التعاون والعمل.. التقدم والتلاحم
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2024-10-13 04:17
قال اللّه تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ}(1).
الذين يحبهم اللّه عزّ وجلّ هم المجاهدون لإعلاء كلمته وفي سبيل رضوانه، في حال كونهم مصطفّين بلا تبعثر أو تفرّق، كأنهم من شدة ثباتهم بناء مرصوص أُحكم بناؤه.
ويمكن في ضوء هذه الآية الكريمة أن نتناول جانبين تعرضت لهما الآية، وهما: التقدم والتلاحم.
الجانب الأول: مسألة الرقي والتقدم، وبذل الغالي والنفيس في ذلك، حيث قال تعالى: {يُقَٰتِلُونَ} فإن هذه الكلمة تعني ـ من ضمن ما تعنيه ـ السعي الحثيث وبكل ما يملك الإنسان نحو اعتلاء سُلّم الرقي والتقدم والوصول إلى الأهداف والدفاع عنها في سبيل اللّه، فإن الجهاد والمقاتلة دفاعاً عن الأهداف العالية يكشف عن الاهتمام بالترقي والتقدم حتى إنهم يقاتلون ويضحون بأنفسهم في سبيله.
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً»(2).
وقال (صلى الله عليه وآله): «جاهدوا تغنموا»(3).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض»(4).
يذكر علماء الاجتماع أن حركة الشعوب تنقسم على ثلاث مراحل: إما أن تكون بحالة تقدم، أو حالة تراجع، أو حالة استقرار وركود.
ولو أخذنا ـ على سبيل المثال ـ حرباً دائرة بين دولتين، فإذا تمكنت إحداهما من تحقيق انتصارات واقعية على الأرض، تمكنت من خلالها اكتساح الطرف الآخر، فإنها تمر بحالة من التقدم العسكري، واذا لم تتمكن من ذلك، فإنها تمر بحالة من التراجع والتقهقر، وربما كانت الحرب الدائرة سجالاً بين الطرفين دون أن تتحقق الغلبة لأحدهما على الآخر، فهذا أقرب ما يكون إلى حالة الركود والجمود، وإن كان الأصح أنه حالة تقهقر وتراجع لأن الحرب تعني الخراب والدمار، ومن هنا كانت محرمة في الشريعة الإسلامية إلّا في أقصى موارد الضرورة.
وهكذا المعيار في سائر شؤون المجتمع.
والمطلوب من المؤمنين ـ كأُمة ـ أن يكونوا دائماً سائرين في طريق التقدم والبناء في أجواء من الوحدة والتعاون والمودة، فهو الطريق الموصل إلى رحمة اللّه تعالى ورضاه. أما حالة الركود ـ فكيف بالتراجع ـ فهي لا تليق بالمؤمنين، بل عليهم أن يرتقوا في كل يوم مرحلة في سلّم التطور والتقدم.
المغبون والملعون
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شر يوميه فهو محروم، ومن لم يبال بما رُزئ من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص فالموت خير له»(5).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان في غده شرَّ يوميه فهو مفتون، ومن لم يتفقد النقصان في نفسه دام نقصه، ومن دام نقصه فالموت خير له...»(6).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(7).
وهذه الأحاديث الشريفة تبين لنا معيار التقدم والتأخر، والغبن واللعنة في هذا الباب.
فالمؤمن ـ كفرد أو كمجتمع وأُمة ـ إذا كان يوماه متساويين فهو مغبون، حيث قد ألحق بنفسه ضرر عدم التقدم؛ لأن وقتاً من عمره مضى ولم يستزد شيئاً جديداً في يومه الجديد، وبعبارة أخرى: إنه يمر بحالة من الركود والجمود، وأسوء من ذلك هو الذي يكون يومه أسوء من أمسه؛ إذ يمر بحالة التراجع والتأخر. فحالة التقدم المنشودة لا تكون إلّا إذا كان يومنا أفضل من أمسنا.
شروط التقدم
هناك شروط ومقومات عديدة لتقدم الأمة وتطورها، من أهم هذه الشروط: الإخلاص والعمل الدؤوب.
فالأمة التي لا تكون مخلصة فيما بينها، والأمة الكسولة التي لاتعمل، لاتتقدم أبداً، بل تتأخر يوماً بعد يوم.
الإسلام كل لا يتجزأ
ثم إن من أهم ما يضمن لنا السير في طريق التقدم هو شدة ارتباطنا بالإسلام الحنيف بكل أبعاده دون تجزئة وتبعيض، فالإسلام كلّ لايتجزأ، وهو النهج الذي يرتقي ببلادنا صوب التقدم متحدياً كل الحواجز والعقبات التي وضعها الاستعمار في طريقنا؛ وذلك لما يمتلكه الإسلام من مميزات وخصائص تشكّل ضمانة لتقدم الأمة، فالإسلام يضمن لنا الاستقلال والحرية؛ ويزودنا بسلاح الإيمان وروح التضحية والشهادة، ويحثنا على تهيئة مقومات الاستقلال والوقوف بوجه كيد الأعداء وردّ خططهم، وذلك عبر نشر الثقافة والوعي قبل كل شيء، ومن ثم تقوية المسلمين من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والعسكرية.
يقول اللّه تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ}(8). ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»(9).
أما الأخذ بجانب وترك جانب فهو لا ينتج إلّا التأخر، فمثلاً الإسلام يضمن لنا الاكتفاء الذاتي عبر الاقتصاد السليم الذي منه تبدأ عملية التنمية الحقيقية والاستقلال عن التبعية للشرق والغرب، حيث يجعل الإسلام كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية حراً في مختلف الميادين الاقتصادية بلا جمارك ولا رسوم ولا ضرائب غير مشروعة، فيكون فرداً مخلصاً مجدّاً في سبيل التنمية الاقتصادية. أما الاهتمام بالجانب العسكري فقط وتركُ الجوانب الأخرى الأهم كالجانب الثقافي والسياسي والاقتصادي وما أشبه فإنه لا ينتج إلّا التأخر والدمار.
التنظيم الاجتماعي
ومن أهم مقومات التقدم: روح التعاون التي يحث عليها الإسلام، إن الدين الإسلامي يهتم ببناء تنظيم اجتماعي راق وسام تسود فيه الأخلاق الطيبة والتضحية وحب الآخرين وقضاء حوائجهم وما إلى ذلك من مصاديق التعاون والمحبة، وكان هذا ما يثير إعجاب غير المسلمين لما يرونه من الترابط والتآلف بين المسلمين، فبدءً من تقوية العلاقات الأسرية إلى تقوية العلاقات الاجتماعية الأخرى بين مختلف أبناء الأمة(10)، خاصة النشاطات التي تنبثق في المساجد والمؤسسات الدينية والاجتماعية التي تمنح القوة الفكرية والميدانية للأمة الإسلامية في مختلف المجالات الحيوية.
وقد ورد في جملة من الروايات بيان أحكام العشرة والمعاشرة في السفر والحضر وغيرها(11)، مع المؤمنين والمنافقين وسائر الناس، نذكر بعضاً منها:
عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام):
كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟
قال (عليه السلام): «تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم»(12).
وعن أبي أسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام):
«اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي، السلام، وأوصيكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد للّه، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله)، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمِخيَط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم؛ فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر. فواللّه لحدثني أبي (عليه السلام): أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه، فتقول: من مثل فلان، إنه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث»(13).
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «عليكم بالورع والاجتهاد، واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى، واحضروا مع قومكم مساجدكم، وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه، ولا يعرف حق جاره!»(14).
وعنه (عليه السلام) قال: «كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: عظموا أصحابكم ووقروهم، ولا يتهجم بعضكم بعضاً ولا تضاروا، ولا تحاسدوا، وإياكم والبخل، وكونوا عباد اللّه المخلصين»(15).
وكان (عليه السلام) يقول لأصحابه: «اتقوا اللّه، وكونوا إخوةً بررةً متحابين في اللّه، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه»(16).
وورد عن ابن أعين أنه سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام): عن حق المسلم على أخيه، فلم يجبه! قال: فلما جئت لأودعه قلت: سألتك فلم تجبني! فقال (عليه السلام): «إني أخاف أن تكفروا، إن من أشد ما افترض اللّه على خلقه ثلاثاً: إنصاف المؤمن من نفسه حتى لا يرضى لأخيه المؤمن من نفسه إلّا بما يرضى لنفسه منه، ومواساة الأخ في المال، وذكر اللّه على كل حال، ليس سبحان اللّه والحمد للّه، ولكن عند ما حرم اللّه عليه فيدعه».(17)
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «إن مَلَكاً من الملائكة مرّ برجل قائم على باب دار، فقال له الملك: يا عبد اللّه ما يقيمك على باب هذه الدار؟ فقال: أخٌ لي فيها أردت أن أسلّم عليه.
فقال المَلَك: هل بينك وبينه رحم ماسَّةٌ أو هل نزعتك إليه حاجة؟
قال فقال: لا ما بيني وبينه قرابة، ولا نزعتني إليه حاجة؛ إلّا أخوة الإسلام وحرمته، وأنا أتعاهده أسلّم عليه في اللّه رب العالمين.
فقال له الملك: إني رسول اللّه إليك وهو يقرئك السلام، ويقول: إنما إياي أردت ولي تعاهدتَ، وقد أوجبتُ لك الجنة، وأعفيتك من غضبي، وآجرتك من النار»(18).
كما ورد استحباب سؤال الإنسان جليسه عن اسمه وكنيته وعمله، فقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إذا أحب أحدكم أخاه المسلم فليسأله عن اسمه واسم أبيه واسم قبيلته وعشيرته، فإن من حقه الواجب وصدق الإخاء أن يسأله عن ذلك، وإلّا فإنها معرفة حُمق»(19).
وعن جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): ثلاثة من الجفاء: أن يصحب الرجل الرجل فلا يسأله عن اسمه وكنيته، وأن يدعى الرجل إلى طعام فلا يجيب، أو يجيب فلا يأكل، ومواقعة الرجل أهله قبل المداعبة»(20).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون، وتوطَّأ رحالهم»(21).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «المؤمن مألوف، ولا خير فيمن لايألف ولا يُؤلف»(22).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «من زي الإيمان الفقه، ومن زي الفقه الحلم، ومن زي الحلم الرفق، ومن زي الرفق اللين، ومن زي اللين السهولة»(23).
وكذلك وردت روايات كثيرة تدل على استحباب البشاشة عند رؤية القادم، فقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر»(24).
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «من خرج في حاجة ومسح وجهه بماء الورد، لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، ومن شرب من سؤر أخيه المؤمن يريد بذلك التواضع أدخله اللّه الجنة البتة، ومن تبسم في وجه أخيه المؤمن كتب اللّه له حسنةً، ومن كتب اللّه له حسنةً لم يعذبه»(25).
وعن الإمام الجواد محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء، فإني سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»(26).
إلى غير ذلك الكثير من روايات الآداب الاجتماعية الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وهي مما تدل على اهتمام الإسلام بالجانب الاجتماعي والحث على التعاون والمحبة بين أفراد الأمة.
ومن مصاديق التعاون في زماننا تأسيس تنظيمات سياسية نزيهة تضمن استقلال بلادنا وتمنع انتشار الأفكار الهدّامة وتسلل العناصر الشريرة إلى داخل المجتمع الإسلامي(27)، على تفصيل ذكرناه في بعض كتبنا.
البناء المرصوص
أما الجانب الثاني الذي تعرضت الآية المباركة له، فهو التلاحم.
إن اللّه تبارك وتعالى شبّه المجتمع الإيماني الذي يطلب الرقي والتقدم ويضحي بنفسه في سبيل اللّه، بالبنيان المرصوص، في الآية الكريمة حيث قال تبارك وتعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ}(28) والبنيان المرصوص يمتلك ثلاث خصائص متميزة تعطيه هذه الصفة(29):
الأولى: التراصّ والتماسك بين أجزائه، فلا يرى فيه خلل ولا فراغات، بل هو مشدود بعضه ببعض ومتراصّ.
الثانية: استقامة البنيان وعدم الإعوجاج فيه.
الثالثة: وضع اللبنات الأساسية كل منها في محلها.
وهكذا يريد اللّه تعالى من المسلمين أن يكونوا كالبنيان المرصوص في تلاحمهم وقوة تماسكهم ليتقدموا على غيرهم.
خصائص القوة
ثم إن من خصائص القوة خمسة أمور:
1: قداسة الهدف وشفافيته، فإنهم مقاتلون مدافعون لمنع الأعداء من النيل منهم ولتتقدم أمتهم وتزدهر، بكل إخلاص ومعنوية.
2: عدم وجود نقص وإعوجاج وخلل في أمورهم.
3: التلاحم والانسجام مع بعضهم.
4: أن يحتل كل فرد منهم مكانه المناسب، وبعبارة أخرى جعل الفرد المناسب في المكان المناسب من دون ملاحظة المحسوبيات والمنسوبيات.
5: أن يكون عملهم دؤوباً مستمراً بلا توان وكسل.
مضافاً إلى ضرورة كونه واضح المعالم، وأنه في سبيل اللّه تعالى ومطابقاً لما أمره تعالى ضمن الضوابط الشرعية.