسلامي باعتباره عنصرا حاسما لتغيير الواقع وبناء جيل من الشباب الصالح. 

2. المعرفة والفكر النقدي: إن الإنسان الذي لا يعرف نفسه، مبادئ دينه، تاريخ امته، لا يستطيع أن يبني، فالمعرفة شرط للبناء الحضاري، الفكر النقدي يمكنه من التمييز، وإصلاح ذاته، وتقديم حلول واقعية لا تذروه الرياح، ويشير الامام الشيرازي إلى ضرورة أن لا يستورد الفكر الأجنبي الجاهز "كالتحرر لجميع المجتمعات" دون نقد أو فلترة، بل يقرأ ويتناقش ويكيف وفق الواقع الإسلامي والمجتمعي.

3. الحرية: ليست الحرية المطلقة التي تؤدي للفوضى، بل حرية مسؤولة تمكنه من اتخاذ القرار، وتحمل تبعاته، والتمسك بالمبدأ، ورفض الاستبداد، السلطوية، والتبعية الثقافية والسياسية التي تمس بحرية الإنسان.

4. المبادئ والقيم: قيم مثل العدل، الكرامة، الصدق، الشجاعة، التضحية، فالإنسان الفعال حضاريا لا يعيش بلا قاعدة او قيم أخلاقية، هذه المبادئ ليست ترفاً فكرياً او اخلاقياً وانما من ثوابت الشريعة ومراتب تكامل الانسان.

5. العمل والممارسة: الفكر وحده لا يكفي، حتى التربية لا تكتمل إلا بالممارسة، لذ لا بد أن يكون الإنسان عاملا مجداً وخلصاً في مجاله، واذا انطلق هذا التغيير من نفسه وبيته الى محيطه، سيكون حينها البناء الحضاري متجسداً في المؤسسات والعادات اليومية والأعمال الملموسة.

التحديات التي تواجه الإنسان

الإنسان لا يبني الحضارة من فراغ، بل يواجه الكثير من العراقيل والعقبات الداخلية والخارجية، منها النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها، وقد اشار السيد الشيرازي الى جملة من هذه التحديات التي تقف في وجه الإنسان وتمنعه من القيام بدوره:

1. الجهل وضعف الوعي الثقافي: الجهل أحد أخطر أمراض الأمة، إذ يعطل التفكير النقدي، ويحول الإنسان إلى تابع أعمى، أن المجتمع الجاهل لا يمكن أن يتقدم خطوة واحدة، لأن الجهل يقتل روح الإبداع ويغلق أبواب الإصلاح، فالعلم والمعرفة شرط أساسي في أي مشروع حضاري، والجهل يفتح باب الاستبداد والفساد.

2. الاستبداد والسلطوية: من أبرز ما شدد عليه الشيرازي هو خطورة الاستبداد على الإنسان، إذ يرى أن الاستبداد يحول الإنسان من فاعل إلى مستعبد، ويقتل روح المبادرة في داخله، لذلك فهو يرى الاستبداد العدو الأكبر للإنسان، وهو سبب تأخر الأمم وانحطاطها، لأنه يلغي شخصية الفرد ويجعله بلا رأي ولا إرادة، ومن هنا يصر على أن أي بناء حضاري يحتاج إلى حرية سياسية، ومشاركة شعبية، وضمان حقوق الإنسان.

3. الاستلاب الثقافي: الإنسان المسلم يعيش اليوم أمام سيل من الثقافات الوافدة، التي تغريه بظاهرها وتفرغه من مضمونه، فالتقليد الأعمى للغرب دون تمحيص أو نقد يعني ضياع الهوية، ويعتبر الأمم التي تقلد غيرها في كل صغيرة وكبيرة تفقد هويتها، ولا تستطيع أن تقيم حضارة أصيلة، وهذا التحدي يحتم على الإنسان أن يقرأ ويستفيد من الآخر، لكن بوعي ونقد وتمييز.

4. الفقر والظلم الاجتماعي: لا يمكن لإنسان مسحوق تحت الجوع والظلم أن يفكر في بناء حضارة، ففي الاقتصاد الإسلامي تعتبر العدالة الاجتماعية شرط أساسي في النهضة، اذ إن الفقر والحرمان يذل الإنسان، ويحرمه من التفكير في الكرامة أو الإصلاح، فلا حضارة بلا عدالة، ومن هنا ربط بين النهضة الاقتصادية وبناء إنسان متوازن قادر على المشاركة في البناء.

5. ضعف التربية الدينية والأخلاقية: حين تهمل الأسرة والمدرسة دورهما التربوي، يخرج جيل بلا بوصلة، فالتربية الإسلامية هي الضمانة لحفظ إنسانية الإنسان، وأنها إذا ضاعت، ضاع معها الهدف الحضاري كله.

نحو إنسان فاعل 

طرح الإمام الشيرازي خطوات عملية لتحويل الإنسان من مجرد متفرج إلى فاعل أساسي في البناء الحضاري، يمكن ايجازها بالنقاط التالية:

1. التعليم النوعي الشامل: البدء بالإنسان يعني تعليمه، لكن التعليم المطلوب ليس حفظا للمعلومات، بل بناء للقدرة النقدية، وإطلاق لطاقات الإبداع، حيث التعليم هو الركيزة الأولى لكل نهضة، لأنه يصنع الفرد ويبصره بمسؤوليته، إذن، لا بد من إصلاح نظام التعليم ليكون مشجعا على البحث والتفكير الحر.

2. ترسيخ ثقافة الحرية: اعتبر الحرية أساسا من أسس النهضة واشار الى انه لا يمكن أن تبنى حضارة في ظل قهر واستبداد، لأن الحضارة فعل الإنسان الحر وليس المستعبد واي حضارة يستعبد فيها الانسان فسرعان ما تزول، فلا بد من توفير بيئة تتيح للإنسان التعبير والمشاركة، حتى تستثمر طاقاته.

3. العدالة الاجتماعية: لكي يشعر الإنسان أنه جزء من المشروع، لا بد أن ينال حقه في العيش الكريم، والعدالة ليست مجرد شعار، بل أساس للكرامة الإنسانية، فهو يربط دائما بين القضاء على الفقر وبين إطلاق طاقات الناس.

4. بناء مؤسسات المجتمع المدني: أن الإنسان بحاجة إلى مؤسسات تترجم جهوده إلى فعل جماعي، (منظمات، مراكز ثقافية، مؤسسات خيرية وتعليمية)، هذه المؤسسات تضاعف دوره وتثبته في الواقع، فالإنسان الفرد مهما كان قويا لا يمكنه وحده أن يبني حضارة، وإنما يكون ذلك بالعمل المؤسسي.

والخلاصة الإنسان هو محور كل مشروع حضاري، الحضارة لا تقاس بالبنيان أو بالموارد فقط، بل بقدرة الإنسان على التفكير والابتكار والتطبيق، وقد اشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقية عندما جعل الإنسان محورا للرسالات السماوية: (ولقد كرمنا بني آدم)، حيث يشير إلى تكريم الإنسان كأساس في كل مشروع أخلاقي وحضاري، وأن هذا التكريم لا يكتسب من السلطة أو المال، بل هو حق فطري من الخالق، يقول امير المؤمنين (عليه السلام): "قيمة كل امرئ ما يحسنه"، يعني أن الإنسان مسؤول عن تنمية قدراته لتكون نافعا لنفسه ولمجتمعه، فالإنسان لا يعيش بمعزل عن مجتمعه، بل الإنسان الفاعل حضاريا هو الذي يوازن بين:

1. قيمه الفردية: مثل الصدق، الشجاعة، الإيمان، الاجتهاد.

2. قيم المجتمع: مثل العدل، التعاون، التضامن، والمسؤولية الاجتماعية.

ويؤكد الإمام الشيرازي (رحمه الله) على ضرورة الارتباط بين التعاليم السماوية وبين الواقع العملي، فالفكر الحضاري لا يكون متجردا عن الدين، بل يستلهم منه المبادئ، ثم يطبقها في الواقع، كقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، تشير إلى دور الأمة في العمل الحضاري، إذ أن الأفعال الصالحة والتوجيه الأخلاقي يبدأن من الإنسان المؤمن المسؤول، وكما ورد في الحديث الشريف: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، او ولد صالح يدعوا له"، فهو يشدد على أن بناء الإنسان هو استثمار طويل الأمد في الحضارة.

بهذا الأسلوب، يصبح الإنسان عنصرا فاعلا في النهضة الحضارية للأمة، قادرا على مواجهة التحديات، وتحويل الفكر إلى واقع، والمبادئ إلى أعمال ملموسة.

إن مشروع بناء الحضارة يبدأ بالإنسان ويعود إليه، السيد محمد الشيرازي وضع رؤية واضحة تجعل الإنسان محور كل خطوة نهضوية، من خلال التربية، التعليم، الحرية، القيم، والعمل المؤسسي، وان الحضارة لا تتحقق إلا بتكريم الانسان وحفظ كرامته، فعلاً ومسؤولية، فكل أزمة تواجه الأمة اليوم تعود جزئيا إلى غياب الإنسان الفاعل، أو قلة الاستثمار في قدراته ومواهبه، او استعباده واستغلاله، والحل يكمن في إعادة الإنسان إلى مكانه الطبيعي كمحور النهضة وحامل الرسالة وصانع الحضارة المستقبلية.

* مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

ذات صلة

هل قيدت او عطلت مدونة الاحكام الشرعية صلاحية محكمة التمييز الاتحادية؟التسويف الدراسي.. فهم الأسباب وسبل التغلب عليه‏إشكالية الديمقراطية في العراق.. التحديات والمرتكزاتاقتصاد السوق الضرورة المغيبةرمزية الحياة والموت في أدب تشيخوف