في ذكرى رحيل الامام الشيرازي... نستذكر ثمن الاقتداء
محمد علي جواد تقي
2015-08-02 08:27
من أروع ما يقدمه الاسلام للإنسان في مسيرة التطور والنمو في المجالات كافة، فرصة الاقتداء بالنموذج الأنجح والأكمل من خلال التزام حالة "التأسّي"، وهي مفردة نابعة من "المواساة" او "المحاكاة"، يُفهم منها امكانية المشاركة والمساهمة فيما هو عليه من السيرة والسلوك، ويتعلق النجاح في هذه المهمة بالقدرة على التطابق بين الحالة الموجودة لدى الانسان، وبين الحالة التي عليها ذلك النموذج الأكمل. والدعوة واضحة من القرآن الكريم: {ولكم في رسول الله أسوة حسنة}.
هذه الحظوة لا نجدها في الأمم والشعوب الاخرى التي أولدت العظماء من عباقرة العلم والفكر والابداع. فهنالك – مثلاً- شخصية علمية كبيرة مثل "انشتاين" أو "نيوتن" أو أديب كبير مثل "فيكتور هوغو" أو قائد محرر مثل "غاندي" او غيرهم، فهؤلاء قدموا لشعوبهم الانجازات الباهرة وبعد حين من العمر، غادروا قافلة الحياة، كأي انسان آخر، وتحولوا الى رمز او شعار يحتفون به، ولكن؛ لم يتمكن أحد في الهند من مواساة غاندي، كما لم يتمكن أحد في الغرب من مواساة العلماء العباقرة فيما لاقوه من تهميش وطرد ومختلف الضغوطات النفسية، والسبب واحد؛ وهو أن هؤلاء ناضلوا وبذلوا وضحوا من أجل اهداف محددة بالزمان والمكان، ومن أجل قيم ومبادئ لا ترقى لأن تكون صالحة للأجيال القادمة، لذا نجد – مثلاً- ان غاندي حرر بلده من الاستعمار، فيما بقي شعبه من بعده يرزح تحت وطأة الفقر والحرمان.
إذن؛ فان "الاسوة" ثم "القدوة" عندما تنجح عندنا، فانها تخرّج مثل الامام علي بن أبي طالب من مدرسة النبي الأكرم، صلوات الله عليهما، وتخرج مثل مالك الأشتر من مدرسة الامام علي، عليه السلام، وتخرج هشام بن الحكم من مدرسة الامام الصادق، عليه السلام، وهكذا المسيرة تستمر حتى وقتنا الحاضر، حيث ظهر كبار العلماء المجاهدين في الامة، وهم يتأسون بأخلاق وسيرة أهل البيت، عليهم السلام، ويقتدون بهم، فعملوا وقدموا وضحوا في نفس الطريق الذي مضى عليه الأولون.
ومن هؤلاء، المرجع والامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- الذي عُرف بتأثره الشديد بشخصية الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في كل شيء؛ في سلوكه وأخلاقه وعموم سيرته في الحياة. وفي ذكراه نتحدث عن شخصيته المميزة في كثير من الجوانب، وأهم ميزة إعداده لجيل من العلماء والخطباء والمثقفين خلال حوالي نصف قرن قبل تاريخ وفاته، اضافة الى بصماته في نفوس مختلف شرائح المجتمع، من الطفل الصغير والشباب والمرأة والشيخ الكبير، من الفقراء والاغنياء وعامة المجتمع، مما يحفّز الكثير من الطامحين لأن يكونوا مثله، أو على الاقل يقتدوا به في بعض جوانب شخصيته، سواءً العلمية منها أو الاجتماعية أو الفكرية. وكما اسلفنا، فان القضية بحاجة الى "مواساة" لتحقيق "الأسوة الحسنة"، وهذه المواساة بدورها بحاجة الى تضحية ببعض الامور التي ربما تكون عقبة في الطريق. لذا نلاحظ الامام الشيرازي ضحّى بكل شيء من اجل اهدافه السامية ومبادئه وقيمه التي أخذها بدوره من والده وأسرته، على خط ممتد يصل الجميع الى أهل البيت، عليهم السلام. فعندما يتحمل الضغوطات النفسية الشديدة، ويتخلّى عن كل اسباب الراحة والرفاهية، فانه بذلك يتأسّى بالنبي الأكرم تحديداً، وما تحمله وتجرعه خلال تأدية الرسالة. ومن هذه النقطة التي انتهى اليها الامام الراحل يفترض ان تبدأ مسيرة جديدة لإحياء نفس تلك القيم والمبادئ لإبقاء الرسالة مشعّة معطاءة كما هي طيلة القرون الماضية.
بيد أن مشكلة البعض من المتأثرين بشخصية الامام الراحل تبدأ من أنهم يتحدثون بالاقتداء به ويدعون له في المحافل الثقافية والمناسبات العامة، إلا انهم يتوقفون عند نقطة "التأسّي"، ويبدون عجزاً في تحقيق "الأسوة الحسنة"، بمعنى أنهم يدعون العمل بسيرته لكنهم يتخلفون عن مشاركته صفاته وسيرته، وفي مقدمتها التضحية والتفاني في جميع نواحي الحياة؛ التضحية بالمال والسمعة والمكانة الاجتماعية من أجل الاهداف الكبيرة والبعيدة المدى، ولا يرى أي مصلحة خاصة، وحتى وإن كانت عبارة عن كرسي بسيط يجلس عليه، ومن الضرورات الصحية، فهو يتغاضى عنه ويكتفي بالقليل وبساطة العيش الى أبعد حدود. وهذا ما يبدو عسيراً على البعض، علماً أن أمير المؤمنين، عليه السلام، بين لنا كيفية تسهيل الامر في حديثه الشهير: "ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد...".
إن التأسّي الحقيقي والاقتداء الصحيح بشخصية الامام الراحل، من شأنها ان تضعه في مكانه الحقيقي في الساحة السياسية والاجتماعية، فكما انه – قدس سره- ضحّى من أجل وحدة الصف وإحياء القيم والفضائل ونصرة المظلومين، فان المضحين من بعده سيمنحون الافكار والطروحات المنتشرة بين طيات مؤلفاته، المزيد من الحيوية والتفاعل مع الواقع الذي يعيشه الناس.
لقد قدم سماحته العديد من الطروحات الكبيرة والحضارية في عقد السبعينات والثمانينات، وها هي تثبت صحتها، فيما كان سماحته يواجه التكذيب والاستهجان في تلك الفترة، ليس أقلها التغيير السياسي سلمياً، ودعوته الى الحريات العامة وحرية الرأي، وأن تكثر في المجتمعات الاسلامية العمل المنظم ضمن هيئات وجمعيات لمختلف الاختصاصات الطلابية منها والعمالية والفلاحية والمهنية وحتى السياسية، وكذلك انتقاده مسألة تحديد النسل، وحرية العمل والتملك والسفر وغيرها من الطروحات التي قدمها سماحته في العقود الماضية.
والحقيقة نقولها للتاريخ؛ بان ظاهرة العجز في التأسّي بالامام الشيرازي لدى البعض، لم تكن وليدة المرحلة التي أعقبت وفاته، إنما كانت تعود الى أيام حياته، بل وفي المرحلة الاولى من مسيرته الفكرية والثقافية في كربلاء المقدسة، والى ذلك يشير سماحته في كتابه "لكيلا تتنازعوا" بأنه واجه حالات انزعاج من البعض لانه لم يتخذ موقفاً مؤيداً لهم في مشروعهم الانشطاري عن مشروع آخر لم يعجبهم مواصلة العمل معه، أو انه واصل علاقاته مع اصحاب المشروع الأم، وهنالك الكثير من هذه الامثلة التي يعود تاريخها الى ستينات القرن الماضي، ولا أبالغ في القول، بان الجهد النظري يعاضده الجهد العضلي والمساعي الحثيثة والتضحيات والتحديات التي خاضها الامام الراحل في كربلاء المقدسة، ثم في المهجر، وسعة الطروحات الحضارية التي قدمها للأمة من شأنها ان تشكل رافداً عميقاً من شأنه ان يصنع أحداثاً جسام ويفرض نفسه على الواقع السياسي والاجتماعي في العراق وفي المنطقة برمتها، فيما اذا كان يحمله هرماً متكاملاً ومتراصاً من النخبة الواعية والمسؤولة والقاعدة الجماهيرية الرصينة.
مع كل ذلك، نقول: الفرصة ما زالت قائمة، وكما أن أمير المؤمنين، عليه السلام، يدعونا دائماً بأن "أعينوني بورع واجتهاد....". وقد لبّى هذه الدعوة سماحة الامام الراحل، فانه قدس سره- يدعونا ايضاً اليوم، وفي كل يوم، الى تحمل المسؤولية الحقيقية من خلال سعة الأفق وتجاوز صغائر الامور والتطلع الى مصالح الأمة والجماهير، وتحقيق التعايش، والالتزام بالوسطية والاعتدال، ونبذ التطرف والعنف والاستبداد، والالتزام بالاخوة واللاعنف والشورى والتعددية ومداراة الآخر واحترام الآخرين، ثم الايمان والتوكل على الله – تعالى- وحده، فهذا وحده الذي يصنع المعجزات.