ما وراء التجربة
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2024-09-29 05:30
التجربة هي المعلومات والمعارف التي يحصل عليها الإنسان من خلال معايشة الأحداث التي تمر عليه بتعاقب الأيام، وتكون إما تجارب حسنة أو سيئة، ولها دور مؤثر في حياة الشخص وتأمين سعادته، وهذا ما يُقرّه الدين والعلم.
فالتجارب ظاهرة إيجابية يمكن للفرد أن يحسّن بها من أداء أعماله، ويقلل من أخطائه، وذلك بملاحظة التجارب السابقة التي مر بها، مما يوفر له السعادة المنشودة في حياته بالنجاحات المتكررة في تلك الأعمال، فالإنسان خلقه اللّه تعالى وهو قادر على التطور، ليرتفع بغرائزه ويبلغ بها الكمالات العُلى، بالتعليم والتعويد، وذلك بالاستفادة من التجارب التي يمر بها، أو من تجارب الآخرين.
فإن التجارب قد تكون شخصية، وقد تكون غيرية، وفي الحديث الشريف: «العاقل من اتعظ بغيره»(1).
وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: «شكا رجل إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) الحرفة(2). فقال: انظر بيوعاً فاشترها ثم بعها، فما ربحت فيه فالزمه»(3).
وعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): أن رجلاً سأله فقال: يا رسول اللّه، إني لست أتوجه في شيء إلّا حورفت فيه؟ فقال: «انظر شيئا قد أصبت فيه مرة فالزمه». قال: القَرَظ(4). قال: «فالزم القرظ»(5).
وعن بشير النبال، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: «إذا رزقت في شيء فالزمه»(6).
وعن يحيى الحذاء، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): ربما اشتريت الشيء بحضرة أبي فأرى منه ما أغتم به؟ فقال: «تَنَكَّبْه ولا تشتر بحضرته، فإذا كان لك على رجل حق فقل له فليكتب: وكتب فلان بن فلان بخطه وأشهد اللّه على نفسه وكفى باللّه شهيداً، فإنه يقضى في حياته أو بعد وفاته»(7).
وعن السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: «إذا نظر الرجل في تجارة فلم ير فيها شيئاً فليتحول إلى غيرها»(8).
وعن الوليد بن صبيح، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «من الناس من رزقه في التجارة، ومنهم من رزقه في السيف، ومنهم من رزقه في لسانه»(9).
وكل هذه من مصاديق التجارب وسلوك الخبراء.
ومن هنا جاءت أهمية الاستفادة من التجارب لضمان حياة أفضل، ومواصلة السير نحو التكامل البشري.
كما أن التجربة تعتبر وسيلة ناجحة لاستثمار الفطنة والذكاء، فهي تساعد على إنضاج العقل الطبيعي، وظهور الكثير من الاستعدادات الإنسانية إلى حيّز الفعل، وبخزن المعلومات التي يحصل عليها الشخص المجرّب ومطابقتها للواقع الصحيح تصبح لديه عقلية ثانية وهي العقلية التجريبية. وفي الحديث: «العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة»(10).
عقل الطبع وعقل التجربة
قيل: إن العقل هو ذلك النور الذي يجده العاقل في نفسه بعد أن لم يكن، وحين وجده شرع بمعرفة الحَسَن والقبيح والخير والشر..، ولكن هذا قول تقريبي في تعريف العقل؛ لأن علوم البشر بما هم بشر محدودة بمقدار المكتسبات؛ لذلك لا يستطيع الإنسان العادي معرفة حقائق الأشياء معرفة تامة.
وخير ما قيل في هذا المورد ما جاء عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، حيث عرّفوا لنا العقل جملة وتفصيلاً، فعن الإمام الصادق (عليه السلام)، عند ما سُئل عن العقل؟ قال (عليه السلام): «ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان»(11).
وفي هذا الحديث إشارة إلى تفاعل القوى داخل الإنسان: (العقل والفطرة وتأثيرهما على الجوانح والجوارح) لتعطي هذه النتيجة المحمودة. فالعقول تستعمل ما فُطرت عليه، فتسلك ما تألفه وتعرفه بحسب طبيعتها، وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات.
والذي فُطرت عليه العقول هو أن تستعمل مقدمات يقينية بالوجدان، لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية. وهذه هي العقول الفطرية، أو العقول الطبيعية، كما عبر عنها مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه: «العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة، وكلاهما يؤدي إلى المنفعة»(12).
والعقل الطبيعي هو موطن الكليات، كالحُسن والقبح العقليين، والخير والشر، وعدم اجتماع النقيضين، وما كان في عدادها من الأحكام العقلية، ولا يستطيع أن يحكم بالجزئيات إلّا بعد أن يمرّن ويطوّر بزيادة المعلومات والتجارب. وعقل التجربة ما يرتبط بالجزئيات والمصاديق.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب»(13).
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الإنسان يولد وهو لا يملك سوى بعض العلم الذي منحه اللّه تعالى، ثم عن طريق الحس يبدأ بالتعلم، فيحصل لديه علم متحصل ومكتسب، عن طريق الفكر والنظر، فيبدأ الإنسان بخزن المعلومات والتجارب، ويحكم بصحة مطابقتها للواقع أم لا، وهذه المرحلة تعني أن الإنسان امتلك العقل التجريبي الذي أشار إليه الحديث الشريف.
ونتيجة العقل التجريبي والطبيعي واحدة، وهي منفعة النفس الإنسانية. فالطبيعي يرشد النفس للحُسن والقبح، ويرشدها لمعرفة الحقيقة الكبرى لخالق هذا الكون، وهو اللّه جلّ وعلا، ويحكم بضرورة عبادته. وهذا يفهم من حديث الإمام الصادق (عليه السلام) حين قال: «ما عُبد به الرحمن»، وبيّن النتيجة المترتبة عليه، وهي دخول الجنة.
وبالعقل التجريبي نستطيع معرفة أسباب الحوادث، وتشخيص نتائجها، فنختار بناءً على ذلك الموقف المصيب الحسن، الذي ينسجم وفطرة الإنسان انسجاماً تاماً. وعند ما ينسجم العقل والفطرة يتجه الإنسان والمجتمع نحو التصاعد والتقدم. وهو أمر نافع للنفس والمجتمع أيضاً.
اختلاف التجارب
إن التجارب الإنسانية مختلفة، فهي لا تأتي عن طريق المؤثرات الخارجية والآثار الحسيّة المتفرقة فقط، بل إن التجربة مؤلفة من مجموع التغييرات التي يوجدها المحيط الخارجي وتؤثر في أعمالنا، ومجموع التغيرات التي تولدها أعمالنا في المحيط الخارجي، إلى غير ذلك من الأسباب. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى شيء من التفصيل:
إن لكل حادثة ظروفاً معينة تحيط بها، إما خارجة عن يد الإنسان واختياره بحيث تجعله على أن يتصرف وفقها، وهي تختلف من تجربة إلى أخرى، أو تكون بيد المجرّب نفسه وتكون باختياره، وهي تختلف أيضاً من مجرّب إلى آخر.
فمثال الظروف المختلفة من المجموعة الأولى تلك العناصر والظروف السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية أو العلمانية أو غيرها... الخارجة عن اختياره. وهي قد تكون مفردة أو مزدوجة من سياسية واقتصادية مثلاً، أو تكون مجتمعة كلها، إلّا الحالة العلمانية والدينية فإنهما لا تجتمعان.
وقد تكون التجربة في جوّ متشنج فيقتضي التقية وما شاكل، أو يكون غير متشنج فيقتضي الصراحة. كذلك ربما يختلف وقت التجربة وزمانها صيفاً أو شتاءً. في زمان فرعون أو في زمان صدام، وهكذا.
وكذلك نوعية المشتركين في التجربة، كالمميزات بين الشعوب وما تحملها من صفات وآثار تاريخية خارجة عن سلطة المجرّب.
أما المجموعة الثانية من العناصر، فمثالها ما يحمله الإنسان في داخله من فكر وما يختاره من أفعال، فهي إما أن تكون إلهياً توحيدياً إسلامياً، وقد تكون شيطانياً إلحادياً، فالإنسان المؤمن تكون تجربته على أسس ومبتنيات غير التي يحملها صاحب الفكر الوثني المشرك، كالإيمان والصبر والحلم، فالإيمان يجعل أقوال الإنسان وأفعاله في هذه الحياة وفقاً للأوامر والنواهي الإلهية.
فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في خصال المؤمن الصالح: «إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا، ولا تعرفوا حتى تصدقوا، ولا تصدقوا حتى تسلموا أبواباً أربعةً، لا يصلح أولها إلّا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيهاً بعيداً، إن اللّه تبارك وتعالى لا يقبل إلّا العمل الصالح، ولا يقبل اللّه إلّا الوفاء بالشروط والعهود، فمن وفى للّه عزّ وجلّ بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل ما وعده، إن اللّه تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٞ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ}(14) وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ}(15) فمن اتقى اللّه فيما أمره لقي اللّه مؤمناً بما جاء به محمدٌ (صلى الله عليه وآله). هيهات هيهات، فات قومٌ وماتوا قبل أن يهتدوا، وظنوا أنهم آمنوا وأشركوا من حيث لا يعلمون، إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللّه طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما أنزل من عند اللّه عزّ وجلّ: {خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ}(16) والتمسوا البيوت التي أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم {رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ}(17) إن اللّه قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقين بذلك في نُذُره، فقال: {وَإِن مِّنۡ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٞ}(18) تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ}(19) وكيف يهتدي من لم يبصر وكيف يبصر من لم يتدبر؟!
اتبعوا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وأقروا بما نزل من عند اللّه، واتبعوا آثار الهدى، فإنهم علامات الأمانة والتقى، واعلموا أنه لو أنكر رجلٌ عيسى ابن مريم (عليه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار، والتمسوا من وراء الحجب الآثار تستكملوا أمر دينكم، وتؤمنوا باللّه ربكم»(20).
والمؤمن الصالح بالتأكيد تكون تجاربه نافعة للآخرين، كتجارب الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والعلماء والصالحين من البشر.
أما المشرك والملحد والفاسق وما أشبه ممن تكون أفكاره أفكاراً وثنية فسقية مبنية على أساس الإلحاد والمصالح الشخصية والأهواء النفسية والشيطانية، فإن التجارب القائمة على أساس كهذا تكون مضرة بالآخرين، كتجارب الطغاة على مرّ التاريخ وإن تلبس بعضها بلباس الدين.
تجربتان: ناجحة وفاشلة
قال تبارك وتعالى: {وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَآءَكَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةٞ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(21).
إن في قصة النبي يوسف (عليه السلام)، خير مثال للعبرة وللتجربة النافعة، فيوسف (عليه السلام) كان من المؤمنين الموحدين، ومن سلالة النبيين، فإنه ابن النبي يعقوب (عليه السلام)، وكان يتميز بالجمال الخارق، فضرب اللّه في قصته مع زليخا امرأة العزيز مثلاً ومثالاً للعفة والشرف. وخلاصة القصة:
أن اُلقي يوسف (عليه السلام) في البئر، والتقطه بعض المارة السيّارة، وحملوه إلى مصر وباعوه من عزيز مصر، فقال العزيز لزوجته: {أَكۡرِمِي مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗاۚ}(22) وربياه، فلما بلغ أشده هوته امرأة العزيز، وكانت لا تنظر إلى يوسف امرأة إلّا هوته، ولا رجل إلّا أحبه لشدة جماله، فراودته امرأة العزيز عن نفسه عدة مرات وكان يمتنع أشد الأمتناع، ولكن الشيطان ما يزال يوسوس في صدر امرأة العزيز ويزين لها الفاحشة، وفي المرة الأخيرة قامت وألقت ملاءة على صنم لها في الغرفة، فقال لها يوسف (عليه السلام): ما تعملين؟
قالت: أُلقي على هذا الصنم ثوباً لكي لا يرانا، فإني استحي منه.
فقال يوسف (عليه السلام): أنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحي أنا من ربي؟! فوثب وَعَدَا، وَعَدَت خلفه، وأدركهما العزيز على هذه الحالة، فقالت امرأة العزيز: {مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا}(23)، فقال يوسف (عليه السلام) للعزيز: {هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ}(24) فألهم اللّه يوسف (عليه السلام) أن قال للملك: سلْ هذا الصبي في المهد، فإنه يشهد أنها راودتني عن نفسي. فسأل العزيز الصبي، فأنطقه اللّه في المهد ليوسف (عليه السلام) حتى قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ}(25)، فلما رأى العزيز قميص يوسف (عليه السلام) تخرق من دبر قال لامرأته: {إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ}(26)(27).
وهكذا نجا النبي يوسف (عليه السلام) من هذه المحنة، فكانت تجربته ناجحة، وذلك لشدة إيمانه باللّه تعالى الذي أنقذه من الموت في البئر وهيّأ له أناساً يأخذونه ويوضع موضع التقدير عند العزيز بحيث يأتمنه على عرضه وملكه. وبفضل هذا الإيمان استطاع النجاة من الرذيلة، ومن ثم الحظوة بموضع التقدير عند الملك(28).
وفي هذه القصة تجربتان، ناجحة وهي تجربة يوسف (عليه السلام) حيث يلزم على كل شاب أن يتعلم الإيمان منه، وتجربة فاشلة وهي تجربة امرأة العزيز حيث أرادت المعصية وفشلت دنيوياً وأخروياً.
إن القرآن الكريم يحث الإنسان المؤمن على التدبر في قصص الكتاب الحكيم للاستفادة من التجارب القرآنية، قال تعالى: {لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ}(29).
وفي قصة يوسف (عليه السلام) تنبيه لكل إنسان جميل أن لا يغتر بجماله، ولا يطلق العنان لغريزته الجنسية، بل يحكّم عقله على شهوته، ويفكر في عواقب الأمور، كذلك تعطينا الآيات الكريمة درساً في الصبر على الابتلاء الإلهي في التكليف والامتثال لقضائه وحكمه.
وفي هذه القصة أيضاً جانب آخر، وهو الفشل في الاختبار للشهوة الجنسية، والاغترار بالجمال الذي كانت تحمله زليخا. وهي مثال للتجربة الفاشلة والضارة؛ فيوسف (عليه السلام) بعفته وطهارته وصبره على الابتلاء اجتباه ربه للنبوة، وملّكه، ومنّ عليه وعلى يعقوب‘ برؤية أحدهما للآخر.
وهكذا كانت النتيجة والعاقبة الحسنة ليوسف (عليه السلام) كما في قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ}(30).
هذا ما يختص بالدنيا، أما في الآخرة؛ فقد جاء في قوله تعالى: {وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}(31).
ولم ينكر يوسف (عليه السلام) على اللّه تعالى فضله وتعليمه والعناية به إذ قال: {رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ}(32). ثم يتوجه يوسف (عليه السلام) الى اللّه سبحانه، يشكره ما أنعم عليه، ويعدّد لطفه به، ويسأله حسن الخاتمة، قائلاً يا {رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ} أي: بعض ملك الدنيا وسلطانها، {وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ} تفسير المنامات، بما تؤول إليه، أنت ربي {فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ} خالقها ومبدعها، فلك الخلق ومنك الأمر والفضل {أَنتَ} دون سواك {وَلِيِّۦ} الذي يتولى كل شؤوني، كما تولى خلق السماوات والأرض {فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ} تتولى في الدنيا إصلاح حالي، وفي الآخرة سعادتي ونجاتي {تَوَفَّنِي} يارب، أي خذ روحي ـ وقت موتي ـ {مُسۡلِمٗا} لك في جميع الأمور {وَأَلۡحِقۡنِي} إذا توفيتني {بِٱلصَّٰلِحِينَ} الذين هم الأنبياء والأئمة والشهداء، ومن في زمرتهم، وهنا تنتهي قصة يوسف (عليه السلام) وقد كان فيها من العبر والعظات والتجارب الشيء الكثير، وهي من أبلغ الدروس لمن أراد أن يسلك سبل الحياة بكل طهارة ونظافة، ففيها التنبيه على الطهارة وعاقبتها، واللوث وعاقبته(33).
المقدمات والنتائج
إن لكل تجربة مقدمات تؤثر على نتيجة العمل، ولكن النتيجة تابعة لأخس المقدمات على رأي المناطقة، وفي القرآن الكريم إشارة إلى تأثير المقدمات وذلك في الآيات الشريفة التي تتحدث عن السنن الكونية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ}(34)، فالآية واضحة الدلالة على أن النتيجة، وهي تغيير ما بالقوم، متوقفة على المقدمة، وهي تغيير ما بالأنفس، وكيف ما يكون التغيير تكون النتيجة، فإن قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ} أي الحالة التي هي نازلة بقوم، من عزّ أو ذل، نعمة أو نقمة، رفعة أو انحطاط، صحة أو مرض، إلى غيرها {حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ} أي: يغيروا الحالة التي هم عليها بأنفسهم، فإذا جدّوا واجتهدوا في العمل، أورثهم العز والسيادة، وإذا كسلوا أورثهم الانحطاط والذلة، وإذا تناولوا المحرمات أورثهم الأمراض، وإذا اتقوا أورثهم الصحة، وهكذا، فإن كل حالة فردية أو اجتماعية، فإنما هي وليدة عمل الفرد والجماعة(35).
كذلك قوله تعالى: {وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ}(36)، قوله تعالى: {ءَامَنُواْ} أي باللّه تعالى وبأنبيائه {وَٱتَّقَوۡاْ} معاصيه، وعملوا الصالحات {لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ} البركات هي: الخيرات النامية، وفتح الخير من السماء بكثرة الأمطار وطيب الهواء، وفتحه من الأرض بإخراج النبات والثمار وتفجّر العيون، إلى غيرهما من الخيرات المادية والمعنوية كاستجابة الدعاء ونحوها، وهذا إلى جنب كونه معنوياً بلطفه سبحانه، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة، فإن الإيمان والتقوى يوجبان سيادة مناهج اللّه تعالى، وهي توجب الأخوة والتعاون مما يسببان ازدهار الحياة وتعميم الرفاه والأمن، كما أن الكفر والعصيان سببان لعكس ذلك {وَلَٰكِن كَذَّبُواْ} بالرسل ولم يؤمنوا {فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} أي بسبب كسبهم المعاصي والآثام(37).
وهذه الآية المباركة تبين علاقة النتيجة وهي فتح البركات من السماء والأرض، بالمقدمة التي هي الإيمان. كذلك تكون التجربة فإن النتائج فيها تبتني على المقدمات، وهذه المقدمات هي تأثير الشخص المجرّب في مجموع العوامل المؤثرة في التجربة، فيصيّرها وفق المباني الاعتقادية لدى الشخص، تلك المباني السليمة التي تعطي نتائج صحيحة لذلك الموقف، كتغيير مصدر التأثير في الحدث إلى مصدر آخر صحيح، أو تحويل الموقف من حالة الشدة إلى اللين، كما فعل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في تجربته الرائعة عند فتح مكة، حيث استخدم اللاعنف مع المشركين، الذين ظنوا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) سوف يقتلهم ويبيح أموالهم، كما فعلوا هم بالمسلمين ففاجأهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بقوله: «اذهبوا؛ فأنتم الطلقاء!»(38)، وبذلك غيّر الموقف من الشدة المتوقعة والمستحقة للمشركين، الأعداء الذين طالما آذوه وطاردوه وشردوه إلى اللين والرحمة والرأفة، على العكس مما اقترفوه بحقه (صلى الله عليه وآله) وبحق أصحابه من المسلمين.
فأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بأن يرجع سعد بن عبادة، المصدر الباعث للرعب والخوف في نفوس الناس، الذي كان حاملاً للراية يوم الفتح وهو ينادي: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة إلى مصدر باعث للاطمئنان، حيث قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام): «أدرك سعداً فخذ الراية منه، وأدخلها إدخالاً رفيقاً». فأخذها علي (عليه السلام) وأدخلها كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) منادياً: «اليوم يوم المرحمة اليوم تُصان الحرمة»(39)، وفي هذين الموقفين تكتمل الصورة للتجربة الصحيحة، ونرى كيف أن الرسول (صلى الله عليه وآله) استطاع أن يضع المقدمات الصحيحة، ويؤثر في العوامل الخارجية ويغيرها وفق مبناه الفكري الاعتقادي الذي أرسله به ربّ العزة، حيث قال في كتابه العزيز: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ}(40). لتأتي النتائج الصائبة بدخول الناس أفواجاً في الإسلام، وهو هدف الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله).