شورى الفقهاء وبناء الحكم الرشيد في فكر الإمام الشيرازي
حمد جاسم محمد
2015-08-09 01:06
كانت الشريعة الإسلامية ومنذ الوهلة الأولى شريعة متجددة تتداخل مع مفاصل الحياة كافة، فقد اشتملت على عناوين فقهية مؤطرة بقوانين تشريعية متكاملة سواءً أكانت على مستوى الفكر أم التطبيق وبشكل لا نظير له.
غير أن المسلمين ولاسيما في العهود المتأخرة لم يولوا هذه العناوين اهتماماً كافياً لإعطاء القوانين صفتها العلمية لا على مستوى الفكر ولا التطبيق بما يتلاءم وروح التطورات التي دخلت مجتمعاتنا فبقت أكثر هذه العناوين والقوانين مجرد نصوص ومآثر تروى على شكل حكايات لتأخذ في عصرنا الحاضر جانباً بعيداً كل البعد عما هو معاش في الحياة الواقعية.
وبالرغم من ذلك فهذا لا يعني ابتعاد المسلمين وبصورة نهائية عن التطبيق الحي لهذه القوانين خصوصاً بوجود علماء أفذاذ قاموا بحمل الرسالة العلمية للإسلام وإدخالها في قبة التطبيق، ومنهم المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، ومن بين تلك القوانين شورى الفقهاء الخاص بحكم المجتمع المسلم، إذ يعد الإمام الرائد في وضع اللمسات البارزة لإنشائه.
إن الدعوة إلى (الشورى) من قبل جمع غفير من الفقهاء والمفكرين والعلماء لم تكن في مقام الرد على نظرية تدعو إلى (أحادية القيادة)، بل كانت استنباطاً من الأدلة التي تؤكد لزوم الشورى واستحساناً عقلياً حول أولويتها على الفردية، كما إن نظرية (شورى الفقهاء) طرحت في صيغ وألفاظ مختلفة، وبالتصريح حيناً والتلويح أحياناً.
وسنبحث هنا في المواضيع التالية: مفهوم الشورى عند الإمام الشيرازي وآراؤه حول شورى الفقهاء.
الشورى عند الإمام الشيرازي:
لقد أضحت مبادئ الشورى في الإسلام أشبه ما يكون بمؤسسة دراسات تهتدي إلى خير الأمور وأرشدها، إذ أن مبادلة الرأي بعرضه على العقول يستدعي تحريك الرأي وتنشيطه فكرياً، فالشورى في حقيقتها تعميقاً لبناء مأسسة دراساتية في مظلة المجتمع تقوم على رعاية تنمية الحالة الفكرية والمهنية في حياة الأمة.
جاء في المعجم الوسيط: شاوره في الأمر مشاورة وشوراً: طلب رأيه فيه وأشار عليه بكذا: نصحه أن يفعله مبيناً ما فيه من صواب. واشتور القوم: شاور بعضهم بعضاً وتشاوروا: استشورا. والشورى: التشاور [1].
ويقول الإمام الشيرازي "قدس سره": "إن المشورة عبارة عن الاستطلاع على الآراء ليظهر الرأي الأصوب، وهو في باب الحكم واجب"، حيث قال سبحانه: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [2].
ويسهب المرجع الراحل عند تعرضه لنظرية الشورى من خلال قراءته لملامحها وأهميتها على الواقع المعاش، وما ينبغي أن تكون عليه، فيقول في جملة ما جاء في دراسته (الشورى في الإسلام): "ثم إن الاستشارية سواء في الحكومات الزمنية – مما تسمى بالديمقراطية – أو في الحكومات الإسلامية، هي صمام الأمان، وذلك لأن الناس كما يحتاجون إلى ملء بطونهم يحتاجون إلى ملء أذهانهم، فكما أن الجائع يخرج على من أجاعه بالإضراب والمظاهرة"، ولذا قال: "عجبت للفقراء كيف لا يخرجون بالسيف على الأغنياء" كذلك من لا يستشار يخرج على من أجاع فكره، مهما فرض نزاهة الحاكم، وكونه مطبقاً لقوانين البلاد، سواء كانت تلك القوانين إسلامية كما في بلد الإسلام أو غير إسلامية، كما في البلاد الديمقراطية [3].
ويقول الإمام الشيرازي: " ولا يكفي للحاكم الإسلامي أن يطبق مبادئ الإسلام وقوانينه، بدون قانون الشورى، لأن الناس يرون أنه لم يطبق قانون الإسلام الذي هو الشورى فينتفضون من حوله ثم يثورون عليه حتى إسقاطه، هذا إذا فرض أنه حسن الاستنباط وحسن التطبيق، وذلك قليل أو عديم، بل الظاهر أنه من غير الممكن الاستنباط وحسن التطبيق من الاستشارية في أصل مجيء الحاكم وفي مدة امتداده بعد المجيء، إذ الاستنباط المحتاج إلى العمل المداوم لا يكون حسناً، فكيف بالتطبيق الخالي عن الاستشارة الدائمة"، وفي الحديث الشريف "إن العلم ليدعو بالعمل فإن أجابه وألا ارتحل"[4].
شورى الفقهاء عند الإمام الشيرازي
كانت نظرية شورى الفقهاء المصداق الاجلى لتطبيق الفقه السياسي الإسلامي على ارض الواقع، إذ تمثل هذه النظرية في حال تطبيقها بنجاح الدليل على قدرة الفقه السياسي الإسلامي في التحول من مجرد حالة مثالية إلى حالة عملية تنطبق على ارض الواقع.
ومن بين القائلين بضرورة تشكيل (مجلس الفقهاء) تجنباً لمشكلة الاستبداد في الإدارة، وتحقيقاً للنصوص الشرعية التي تعطي الولاية لجميع الفقهاء، آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي الذي أتحف هذا الموضوع بالأفكار المستفيضة والأدلة المختلفة، يقول سماحته: (الولي الفقيه هو الفقيه العادل، الجامع للشرائط، والذي يكون مورد ثقة الناس وأهل الخبرة فإذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول، اختار المسلمون أحدهم رئيساً أعلى للدولة، ويحق لهم أن يختاروا جماعة منهم ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم، وهذا الثاني أقرب إلى روح الإسلام، حيث أن نظام الإسلام استشاري كما في قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وقوله (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)، فإن إطلاق الآيتين يعطي أنه بدون الشورى لايصح الحكم إلا فيما خرج، مثل حكم الرسول(ص) وحكم الإمام (ع)، وحكم من عينه نصاً مثل تعيين الرسول (ص) أسيداً على مكة، وتعيين علي (ع) مالكاً على مصر، فإنه لا مجال للشورى مع النص في الموضوعات كما لا مجال للشورى مع النص في الأحكام) [5].
ومن هذا التصريح نعرف أن رأي الإمام السيد الشيرازي هو: " أن للأمة كامل الحق في انتخاب واحد فقط لقيادتها، ثم يأتي دور القادة المعتمدين المنضوين تحت لواء الشورى"، إلا أن الواقع التاريخي والحوزوي أثبت بصورة جلية أن القيادة المرجعية غالباً متعددة المحاور، ذلك لأن الشريعة المقدسة فتحت باب الاجتهاد على مصراعيه ودعت إليه.. فالمراجع يتعددون، ويستمر التسلسل المرجعي متعدداً.
وعلى هذا فإن السلطة العليا في الدولة الإسلامية هي مجلس الفقهاء الذين هم مراجع تقليد الناس ومحل الأخذ والعطاء لأنهم هم نواب الأئمة(ع) وخلفاء الرسول (ص) الذي قال: "اللهم ارحم خلفائي. قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي"، وفي حديث آخر قال الإمام(ع): "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم" [6].
ومعنى ولاية الفقيه أن الذي يتصدى لإدارة البلاد والعباد على طبق القوانين الإسلامية هم الفقهاء الذين هم نواب الأئمة(ع)، وليس معنى ولاية الفقيه أنه يحق له الخروج عن القوانين الإسلامية والحكم وفقاً لرأيه، كما لا حق لبعض الفقهاء المراجع التفرد وإهمال وطرد من سواه فمثلاً إذا أرسل الإمام أمير المؤمنين ثلاثة أو أربعة ليحكموا بلداً، فإن الواجب عليهم أن يتشاوروا فيما بينهم، ويعملوا في أمور البلاد على حسب أكثرية الآراء، لا أن يستبد أحدهم ويطرد الآخرين، وعلى هذا فأمور التقليد راجعة إلى كل المراجع، فلو فرضنا في البلاد الإسلامية ذات الألف مليون مسلم مائة من مراجع التقليد، فهؤلاء هم السلطة العليا للأمة، يديرون أمور البلاد في السلم والحرب وسائر الشؤون بأكثرية الآراء [7].
إن شورى الفقهاء المراجع تعني اجتماع مراجع التقليد فيما بينهم ضمن (مجلس شورى) وتبادل الرأي في القضايا العامة التي تهم أكثر أبناء الأمة أو كلهم في زمان ومكان معينين، ثم التنسيق فيما بينهم للعمل والموقف المشترك [8].
وبهذه تكون الشورى لدى الإمام الراحل تحتل مكانتين لا ثالث بينهما في نظرية شورى الفقهاء المراجع، مكانة أدبية تعني: تبادل الحب والاحترام، ومكانة إدارية تنظيمية تعني: القيام بتنظيم جبهة اتحادية عريضة ومُهابة للتفكير والتخطيط الجماعي والعمل المتناسق الرصين لمعالجة قضايا الأمة والسير بها إلى الأمام وهذه الجبهة إنما تكون بالفقهاء المراجع [9].
وينطلق الإمام الشيرازي حول شورى الفقهاء ودورها في الحكم الراشد من المدرسة الشيعية في الحكم، تلك المدرسة التي لها أفكارها الخاصة حول الإمامة ودور الإمام فيها، فالإمامة عند الشيعة لا يتولاها إلا الأئمة المعصومين عليهم السلام، من الخطأ والنقص وإتيان الباطل، والإمامة تأتي بعد منزلة النبوة، ولان الإمام معصوم لا يجوز الاعتراض أو النقض عليه، ولا يحتاج إلى قوانين ودستور إلا ما يكتبه ويقره، بمعنى إن النبوة والإمامة من المناصب الإلهية، وبهذا يعرف الإمام الشيرازي الإمامة بأنها " هي رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابة عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهي واجبة عقلا، لان الإمام لطف، فانا نعلم إن الناس إذا كان لهم رئيس مرشد مطاع ينصف المظلوم من الظالم ويردع الظالم عن ظلمه كانوا إلى الصلاح والسعادة اقرب، ومن الفساد والشقاء ابعد..."، وبهذا يؤكد الإمام الشيرازي بان السلطة التي يستمدها الأنبياء والأئمة من الله سبحانه سوف تنتقل في حالة غياب المعصوم – النبي أو الإمام- إلى الفقهاء العدول بالنيابة، لان " الله عز وجل جعل خليفة له في الأرض ليقيم حكم الله وينظم شؤون الخلق، انه النبي (ص)، وبعده الإمام المعصوم (عليه السلام)، وبعده الفقيه العادل بل الفقهاء العدول، وهذا يعني إن الفقيه يمثل الإمام المعصوم (عليه السلام)، ومع تعدد الفقهاء تكون الولاية لشورى المراجع [10].
أنواع ولاية الفقهاء:
لقد حدد الإمام الشيرازي نوعين لولاية الفقهاء، الأولى أحادية الفقيه وهي وجود فقيه واحد جامع الشرائط في الدولة الإسلامية، سواء شملت حدود هذه الدولة كل العالم أو جزء منه، إذ يتولى الشخص الجامع للشرائط القيادة العليا بدون اعتراض، لان رئاسته واجب كفائي، ويزاول كافة الصلاحيات بدون الحاجة للانتخاب، وتكون مدة بقاءه في المنصب مفتوحة، طالما بقية يتمتع بكافة الشروط، ولعدم وجود من تتوفر فيه الشروط ليزاحمه على المنصب.
أما الثانية فهي تعدد الفقهاء، وهي وجود مجموعة من الفقهاء الذين تتوفر فيهم الشروط المطلوبة لتولي منصب الولاية الفقهية، وهذه طبيعية في الدولة الإسلامية، وملء المنصب يكون من خلال انتخاب احد هؤلاء الفقهاء أو تشكيل مجلس مشترك يجمعهم يسمى مجلس شورى الفقهاء، ولا يجد الإمام الشيرازي أي تعارض بين شورى الفقهاء وولاية الفقيه، لان شورى الفقهاء حسب رأيه هي عين ولاية الفقيه، إلا إن الولاية والسلطة هي لمجموع الفقهاء وليس محصورة بين شخص واحد[11].
طريقة اختيار وتسلم الفقهاء الحكم:
ولا يقف الإمام الشيرازي عند هذا الحد، بل يذهب في تفصيل واضح مبرمج، كيف يستلم الفقهاء الحكم؟! هذه القضية خطيرة وأساسية، فما هي الطريقة التي يقلد فيها الفقهاء الحكم؟
الإمام الشيرازي قدس سره يدافع هنا بقوة وحرارة عن (الانتخاب)، فالأمة هي التي تختار حاكمها في النظرية السياسية الإسلامية حسب تصور الإمام ا لشيرازي، ويقول الإمام: "الحاكم الإسلامي هو الذي يجمع بين شرطين هما:[12].
الشرط الأول كونه مرضيا لله سبحانه وتعالى، إن الولاية لله سبحانه، عقلاً وشرعاً، فلا يحق لأحد تولي الأمر بدون رضاه سبحانه؛ أما عقلاً فلأن الله سبحانه خالق الخلق، ومالك الملك، وكما لا يجوز - عقلاً - أن يتصرف أحد في ملك أحد إلاّ برضاه، كذلك لا يجوز التصرف في ملك الله إلاّ برضاه، وأما شرعاً فلورود الآيات والروايات بلزوم أن يكون من يلي الأمور مرضياً له سبحانه، مثل آية "إنما وليكم.." (المائدة: 55)، وآية "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء: 59).
والشرط الثاني كونه منتخبا من قبل أكثرية الأمة، في لقوله سبحانه وتعالى: "أمرهم شورى" (الشورى: 37)، وقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" (آل عمران: 154)، فإن إطلاق الآيتين يعطي أنه بدون الشورى لا يصح الحكم، إلاّ فيما خرج، مثل حكم الرسول (ص) وحكم الإمام (ع)، وحكم من عيّناه نصاً، مثل تعيين الرسول (ص) أسيداً على مكة، وتعيين الإمام علي (ع) مالكاً على مصر؛ فإنه لا مجال للشورى مع النص في الموضوعات، كما لا مجال للشورى مع النص في الأحكام.
وحيث أنه لا حكم إلاّ ورد به كتاب أو سنة - كما وردت بذلك النصوص - يبقى مجال الشورى في الموضوعات، فما دلّ على أن الشورى فيه ليس على سبيل الوجوب، نقول بعدم وجوب الشورى فيه، وإلا فظاهر الآية الوجوب؛ ولذا نقول بوجوب الشورى في الحكم، وعلى هذا يكون هناك انتخابان للناس هما: [13].
الانتخاب الأول: انتخابهم للفقيه العادل الجامع للشرائط، حتى يكون هو الذي يتولى عامة الأمور، وهذا ما يسمى بـ(ولاية الفقيه)، فإذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول، اختار المسلمون أحدهم رئيساً أعلى للدولة، ويحق لهم أن يختاروا جماعة منهم، ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم، وهذا الثاني أقرب إلى روح الإسلام؛ حيث أن الإسلام استشاري، كما أنه أقرب إلى الإتقان؛ وقد قال (ص): "رحم الله امرأً عمل عملاً فأتقنه"، وهؤلاء الفقهاء هم الذين يقررون السياسة العليا للدولة، بالاستشارة فيما بينهم؛ إما بأن يجعلوا أحدهم رئيساً، والبقية مشاورين، وإما بأن تنفذ الأمور بالهيئة الجماعية.
الانتخاب الثاني: انتخابهم لنواب الأمة، الذين يكونون بدورهم تحت إشراف الفقهاء، أي تكون (ولاية الفقيه) المشرفة العليا على النواب وعلى غيرهم، وبعد ذلك إن شاءت الأمة انتخبت رئيس الجمهورية، وبالتشاور بين الثلاثة يكون انتخاب الوزراء (السلطة التنفيذية) و(الهيئة العليا للقضاء) وإن شاءت الأمة جعلت انتخاب رئيس الجمهورية على عاتق السلطة التشريعية، والسلطة الفقهائية، ولعل انتخاب الأمة لرئيس الجمهورية أقرب إلى روح التشاور وإن كان يجعل الأمر أصعب.
إذن وبكل وضوح الحاكم الإسلامي يجب ان يأتي بالاختيار او بتعبير سياسي قانوني محدد بالانتخاب.
شروط الفقهاء جامعي الشرائط:
أما الشروط التي من خلالها يتم تحقيق هذه النظرية كما يوضحها الإمام الشيرازي، إذ يدعوا إلى أن الفقيه العادل هو الحاكم الأعلى في الدول الإسلامية، وسلطته ذات منشأ الهي في ركنها الأساس، كونهم يمثلون الإمام المعصوم عليه السلام، إن الفقهاء جامعي الشرائط هم الحكام، وهي ذاتها الشروط الواجب توافرها في الفقيه ليكون مرجع تقليد، إلا إن الإمام الشيرازي إضافة شروط أخرى تجعل تولي منصب ولاية الفقيه – القيادة العليا- في الدولة لا ينطبق على كل مراجع التقليد، وهذه الشروط الإضافية على شروط التقليد هي " الكفاءة في الحكم، الإتقان في العمل، الشورى بين العلماء والفقهاء، الانفتاح على المعارضة، التواضع وعدم الغرور، التفاف الجماهير حوله، التحلي بوصايا أمير المؤمنين (عليه السلام)، الإصلاح، محاسبة النفس، تجنب العنف مع شعبها ومع سائر الحكومات حولها، الولاية المحدودة للفقيه – أي رفض الولاية المطلقة للفقيه-، لان الولاية المطلقة حسب رأي الإمام الشيرازي هي "من خصائص الباري عز وجل وهو عادل لا يظلم احد، كذلك من خوله الله تعالى وهو الرسول الأعظم (ص)، والإمام المعصوم عليه السلام، ورغم إن مصدر السلطة هو الله سبحانه وتعالى، إلا إن الإمام الشيرازي يولي الشعب اهتماما متميزا، حتى انه جعل عزلة الحكام عن شعوبهم وإهمالهم لهم من الأسباب الرئيسية في تخلف المسلمين في الوقت الحاضر، لدرجة إن أي تحرك نحو الإصلاح والتغيير في واقع المسلمين لا يكتب له النجاح بدون التفاف الجماهير حوله، لان نجاح الحاكم بالتفاف الجماهير حوله، وفشله بترك الجماهير له [14].
فولاية الفقيه مقيدة بالإطار الإسلامي لدى الإمام الشيرازي الراحل، لان الله عز وجل جعل خليفة لـه في الأرض، ليقيم حكم الله، وينظم شؤون الخلق، حيث يقول الإمام الراحل: "إن القيادة الحقيقة هي لله تعالى، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإمام المعصوم عليه السلام، وفي زمن الغيبة لنواب الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وهم الفقهاء العدول، والذين تختارهم الأمة بكامل حريتها، وتكون على صيغة (شورى المراجع)، وتعمل بأكثرية الآراء ضمن الأطر الشرعية" ([15]).
من خلال استقراء الفكر السياسي للإمام الشيرازي نرى إن لمجالس شورى الفقهاء دور مهم في الحكم الرشيد في الدولة الإسلامية من خلال عدة أمور أهمها:
1- التأكيد على إن مراجع التقليد عامل الاستقرار وهم الضمانة الكبيرة لشد أواصر المحبة والوئام بين أبناء البلد الواحد من أية طائفة أو قومية أو عشيرة كانوا، ومن ابرز الشواهد على ذلك الدور الذي تقوم به المرجعية الرشيدة في تكريس دعائم الأمن واللحمة الوطنية في العراق.
2- شورى المراجع من الناحية الاجتماعية والسياسية جيدة ونافعة، يعني يلزم أن يكون للمراجع الأعلام شورى ليبحثوا فيها حول المسائل العصرية التي يبتلى المسلمون بها ويتبادلوا الآراء حولها وينظروا في وجوهها وجوانبها وهو عمل مهم جداً، لأن مرجع التقليد مهما كان واجداً للشرائط والمواصفات المرجعية ومهما كان مستواه عالياً إلا أنه لا يتمكن منفرداً من الإدارة للعالم الإسلامي لأنه بشر وإنسان، والإنسان يجوز عليه الخطأ والاشتباه، وفلسفة أمر الله لنبيه (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) هو لإرشادنا إلى أهمية المشاورة، وهو في الواقع متوجه لنا إذ لا مقايسة بين شخص عادي وبين مقام العصمة إذ إن أي عالم، غير المعصومين لو لم يتشاور مع العلماء الآخرين فقد يقع في الخطأ [16].
3- كذلك لا يقتصر دور الفقهاء بما يملكونه من علم ودراية دينية كبيرة فقط، فان لهم باع طويل في الأمور الأخرى سواء كانت سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وهذه لها دور في زيادة وعي المجتمع بأموره اليومية، ومن ثم تقود إلى تشكيل نظام سياسي يتوافق عليه أغلبية الشعب، إذ نجد مثلا إن الأولوية للإمام الراحل محمد الشيرازي قدس سره كانت لنشر العلم والثقافة وتأسيس المؤسسات الدينية والثقافية والاجتماعية، وانطلاقا من ذلك فقد ألف أكثر من إلف وثلاثمائة كتاب في مختلف حقول العلم والمعرفة وكان منها (موسوعة الفقه) في مائة وخمسين مجلدا، كما ألف تلامذته أكثر من عشرة آلاف كتاب، كما أسس أكثر من إلف وخمسمائة مؤسسة علمية وتربوية ودينية وخدمية في أنحاء العالم، وهذه كان ولا زال لها دور في نهضة الأمة الإسلامية [17].
4- المتتبع لتراث الإمام الشيرازي يجده يعطي اهتماما واسعا ومؤثرا لـ (شورى المراجع)، إذ يطرقها بين حين وآخر، وأن هاجسه هو لمنع الدكتاتورية، والانطلاق نحو الحكم الديمقراطي الرشيد، لحفظ كرامة الإنسان، وتطبيق مبادئ الإسلام، إذ يؤكد الإمام الشيرازي المحذور الشرعي، وهو أنه لا يحق لبعض المراجع الذين هم خلفاء رسول الله (ص) ووكلاء الإمام(ع) أن يستبد بالأمر، ولنفرض: أن الرسول (ص) أرسل أربعة وكلاء إلى بلد ليكونوا حكاماً فهل يحق لأحدهم أو لاثنين منهم أو حتى لثلاثة منهم، أن يدفعوا الآخرين أو الآخر عن حقه ويستبدوا بالأمر؟ وهكذا في زمان غيبة الإمام (ع) حيث يقول: "جعلته حاكماً عليكم" فالفقيه حاكم من قبل الإمام (ع) "فإذا اختارهم الناس، كان الواجب أن تكون بينهم شورى لإدارة الحكومة..."، وحيث إنه لا حكم إلا ورد به كتاب أو سنة، كما وردت بذلك النصوص مثل قول الصادق (ع): " ما من قضية إلا ولله فيها حكم" وقوله تعالى: " وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" و" وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ"، فينحصر مجال الشورى في الموضوعات، فما دل على أن الشورى فيه ليس على سبيل الوجوب، فلا وجوب للشورى فيه، وإلا فظاهر الآيتين الوجوب، والجدير بالذكر أن آية (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أكد في الدلالة على الوجوب لأنها إنشاء في سياق الإخبار، وقد ذكر صاحب الكفاية (الآخوند قدس سره) هذه التأكيد مستدلاً بأن الإخبارات التي في مقام الإنشاء حيث إنها ترسل إرسال المسلمات فهي أكثر تأكيداً على الوجوب مما لو كان الأمر بصيغة الإنشاء [18].
5- ثم يؤكد الإمام الشيرازي "إنه لا إشكال في أن كل نظام كان أقرب إلى طاعة الله، وأبعد عن سيطرة الظالمين، وأنفع للمسلمين، فهو واجب لا يجوز التنازل منه إلى نظام ليس كذلك، ولا شك أن نظام الشورى فيه هذه الخواص، إذ ليس في قبال الشورى إلا الديكتاتورية، والمجتهد العادل، وإن لم يكن مغيراً لأحكام الله بلا شك، لأنه يفهم الأحكام، ومن يختاره من المنفذين، فربما كانت المصلحة الصلح مع الأعداء وهو يحارب أو بالعكس، وربما كانت المصلحة اتخاذه فلاناً مستشاراً لا فلاناً فيتخذ مستشاره من لا صلاحية له، ولا يؤمن المجتمع من هذه الأخطاء إلا بالشورى، حيث تكون صلاحيات المرجع حينئذ محدودة، وحيث يجد له الرقيب والمنافس فيهتم أكثر فأكثر، كما أن مستشاريه يهتمون في الضبط أكثر فأكثر، وبذلك يكون الحكم مأموناً عن الانحراف الكثير وهذا الدليل (صغرى وكبرى) ضروري لكل مطلع على الموازين الإسلامية وعلى ما يراه الإنسان في الخارج من الواقع المعاش لدى المجتهدين العدول" [19].
وبذلك اثبت الإمام الشيرازي وفي أكثر من مناسبة انهيار الاعتقاد السائد بان الدين يقتصر على ممارسة العبادات والمعاملات، بل هو أيضا ممارسة للقيم الإنسانية والنظم الحياتية والأفكار البناءة التي صنعت عالم الأمس وستصنع عالم اليوم.
لقد استطاع الإمام الشيرازي أن يجمع بين الأمرين من خلال نظرية شورى الفقهاء المراجع التي تعني عودة الدين المحمدي وعودة الشورى والتي تمثل الحكم الشرعي للديمقراطية الحقيقية، وقد جمع بينهما بصورة فنية رائعة، راعى فيها حق العلم من جهة وحق الأمة من جهة ثانية، كما راعى فيها أصالة الحرية إلى ابعد الحدود وهي القضية التي يؤمن بها أيمانا عميقا، وربط بينها وبين العدالة ربطا جدليا محكما، وشورى المراجع هي الصورة الإسلامية المثلى للحكم الإسلامي كما يرى الإمام الشيرازي- ولكن ليس عن طريق الفرض القهري القسري، وإنما برضا أكثرية الأمة، حيث يدخل الانتخاب هنا، والذي يستلزم الحرية والعدالة في آن واحد، ويذهب في الصدق مع الذات والغير إلى ابعد الحدود عندما يقرر أن الأمة إذا اختارت أحد فقهائها فهي حرة، ولا سبيل للاعتراض.
إن نظرية الإمام الشيرازي تحترم العقل والإرادة، وتتوافق مع تطلعات الإنسان لان يكون مشاركا في صنع مصيره، ولا نغالي إذا قلنا أن الأخذ بالنظرية مع ملاحظة مجرياتها التي ذكرناها توفر مناخا صالحا لنمو الإرادة الشعبية والضمير الحر.