هل انحرف المسلمون بعد يوم الغدير؟
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2024-06-24 04:57
(منذ بدء الدعوة الإسلامية عيّن رسول الله صلى الله عليه وآله،
علياً عليه السلام خليفةً من بعده) الإمام الشيرازي
الأمم والدول والشعوب الناجحة هي التي تعالج أخطاءها ولا تتغاضى عنها، خصوصا تلك الأخطاء التاريخية الكبيرة، ولا تدس رؤوسها في الرمال، تجنّبا لمواجهة الانحرافات (حتى لا تثير الاختلافات) كما يردد أصحاب (اتركوا أخطاء التاريخ على حالها)، وقد ثبت أن التغاضي عن الأخطاء من أكبر الأسباب التي تُبقي على الأمم في حالة تخلف وتراجع، لأن معالجة الجذر التاريخي الخاطئ غير وارد في حساباتهم هم وحدهم يقتنعون بها.
تقول وقائع التاريخ المثبتة في أمهات الكتب التاريخية الموثوقة، إن يوم الغدير هو اليوم الذي توّج فيه النبي صلى الله عليه وآله (عليا) خليفة للمسلمين من بعده، حدث هذا بعد حجة الوداع للرسول الكريم، وتمت أحداث هذه المبايعة في غدير خم، وبايع فيها المسلمون الإمام علي عليه السلام خليفة لهم، ولم يتخلف أحد منهم، خصوصا الشخصيات القيادية المعروفة آنذاك، وهو ما حدث بطلب من النبي صلى الله عليه وآله.
ولكن هذا الطلب الذي جمع من أجله الرسول الكريم المسلمين في غدير خم، لم يكن هو الأول الذي دعا فيه لتنصيب الإمام علي خليفة من بعده، وإنما كان الرسول صلى الله عليه وآليه يذكر هذه القضية في مناسبات كثيرة وعديدة، والكتب الموثوقة والروايات المسندة تؤكد ذلك، ففي أكثر من مناسبة كان الرسول الكريم يؤكد على أن عليا عليه السلام هو خليفة المسلمين من بعده، ولكن التتويج (الرسمي) تم في يوم الغدير بحضور الجميع.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يفصّل واقعة الغدير بشكل دقيق، داعما أقواله بالروايات وحتى الأشعار المثبتة والمعروفة لحسان بن ثابت، وهي تؤكد بما لا يقبل الشك تنصيب الرسول الكريم للإمام علي خليفة على المسلمين ومبايعتهم له، حيث نقرأ ذلك في كتاب (الأئمة المعصومون الأربعة عشر/ الإمام المعصوم الثالث علي بن أبي طالب):
(منذ بدء الدعوة الإسلامية عيّن رسول الله صلى الله عليه وآله، علياً (عليه السلام) خليفة من بعده حيث قال لزعماء قريش يوم الدار: هذا خليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا. وبقي النبي صلى الله عليه وآله ينص على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده في مواقف مختلفة وبعبارات متعددة).
إعلان الإمام علي خليفة للمسلمين
لم يختر الرسول الأكرم هذا التنصيب من حيث التوقيت، إلا بعد نزول الأمر الإلهي الواضح للرسول صلى الله عليه وآله بإعلان الإمام علي عليه السلام خليفة له على المسلمين، وتم ذلك بعد عودة الرسول الكريم والمسلمين من الحج، وسمّيت في تلك السنة بحجة الوداع، في إشارة إلى أنها الحجة الأخيرة في حياة نبي المسلمين صلى الله عليه وآله.
حيث نقرأ في كتاب الإمام الشيرازي نفسه قوله:
(حين حجَّ رسول الله صلى الله عليه وآله حجته الأخيرة المسمّاة بحجة الوداع، وبعد أن رجع المسلمون من حجهم أنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ).
بعد نزول هذه الآية الكريمة الواضحة في معناها، طلب نبي المسلمين منهم أن يتجمعوا جميعا في منطقة يُقال لها (غدير خم)، وحين تجمّع المسلمون وحضر المتأخر والغائب، ارتقى الرسول الكريم المنبر وقدم لجمع المسلمين خطبة وُصفت بأنها من أعظم خطبه، وبعد أن انتهى منها أمسك بيده الشريفة كفّ الإمام عليه السلام ورفع ذراعه إلى الأعلى باتجاه السماء ثم أطلق قولته الشهيرة عن أمير المؤمنين قائلا على رؤوس الأشهاد:
(من كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، الّلهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصرْ من نصره، واخذلْ من خذله)، فيا تُرى هل هناك وضوح أكثر من هذا الوضوح في القصد والمعنى والمطلوب؟، وهل تقبل مثل هذه الكلمات الدقيقة الواضحة نزعا من التشكيك في المعاني، أو في أي شيء آخر، لاسيما أنها قيلت على لسان نبي الإسلام صلى الله عليه وآله، وبحضور جميع المسلمين ولم يتخلّف عن الحضور من قادة الأمة آنذاك.
يقول الإمام الشيرازي:
ثم (أمر النبي صلى الله عليه وآله، المسلمين أن ينزلوا بغدير خم وأن يرجع من سبق منهم ويلحق من تأخر، ثم نُصب له منبر من أكوار الإبل، فقام صلى الله عليه وآله وخطب بالمسلمين خطبة عظيمة، ثم أخذ بيد علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ورفعها نحو السماء وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله).
إن هذا الوضوح التام في كلمات الرسول صلى الله عليه وآله، واختيارها بشكل دقيق، والتأكيد على تتويج شخص الإمام عليه السلام، حين أمسك النبي صلى الله عليه وآله بيد أمير المؤمنين، ورفعا عاليا نحو السماء، مطلقا كلماته التي يؤيد فيها الإمام بشكل لا يقبل الشك مطلقا، مطالبا المسلمين بنصرته ومؤازرته وكأنه هو نفسه.
محاولات مخادِعة لخلط الأوراق
ومع كل هذا الوضوح والدقة يأتي من يشكك في ذلك ويثير الشبهات، ويحاول خلط الأوراق من جهة، ثم يعود ليطلب ويطالب بعدم الخوض في مثل هذه القضايا التاريخية التي تفرق المسلمين ولا تجمع بينهم، ولكن أليس السلوك المخالف لرسول الله يعد مخالفة صريحة للدين وللإسلام ولله تعالى؟
ألا يُعدّ هذا السلوك الذي يتغاضى عن وصايا وكلمات رسول الله خطأ فادحا ارتكبه أصحابه آنذاك، ثم أليس معالجة الانحراف عن وصية واضحة لرسول الله صلى الله عليه وآله بهذا الحجم أمر بالغ الأهمية، بل ويرقى إلى القضايا المصيرية؟
ثم هل تتقدم الأمم حين تدس الرؤوس في الرمال، أو تغمض عيونها عن أخطائها، وتسعى لعبور هذه الأخطاء وتترك النيران تشتعل بقوة تحت الرماد؟؟
نعم لقد مرّت قرون على وقائع (غدير قم)، وباتت في حكم التاريخ، ولكن تأسّس على ذلك الانحراف تراكمات هائلة من الأخطاء، ولعل أفظعها أن المسلمين منذ ذلك التاريخ وإلى الآن لم يحظوا بنظام سياسي صحيح وعادل وأمين.
باستثناء سنوات الحكم القليلة للإمام علي عليه السلام في حكمه الذي عُرف بكونه مثّلَ أفضل حكومة عادلة في تاريخ المسلمين، وأفضل حاكم نشر العدل ورأف بالفقراء والأيتام، ودعم الاقتصاد من خلال الزرع والإرواء وشق الترع وتقليص نسبة الفقر إلى الصفر.
ومن القضايا المثيرة للجدل أيضا تلك الأقوال المغرضة التي تقول بأن الإمام علي نفسه لم يداعِ بحقه في الخلافة، وأنه تنازل عن ذلك الحق ولم يطالب به، فلماذا يأتي آخرون مؤيدون له ويداعون بحقه هذا؟
الإجابة عن مثل هذه التصريحات المغرضة مهمة، وتم مواجهتها بالحقائق التي أكدت بالأدلة القاطعة أن الإمام علي عليه السلام، لم يتنازل عن الخلافة، ولم يترك حقه، بل ظلل مطالبا به مذكرا المسلمين بهذا الحق، وإن الذين حضورا منهم خطبة الوداع في غدير خم يتذكرون جيدا وصية الرسول صلى الله عليه وآله، ويعرفون ويتذكرون بالتفصيل ما جرى في يوم التتويج المعلَن بحضور المسلمين.
نعم لقد اعتزل الإمام علي عليه السلام الجمع السياسي الملوَّث، وتفرغ للزراعة وتعامل مع ما حدث من نكث وخديعة بصبر عظيم هو من أهم وصايا النبي صلى الله عليه وآليه لابن عمه علي عليه السلام، حين طالبه بالصبر والتجلّد (والكف عن القوم)، ولكن بقي الإمام يطالب بحقه ولم يتنازل عنه كما أثبتت الأدلة التاريخية القاطعة.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:
(بقي الإمام عليه السلام يناشد المسلمين حقّه ويذكرهم بوصايا رسول الله صلى الله عليه وآله الذي استخلفه من بعده، وحيث إن الإمام عليه السلام كان موصى بالصبر والكف عن القوم فقد لزم داره مدة 25 سنة، مجهولاً قدره مغصوباً حقّه).
وهكذا علينا أن نجيب بوضوح عن السؤال الذي طرحه عنوان هذه الكلمة، هل انحرف المسلمون عندما تنكّروا لما قام به الرسول صلى الله عليه وآله في يوم الغدير؟، أما كيف نجيب ومن هو الذي يجيب عن ذلك، فهذا في الحقيقة متروك للمسلمين أنفسهم، ومدى ما يتحلون به من حكمة وتعامل صادق مع النفس والذات والتاريخ والدين أيضا.