ولادة القدوات: الإمام الشيرازي مثالاً
محمد علي جواد تقي
2024-04-18 04:58
مرت علينا قبل أيام ذكرى رحيل المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي، ومرّت ذكراه الآن ايضاً في خاطري بمحض الصدفة، او ربما يكون أمراً مقدّراً، وأنا أصوغ فكرة حول القدوة الحسنة، وأهميته في حياة الانسان، وكيف أنه -رحمه الله- جسّد مفهوم القدوة وشروطها بأكمل وجه، حتى راح المتحدثون والباحثون، وعامة الناس يستذكرون جوانب ريادية في شخصيته، وكيف كان يمثل القدوة في الأخلاق، والتأليف، سعة الأفق في التفكير، وايضاً؛ بالاقتداء بالمعصومين، عليهم السلام، وتحديداً؛ الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله.
الإمام الشيرازي، وغيره كثير من الناجحين والصالحين في الأمة باتوا قدوات للأجيال بما قدموا وبذلوا، فنرى مؤلفاتهم و افكارهم حيّة في النفوس، وهذا أراه مصدر غنىً للمُقتدي اكثر مما هو للمُقتدى به، فهو ذاهب الى دار حقّه يوماً ما، بينما الذي يهمّ المُقتدى به، دنياً وآخرة رؤية ولادة قدوات من بعده، ربما تفوقه في العطاء والانجاز، فيكون محل فخر واعتزاز له في مراحل ما بعد الموت، كما يستذكر الناسُ الصالحين بالترحيم والتبجيل بعد موتهم.
فعندما نستذكر القدوة في الأخلاق -مثلاً- نكون مدعويين بالضرورة لأن نكرر هذه القدوة في انفسنا ما استطعنا الى هذا سبيلا، ونكون قدوة للآخرين في هذا الجانب الذي طالما يترك أثره في نفوسنا، لتعمّ الفائدة ونحصل على نتائج كبيرة على أرض الواقع لهذا الجانب الحيوي والجوهري في حياتنا.
في واقعنا الاجتماعي والثقافي تكثر النظريات والافكار الاسلامية، وكلها صحيحة لأنها –معظمها- تنبع من تراث أهل البيت، عليهم السلام، ومن كتاب الله المجيد، فهي تشكل لنا قدوات نظرية، إنما المشكلة في تجسيد هذه الافكار في انسان يراه الناس بينهم، كما برع في هذا؛ نبينا الأكرم، محمد، صلى الله عليه وآله، وفي الجانب الأخلاقي تحديداً حتى استحق الإشادة والثناء من السماء، فجاء التكريم في الآية الكريمة: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)).
وكلما اشتبكت أعاصير الثقافات بفضل الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وزاد خطر التغييرات على مزاج الجيل الجديد، وطريقة تفكيره وأخلاقه، زادت الحاجة الى القدوة العملية القادرة على المنافسة مع قدوات نراها تصول وتجول عبر الانترنت، حتى أصبح مصطلح "العالم الافتراضي" من الماضي، فهو اليوم عالماً حقيقياً يعيشه ابناء الجيل الجديد، وحتى من بقايا الجيل القديم من ابناء الثمانينات والسبعينات والستينات، أما كيف حصل هذا للبعض من هذا الجيل –وليس كلهم- و أي فراغ تسبب به؟ فهذا له حديث لا نستطرد فيه، إنما الذي يهمنا تحفيز هذه الشريحة على ان يكونوا قدوة حسنة لابنائهم كما يشيدون هم بالقدوات الحسنة لشخصيات ناجحة، ويستذكرونهم في المجالس والمحافل.
أما كيف نكون القدوة العملية للآخرين؟ فهو السؤال المحوري الكبير.
حدد الباحثون خطوات في هذا الطريق، ونركز على خطوة عملية واحدة من جملة خطوات، وهي؛ التطبيق الذاتي قبل مطالبة الآخرين، بمعنى توفير مصداق عملي لأي فكرة أو فضيلة ندعو اليها، فعندما نتحدث عن العلم والأخلاق والشجاعة والعمل، علينا تجسيد كل هذه المفاهيم والقيم في سلوكنا العملي حتى نقدم صورة متحركة للآخرين.
ومن عديد الامثلة في هذا السياق أجدني أقرب الى الامام الشيرازي من غيره، في مثال يورده نجله الراحل الفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي حينما سأله ذات مرة –والحديث للفقيه الشيرازي- عن سبب الحرص الشديد في الالتزام بالمستحبّات العبادية، فأجابه: "أي بُني! إذا نحن –العلماء- لا نعمل بالمستحبات، فان الناس لن يعملوا بالواجبات"، هذا هو الدرس البليغ في القدوة العملية المؤثرة.
ومثل آخر بعيد جداً، لكن فيه عِبرة من كوبا؛ أقصى دولة في العالم، حينما قام الثائر الارجنتيني المعروف جيفارا بزيارة للاتحاد السوفيتي السابق في ستينات القرن الماضي، ظناً منه أنه يزور معقل الاشتراكية والمساواة بين البشر، ففوجئ بالسيارات الفارهة تجوب العاصمة موسكو، فسأل عن مالكي هذه السيارات، فكانت دهشته وصدمته في الجواب بأنها تعود لكبار قادة الحزب الشيوعي السوفيتي، فقال متسغرباً: وكيف يكون هذا، ونحن نثقف الناس على "حرمة" الملكية الخاصة، وان الناس يجب ان يعيشوا سواسية في مستوى واحد؟ ويجب ردم الفاصلة بين الاثرياء والفقراء، فكانت عودته الى محيطه الثوري في دولة بوليفيا بأميركا الجنوبية ليلقى حتفه بوشاية من مزارع وسط الغابات، مفضّلاً نهاية بهذا الشكل على أن يكون خلف المكاتب، أو في المقعد الخلفي للسيارات الفارهة، مما جعله أيقونة للثورة والتغيير لشريحة من الشباب حول العالم، بقطع النظر عن الايديولوجيا اليسارية التي يحملها.
إن أي تأخّر في وجود القدوات الصالحة في المجتمع يقابله تقدم لجحافل من القدوات لابناء الجيل الجديد تحمل معها سلعتها الثقافية، فتفرض –من حيث لانشعر- انماطاً من السلوك والملبس والمأكل وتصفيف الشعر، وحتى الحجاب، بل وحتى التعامل مع قضايا كبيرة مثل؛ الأسرة والوالدين، والزواج، والانجاب، والتعليم، وهؤلاء لا يصدرون الأوامر، ولا يحرمون او يحللون، ويفرضون ضغوطاً معينة على الابناء، بقدر ما يجسدون تصرفات ظاهرها بريء وباطنها مغشوش ومشبوه لما ينطوي عليه من آثار مستقبلية تغيب عن الابناء لكن يستشعرها الآباء.
هكذا كان الامام الشيرازي –طاب ثراه- في معالجته قضايا الأمة في زمانه، وهي؛ التخلف والبطالة والفقر، والتبعية، فكان قدوة في التبليغ، وفي التأليف، وفي الإسهام بحل مشاكل الناس، لذا كنّا نراه يكرر بإصرار على أن يكثر المؤسسون، والمبلغون، والكتاب، والخطباء، والعلماء، لا أن يكونوا شخصيات مرموقة لأنفسهم بقدر ما يكونوا يد العون لحل مشاكل مجتمعهم، ثم التطلع الى مراقي التطور والتقدم.