بناء الدولة بين الإصلاح والقيادة الفاسدة
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2015-08-10 05:51
القيادة في أي مجال من مجالات الحياة، تنعكس عليها سلبا أو إيجابا، تبعا للقيادة نفسها، فالعائلة الصغيرة عندما يكون الأب قائدا جيدا لها سوف تكون عائلة ناجحة، والسفينة التي تمخر عباب البحر، عندما يكون قبطانها متمكنا سوف تصل الى مرفئها بسلام، والدولة التي يقودها قائد جيد، سوف تكون دولة قوية وناجحة، هذا الكلام بديهي ولا يختلف عليه أحد، وكما يُقال في المثل الشعبي (المهْرةُ بخيّالها)، بمعنى أن قائد الدولة والقبطان والخيّال ورب الأسرة، لهم قصب السبق دائما في البناء السليم والإدارة الناجحة.
فهل كانت الحكومات الإسلامية بمستوى المسؤولية، وهل كان حكّامها يعرفون بوعي تام حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم في بناء الدولة؟، تشير جميع الأدلّة التاريخية والواقعية، الى أن معظم الحكومات الإسلامية وحكامها فشلوا في أداء الواجب المنوط بهم، والذي يتعلق في إدارة شؤون مجتمعاتهم الإسلامية التي باتت في الزمن الراهن، من أكثر دول العالم تخلفا وتراجعا في الخدمات، وسوءا في إدارة الدولة وثرواتها ومؤسساتها ودوائرها كافة.
ولا شك أن هناك أسباب معروفة وواضحة تجعل الحكومة فاشلة، وتقود الحاكم من فشل الى آخر، فعندما يكون القائد والمسؤول الحكومي مشغولا بمصالحة الشخصية والعائلية والحزبية الضيقة، وعندما يرى أعضاء الحكومة قائدهم ونموذجهم بهذه الصورة، فلا شك أن ذلك سوف ينعكس عليهم، وسوف يكون الشعب هو الضحية دائما، ولا نخطئ حينما نقول أن الدول العربية والإسلامية ابتليت بقادة وحكومات من هذا النوع!.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الإصلاح) حول هذا الموضوع: (المسلمون في يومنا هذا ابتلوا بحكام عملاء، لا يرون إلا مصالح أنفسهم وأسيادهم، ويمنعون من الإصلاح).
إن الإمام الشيرازي يشمل بكلامه، منظومة الحكم في الدول الإسلامية والعربية كافة، وإذا كان الكلام قد صدر عن سماحته قبل عقود من الزمن، فإن الإمام قد استشرف المستقبل آنذاك، والذي بتنا نعيشه اليوم في ظل منظومة حكم لم تقم بدورها إزاء شعوبها ودولها كما ينبغي، فالمسلمون يعانون في العصر الراهن من حكومات لا تشعر بالمواطن، ولا تفي الشعب حقه، ولا تقدر حرياته ولا تحمي حقوقه، علما أن (الناس على دين ملوكهم)، فإذا كان الحاكم صالحا، صلح الشعب، والعكس يصح بطبيعة الحال.
لذلك يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: (هناك مسألة مهمة يتوقف عليها قضية إصلاح شؤون الناس وإفسادهم، ألا وهي مسألة القيادة ومن بيده زمام الأمور، لأن الناس كما في الحديث والمثل السائر على دين ملوكهم).
التخلف ومقومات الإصلاح
إن قضية بناء الدولة تقتضي جملة من الأمور، يقع في المقدمة منها وجود الحكومة الجيدة، والحاكم المكتمل، لأن المهمة الأولى التي ينبغي أن تقوم بها الحكومة تقتضي أن تكون عارفة ومهنية ومخلصة، ومؤهلات أعضائها عالية، ويتحلون بكفاءة عالية، من اجل القيام بالخطوة الأهم لتحقيق الإصلاح، ألا وهي معالجة التخلف، والقضاء على بيئته بصورة تامة.
إذ أن الإصلاح لا يلتقي مع التخلف في أي حال من الأحوال، بمعنى أينما كان التخلف موجودا، لا يمكن تحقيق خطوات إصلاحية حقيقية، وربما يكون هناك بعض الإجراءات الشكلية للإصلاح، من اجل خداع الآخرين، لكن الإصلاح الحقيقي يبدأ بقهر التخلف بصورة تام.
لذلك يقول الإمام الشيرازي في كتابه نفسه، بصورة واضحة: (من مقومات الإصلاح القضاء على بيئة التخلف). وهذا دليل لا يقبل الشك، أن الحكومة التي تسعى فعلا الى الإصلاح عليها أن تبدأ بمعالجة بيئة التخلف أولا.
وربما يتساءل البعض، هل هناك بيئة للتخلف، وما هو نوعها أو شكلها او مسبباتها؟، ولعل الإجابة عن هذه التساؤلات لا تستدعي الكثير من الخبرة والذكاء، فركائز التخلف معروفة للجميع، وهي في مجملها تقوم على الجهل والاحتراب والكسل والضجر والزنا والانحراف الجنسي، وسوى ذلك من مظاهر وأشكال الانحرافات الكثيرة التي يعجّ بها المجتمع المتخلف.
لذا لا يمكن تحقيق الإصلاح في مجتمع فاسد، ولعل مصدر هذا الفساد هو الحكومة وحاكمها، لأن السلطة عندما تعمل بجدية لتحقيق الإصلاح، أول خطوة تقوم بها هي القضاء على (الفساد بين أعضائها) حتى لو كان الحاكم نفسه فاسد لابد من إصلاحه، حتى يكون نموذجا للناس، لذلك لابد من القضاء على بيئة التخلف، حتى يكون الإصلاح في متناوَل اليد.
يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال: (للتخلف أيضاً بيئة خاصة به، فبيئة التخلف هي الجهل والنزاع، والكسل والضجر، وشيوع الزنا والانحرافات الجنسية، والمرض والكآبة، وعدم الأمن والبطالة، واشتغال الكل بملذاته ومصالحه بأقصى ما يمكنه وعدم الاعتناء بحقوق الآخرين، عدم تحمل المسؤولية وخدمة الآخرين، والعمل لكسب المنافع من أي طريق كان ومطاردة ما يتصوره من المضار كذلك، كلها من أسباب تكوّن بيئة التخلف).
القيادة السياسية الصالحة
إن الإمام الشيرازي يربط بين الإصلاح، وبين إيمان الحاكم وحكومته وأعضائها، ويؤكد سماحته المعادلة التي تنص على هذا المنطوق الواضح، كلما كان الحاكم أكثر إيمانا، كلما كان أكثر نجاحا في إدارة الدولة، لسبب بسيط أن الحاكم والمسؤول المؤمن سوف يكون أكثر خوفا من غيره، في لحظة الحساب القادمة لا ريب، لذلك يسعى للسير في طريق الإصلاح، ويقتص من الفساد وأصحابه ومظاهره، ويردع الأشرار، عن العبث في حياة الشعب.
وفي الوقت نفسه تكون هناك فرصة للمسيء من المسؤولين أن يصلح نفسه، ويعود إلى جادة الصواب، كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (كلما كان القادة ممن يؤمن بالله والرسول – ص- وأهل البيت –ع- وكانوا يخافون يوم الحساب، فإن نظام الحياة بأسره سيسير على طريق الخير والرشد والصلاح، فلا مكان فيه للفساد ولا مجال للإفساد حتى أن الخبثاء والأشرار يمكنهم الرجوع إلى حصن الدين وإصلاح سيرتهم وسريرتهم وبذلك تنمو الحسنات وتمحق السيئات ويكثر فعل الخير وينحسر فعل الشر في المجتمع، وبذلك يسعد الجميع بحياة هانئة سعيدة يكون فيها الميزان والأساس تقوى الله وطاعته).
ولكن عندما تؤول الأمور الى قادة فاسدين، وحكومات ظالمة، أعضاؤها من الباحثين عن الامتيازات على حساب الشعب وفقرائه، ولا يؤمنون بالله ولا يحسبون حسابا للعقاب الأخروي، فإن هؤلاء لا يمكن أن يقوموا بعمليات الإصلاح المطلوبة، بل يزدادون في غيّهم ويستمرون في نشر الفساد بين أفراد وطبقات المجتمع كافة، لأنها البيئة المناسبة لهم، لأنها بيئة صانعة ومنتجة للتخلف، والأخير يرفض الإصلاح ولا يلتقي به!.
وهكذا تتحقق مآرب وأهداف القادة المفسدين، فيعبثون بمقدرات المسلمين، ويمنعونهم من تحقيق التقدم المأمول، عند ذاك لن يبقى أمام الجماهير سوى الانتفاض ورفض الظلم الحكومي الذي يتجاوز على حقوقهم، ويحرمهم من أبسط مقومات الحياة وينتهك حرياتهم، بعيدا عن الإصلاح، بل يكون هؤلاء المسؤولين أكثر إيغالا في الظلم والفساد والإفساد، لهذا لابد من التصدي لمثل هؤلاء الحكام الفاشلين، بكل ما يمتلكه الشعب من قدرات، ومنها المظاهرات والاحتجاجات التي تعيد الأمور الى نصابها، لكي يتم درء التخريب الاجتماعي والأخلاقي الذي يطول المجتمع بسبب المسؤولين غير المؤمنين.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع بكتابه الذي يحمل عنوان (الإصلاح): (أما إذا كان زمام الأمور بيد أناس لا يؤمنون بالله ولا يخافون يوم الحساب، أناس انغمسوا في الشهوات واتبعوا الشيطان، فإن نظام الحياة لا محالة سائر على البغي والعدوان والفحشاء والمنكر، فيدب الفساد والإفساد في كافة أنحاء المجتمع، وتعم الفوضى وتنتشر الأفكار الهدامة والنظريات الباطلة، وتكثر المفاسد الأخلاقية والاجتماعية).