الامام الصادق: منبع العطاء ومنهل العلم وصخرة الصبر
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2023-05-15 05:50
(شهد عهد الإمام الصادق عليه السلام ازدهاراً واسعاً في العلم ونشر المعارف)
الإمام الشيرازي
تجمع الشخصيات العظيمة تلك الصفات الكبيرة التي تخلّدها على مر التاريخ، ونعيش هذه الأيام وفاة الإمام الصادق عليه السلام، هذه الشخصية التي جمعت أكثر الصفات نبلا وكرما وفائدة للبشرية، ألا وهي العطاء، والعلم، والصبر، وهي صفات تشكل ثلاثية قوية لبناء الإنسان، وتثبيت أقدامه في طريق خدمة الناس وتطوير حياتهم و وعيهم وأفكارهم.
ففي العطاء قال الهياج بن بسطام عن الإمام الصادق: (كان جعفر الصادق عليه السلام يُطعم حتى لا يبقى لعياله شيء). ومن يصل إلى درجة التضحية بطعام عياله من أجل الآخرين، فإنه سيكون مستعدا لخدمة الناس في كل شيء، بما يجعلهم قادرين على مواجهة مصاعب الحياة الكثيرة والكبيرة.
إن العطاء وهي صفة ورثها الإمام الصادق من السلالة المحمدية، ملَكة مزروعة في شخصية الإمام (عليه السلام)، فطبقها في حياته من خلال دعمه المتواصل للفقراء والأيتام، وتزويدهم بالطعام وبكل ما يحتاجونه بطريقته الخاصة التي أخفى فيها شخصه واسمه عمّن يساعدهم ويقدم لهم العطاء بشكل يومي
فقد جاء في كتاب الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) الموسوم بـ (الأئمة الأربعة عشر: الإمام المعصوم الثامن جعفر الصادق):
قال هشام بن سالم: (كان أبو عبد الله عليه السلام إذا أعتم وذهب من الليل شطره، أخذ جراباً فيه خبز ولحم ودراهم فحمله على عنقه، ثم ذهب إلى أهل المدينة فقسّمه فيهم ولا يعرفونه. فلما مضى أبو عبد الله عليه السلام فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان أبو عبد الله). وتوجد الكثير من الحكايات التاريخية التي تناقلتها الأجيال عن مواقف العطاء التي شكّلت علامة مضيئة في سيرة الإمام الصادق عليه السلام.
ازدهار العلم ونشر المعرفة
ومن الصفات العظيمة التي بزغت في حياة الإمام الصادق عليه السلام، حبه الجمّ للعلم وسعيه الدؤوب لنشر المعرفة، لدرجة أنه قدم الكثير من التضحيات في هذا الباب، لاسيما أن النظام السياسي الجائر ومنظومة الحكم الطاغية كانت تحارب العلم والعلماء، وتحاصر الأئمة الأطهر، وتضيّق الخناق حول الإمام السجاد، لأنها تخشى العلم، وتسعى لنشر الجهل وتطويق العقول بجدران الجهل الشاهقة.
لكن مع كل ذلك لم يترك الإمام الصادق فرصة لنشر العلم إلا واستثمرها بألف طريقة وطريقة، فكان يستقبل طلاب العلم في أماكن مخصصة لهذا الهدف، وفي الغالب تكون بعيدة عن أعين السلطات الحاكم، وكانت هناك أساليب علمية عالية الدقة، وكان الإمام عليه السلام يعدّ الطلبة ليصبحوا بدورهم علماء ومعلمين ويحثهم على تعليم الآخرين، فحدثت حركة علمية واسعة بين الناس، وازدهرتا المعارف بصورة واضحة وكبيرة.
وهذا ما أكده الإمام الشيرازي في قوله:
(لقد شهد عهد الإمام الصادق عليه السلام وببركته ازدهاراً واسعاً في العلم ونشر المعارف، حيث عكف الإمام عليه السلام على نشر العلوم المختلفة للناس).
وكانت الدروس والأفكار والمعارف التي يتلقّاها الطلبة عميقة الأثر في العقول، وكان تركيز الإمام الصادق عليه السلام ينصبّ على (نشر علوم أهل البيت عليهم السلام) بدءًا من المدرسة النبوية الخالدة، ثم مرورا بمدارس الأئمة الأطهار عليهم السلام.
حتى أن التاريخ يذكر لنا في أن هناك من المؤرخين والناقلين للعلوم والمعارف والأحاديث ما يفوق الأربعة آلاف، كل هؤلاء تصدوا لمهمة نقل علوم ومعارف ركز عليها الإمام الصادق، ونشرها بين طلبته، وسعى بأقصى ما يمكن إلى توصيلها إلى أكبر عدد من الناس، في صراع دائم ضد الجهل لصالح العلم، وهو صراع ضد الطغاة بالدرجة الأولى وحماية الناس من آفة الجهل، وحفظهم من وباء التجهيل الديني والفكري والسياسي آنذاك.
يقول الإمام الشيرازي:
(عمد الإمام الصادق عليه السلام إلى نشر علوم محمد وآل محمد حتى قال الشيخ المفيد رضوان الله عليه في الإرشاد: ونقل الناس عنه ـ أي عن الإمام عليه السلام ـ من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نُقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه السلام، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل).
وهكذا قدمت لنا صفحات التاريخ المضيئة بنبض الحقائق غير القابلة للإخفاء أو الاطفاء، قدمت لنا تلك المساعي العظيمة والكبيرة للإمام الصادق عليه السلام، وهو يرفع رايات العلم عالية خفاقة لإلحاق الهزيمة بالجهل، وهو أشد ما يخشاه الطغاة، بالإضافة إلى الآثار العلمية الكبيرة والميراث المعرفي الهائل للبشرية جمعاء.
المآثر العلمية لجابر بن حيان
حيث تنتشر علوم الإمام الصادق إلى الآن في عموم أرجاء العالم، وأقرب وأوضح مثال عن ذلك، ما قدمه تلميذ الإمام الصادق عليه السلام، وهو العالم الكيميائي المعروف بأفضاله العلمية الكبيرة (جابر بن حيان)، حيث لا يزال الإنسان يستمد الدروس العلمية الكبيرة من هذه هذا العالِم الذي يعد من أهم طلاب الإمام الصادق عليه السلام.
يقول الإمام الشيرازي:
(وإلى اليوم آثار الإمام عليه السلام موجودة في كل العالم، ومازالت البشرية تستفيد من علوم تلامذته في شتى الأمور، ومنهم جابر بن حيان الذي كان من تلامذة الإمام الصادق عليه السلام حتى قال ابن خلكان لدى ترجمة للإمام: له كلام في صنعة الكيمياء والزجر والفأل، وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيان الصوفي الطرطوسي قد ألف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق عليه السلام وهي خمسمائة).
أما ملَكة الصبر فهي تمتزج بشخصية الإمام الصادق، وتميزه عن الآخرين، وتذكر لنا الأحاديث والروايات ذلك الجلَد العظيم الذي يتحلى به الإمام عليه السلام، والذي حرص على أن يعلمه لطلبته، ويزرعه في عياله وأهله وكل المقربين منه، فاستطاع بذلك أن يزرع قيمة الصبر في نفوس الجميع، ويعلّمهم الصبر، حتى وصلوا إلى قناعة تامة بأن الصبر طريق النصر على أعداء العلم.
وهكذا تمكن الإمام الصادق من جعل الصبر أسلوب حياة للناس، فلا يجزعون من المصائب التي يكابدونها، ولا يتسلل إليهم اليأس الذي كان يسعى الحكام إلى زرعه في نفوسهم، بل تحصّنوا بالصبر ونقلوه إلى بعضهم وانتصروا به على أعدائهم.
وهذا ما يذكره الإمام الشيرازي في قوله:
(تجرّع الإمام الصادق يه السلام كبقية أجداده الغصص والويلات التي تشيب الرأس من قبل الحكومات الظالمة، إلاّ أنه عليه السلام كان يصبر ويصبّر عياله وأهله على البلاء ويبشرهم بما للصابرين من الأجر والثواب).
هكذا تمكن الإمام الصادق عليه السلام، من جعل هذه الثلاثية (العطاء، العلم، الصبر) منظومة متكاملة في إدارة الحياة، لتجعل الناس أكثر قدرة على الصمود ومقارعة الجهل والسعي للعلم، وتقديم العطاء والتكافل فيما بينهم، لصنع الحياة الأفضل للجميع، فهذه هي مدرسة الإمام الصادق عليه السلام التي تقوم على ثلاث دعامات (العطاء، العلم، الصبر) وهي درس واضح ومفهوم لمن يبتغي تجديد حياته وحمايتها من الانحراف.