الذكرى الرابعة عشر لرحيل المجدد الثاني الإمام السيد محمد بن مهدي الحسيني الشيرازي أعلى الله درجاته

شيرازي نت

2015-07-19 10:58

الثاني من شوال ذكرى رحيل سلطان المؤلفين الإمام السيد محمد مهدي الحسيني الشيرازي أعلى الله دراجاته النجل الأكبر للمرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي قدس سره.

كلمة وتنويه:

إن الكتابة عن الرموز التاريخية الكبيرة ليس بالأمر السهل خصوصاً إذا كانت الكتابة عن شخصية متفرعة الجوانب ومتعددة المواهب وما سيرتها إلا بحراً تسكن فيه اللآلئ والدرر والجواهر ولكن يصعب الغوص فيه لاستخراجها، مثل شخصية سماحة الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس سره.

لذا سأعلن مسبقاً عجزي عن إمكانية الإلمام بشمولية حتى فصل من فصول حياته أو التجوال بحرية تامة وبكفاءة أتم في إحدى محطات مسيرته الطويلة المليئة بالأحداث المشوقة للكاتب والقارئ.

نسب وتراث:

ربما يكتسب من ينتسب إلى الدوحة المحمدية الشريفة الفخر والشرف والإعتزاز، لكن هذه الأسرة الكريمة التي يرجع نسبها إلى الإمام علي بن الحسين بن علي عليهم السلام أكسبها هذا النسب الكثير الكثير ومما كسبت العلم بمضامينه السامية فتميزت بالعلم إضافة إلى المميزات الأخرى التي يحق لها أن تفخر بها منذ إنطلاق تاريخ تواجدها الممتد إلى مائة وخمسين عام وهي مسيرة مفعمة باكتساب العلم والمعرفة والكرامة والتزود التام بالورع والتقوى مصانة بالتواضع والزهد والخشية من الله في ترويج ونشر علوم أهل البيت عليهم السلام، ذلك النشر الذي أعدوه ذمة في أعناقهم وزكاته تعليمه للآخرين.

خصائص وميزات:

رغم إن صفة تكريس أغلب الوقت وصب اهتمامهم على التحصيل العلمي وعلى حيازة المراتب في اكتساب العلوم الدينية ورغم إنها إمتازت في ذاك غاية الإمتياز وعانت ما عانت في ممارسة التحصيل ولم تدخر جهداً في نشره لكنها لم تتوقف في مرحلة معينة ولم تتخذ الدراسة والإكتساب والتحصيل بصيغته التقليدية، بل بعقلية متفتحة وممارسة متطورة وبصيغٍ متجددة. هذه الصيغ التي اكتسب منها سماحة الإمام الراحل صفات وصفات وسجايا ربما إنفرد بها كمرجع ومنها الوطنية والإهتمام بالثقافة الوطنية ومقارعة الإستعمار ومعارضة غزوه الثقافي والسياسي والإجتماعي وغيرها، فذاك صاحب ثورة التنباك الميرزا محمد حسن الشيرازي وبعده صاحب ثورة العشرين الميرزا محمد تقي الشيرازي قدس الله سرهما. حتى آلت النوبة للمجدد سماحة الإمام الراحل الذي من أبرز صفاته الغيرة على المبدأ وعلى صيانة المقدسات الإسلامية وإبعاد أعداء الإسلام عنها، فكان مدافعاً بكل ما تعنيه الكلمة من شمولية عن العقيدة وعن العرض والشرف لكل المسلمين وعن المقدسات بوطنية ربما لا يفهمها الكثيرون، تلك الوطنية الصادقة الشريفة النزيهة التي لم تكن غطاءً أو ستاراً أو ذريعة للإنتفاع أو طريقاً للمكاسب والمطامع. والتي دفع ثمنها غالياً في مسيرة حياته الشريفة.

مراكز ومؤسسات في كل مكان:

 إتصف سماحته بالغزارة في عطائه، فهو غزير في كل صفاته ومميزاته، لذا اتصف بل إنفرد بتكريس جل وقته وبذل الجهود المضنية بتأسيس المراكز والمؤسسات الدينية والثقافية، وقد أدت دورها بجدارة فائقة إذ كانت النية في تشييدها نية صادقة جوهرها الخلوص لله والهدف إتمام مكارم الأخلاق ومواصلة التربية الإسلامية بثقة عالية ونشر فكر أهل البيت عليهم السلام وإن تأسيسه هذه المراكز والمؤسسات لم ينحصر داخل العراق فحسب بل امتداد ليصل إلى أقصى مدن العالم فوصل امتدادها إلى لندن على سبيل المثال وديترويت ومونتريال ولوس أنجلس ونيويورك وحتى إلى مجاهل أفريقيا، ولم تكن هذه المراكز مجرد هياكل ومجمعات يجتمع فيها أناس ليمدحوا ويمتدحوا بل كان لها الأثر الكبير والدور الفاعل في تغيير النفوس وإنارة العقول وتفتح الأذهان وتفقه القلوب وأدت دورها في الحفاظ على البذرة التي بذرت داخل النفوس لشجرات العقيدة والمنهج الإسلامي الحر، حافظت إلى سلامة وديمومة الفطرة التي يمتلكها المسلمون في الولاء لأهل البيت عليهم السلام وساعدت على إيصال الفكر الإسلامي إلى أقصى نقطة من بقاع العالم وقد صارت بعض المؤسسات موطناً آمناً للكثير من الغيارى الذين أصبحوا في مقدمة حماة العقيدة والدين والمذهب.

وبذلك كان لسماحته الفضل الأكبر في تعريف الآخرين على مناهج العقيدة التربوية وبأنها هي الطريق الأسلم والأكثر أمناً إلى الحضارة وإن الدين هو نبراس الشعوب ساعة إنطلاقها في المسيرة الحضارية وهو السلم الذي به ترتقي الأمة أعلى الذرى لنيل كرامتها.

كلما ازدادوا... زدنا:

إن الضغوط التي تمارس على الفرد أحياناً تسبب أزمات مختلفة نتيجتها انتكاسات تنعكس على ممارساته وتصرفاته وربما حتى عل من يحيط به سلباً وتؤدي إلى إحباط معنوياته ومعنويات أتباعه. ومن ضمن الضغوط التجويع والإعتداء على مقدسات الفرد ومعتقداته أو قتل ذويه وأحبائه أو التهجير وسلب الحقوق وما شاكل ذلك.

لقد تعرض سماحته لأبشع أنواع الضغوط وأصنافها، ولكن كانت النتائج والإنعكاسات كلها عكسية تماماً لما كان يراد منه فيبدو إنه كل ما ازدادت الممارسات القاسية ضده كلما ازداد صلابة وحيوية ونضوجا بل قد استغل حتى مصائبه ونكباته ومعاناته لبث الإشعاع الفكري، فكلما ازداد الطرق والقدح عليه ازداد اشتعالاً بفكره وعزيمته فاستثمر حتى آلامه في استخدامها استخداما أمثل لنشر الفكر العقائدي والوعي الديني، فبهذه الكيفية أرسى دعائم الجهاد والكفاح.

سلطان المؤلفين:

يبدو أن ابتداء التأليف في سن مبكرة كان الخطوة الأولى لقطع مسافة الألف ميل والتي هي عبارة عن روضة مزدحمة بالأزاهير المتنوعة لم يغلق مداخلها ومنافذها إلا الموت، هذه الروضة رواها نبع اسمه (سلطان المؤلفين) ورموز هوية الدخول إليها النبوغ الفريد والذكاء الوحيد والإطمئنان الأكيد والذوبان في محبة عيبة علم الله واكتساب العلم بصيغة ليس لها منازع وبنية منزوعة المنافع وقد تعذر دخول غيره إليها حيث لا أحد يحمل هوية تؤهله ولوجها.

منذ انشغال العلماء والمفكرين والأدباء والمؤلفين بالتأليف أخذت تتباين الخطوط البيانية لمستويات القدرة والقابلية على التأليف حتى تفاخر الغربيون بأن أحدهم توصل في تأليفه إلى رقم قياسي لا مشابه له، وهذا الرقم تعداده 600 ستمائة مُؤَلف، ولكنهم أغفلوا بأن سماحة الإمام الراحل لم ينل لقب (سلطان المؤلفين) إلا بعد أن خولته إمكانيته أن يمتلك أكبر سلطنة للتأليف وأن يتربع على عرش مملكة الإعداد الفكري فضاعف عدد تأليف مؤلفهم وتعدى حتى نصف الضعف الثاني، فكان طوفان فكره لا يمر بوادي حتى روّى يبابه فأزهر بالمعرفة والتوضيح، لم تتحدد محطات كتابته الفقه، الإصول، التفسير، الأحكام، المعاملات، الأخلاق، العقائد، الإجتماع، الحضارة، الصحة، الصناعات، الإقتصاد، الطب، السياسة، الزراعة، المرور، الأحوال الشخصية و.. و.. وعدد ولا حرج ولو أردنا أن نحصي ونعدد فسوف نحتاج لما يحتاجه الذاهب في سفر طويل غير محدد.

الشورى بين المبدأ والمعارضة:

قد يحسن البعض الغوص في البحار العميقة الواسعة بسبب امتلاك الكفاءة واكتسابه خبرة واسعة في هذا الفن أو هذه الرياضة ولكن البعض الآخر يفضل أن يمارس السباحة في الشطآن والأنهار العريضة بمقدرة فائقة وبجدارة لائقة وهنالك صنف من الناس لا تتجاوز امكانياته حدود العوم في الروافد المتفرعة من الشطآن والأنهار وكلٌ بقدر ما اكتسب من خبرة تمكنه من العبور والإجتياز السريع.

فموضوع الشورى الذي انفرد واشتهر فيه سماحة الإمام الراحل موضوع قد يتعذر عليَ تعريفه بسهولة تامة أو توضيحه بتفصيل كافٍ ووافٍ مهما حاولت الحديث عنها ليس كمفردة أو مصطلح بل كفكرة أو سياق، ومن أجل الإستجابة لدعوة الإمام الراحل إذ يقول (تبدأ مسؤولية الكاتب في توجيه الرأي العام نحو الإسلامية الناصعة ومنها رفض الإستبداد والأخذ بشورى المراجع).

الديمقراطية الإلهية التي أول من وضع أسسها القرآن الكريم إذ عرفنا بها الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم وخطابه العظيم في آياتٍ عديدة منها ما هو ظاهر مباشر واضح ومعروف ومنها ما هو باطن يحتاج لآلية استنباط بحكمة واستعداد لمعرفة التأويل (وأمرهم شورى بينهم) الشورى: 38، ثم (وشاورهم في الأمر) آل عمران: 159، وبعد ذلك الأحاديث النبوية التي قربت إلى الأذهان تفسير الآيات ووضحت مضامينها بتبسيط سهل للعامة معرفتها وبما أن معرفتي للموضوع وإطلاعي عليه إطلاعاً سطحياً وهامشياً لذا سأمر على هذا الموضوع مرور الكرام، القصد منه التذكير بمناداة سماحته المستمرة والملحة لأهم عنصر من عناصر حماية المرجعية والحفاظ على تماسكها.

ربما نادى الكثيرون لمبدأ الشورى وادعى الكثيرون بضرورة تطبيق هذا المبدأ ولكن لم يلتفت أحد بشكل جدي صادق لأهميته ولم يقترب حتى من المناداة به بل ازداد البعض على ذلك إذ تمادى في معارضة المبدأ ومن ينادي به ويبدو أن هنالك دوافع كثيرة لهذه المعارضة نحن الآن في غنى عن ذكرها.

مبدأ في الحكم:

ولكن سماحته بما إنه اكتسب من العلم ما يؤهله لأن تكون له القابلية الفائقة في الفهم للحقائق وللأحكام والتطبيق والإستنباط وبإطمئنانه بأحقية حيازته مركز التقليد الذي منحه بطاقة الدخول إليه المقلدين بعد التأكد بشكل تام ومطمأن من توفر الشرائط فيه مضافا للعلمية وصفات أخرى ولتأكد سماحته وبثقة عالية من دقة نظرته الفاحصة وشدة بصيرته الثاقبة وصفات قد لا تتوفر في غيره، هذا الاكتساب وهذا الإطمئنان جعله ينادي بصراحة تامة ودون أي تردد بل يشدد على ضرورة تطبيق مبدأ الشورى وجعله ركن من أركان الحكومة الإسلامية والفقهية والسياسية والإجتماعية ولا يمكن تلخيص فكرة الشورى إلا في وصفها بأنها صرخة عالية يصيح صداها (لا للإستبداد).

الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم. هذا المفهوم لا يغيب فهمه واستيعابه عن ذهن أحد منا، خصوصية التسلط والملكية منحسرة على مالك النفس والمال فلا يمكن أن يتسلط أحد عليهما إلا برخصة مسبقة وتخويل مصرح به، والتشاور وتعاطي الآراء والأخذ بها بواسطة المشورة يمكن أن يعد إذناً للتصرف بأموال الناس وبأنفسهم، فعندها يكون للحاكم الحق في إدارة شؤون الناس وإلا فإن ولايته وتصديه للحكم باطل وغير شرعي وقد ارتكب خطيئة في هذه الإدارة إذ هي مغتصبة لا تحمل أي ترخيص، والكثير من الحكام يمنح نفسه الحق في التصرف إذ خولته بذلك عنجهيته وطغيانه وجبروته فراح يصول ويجول في ميدان مملكته المغتصبة واضعا كرسيه على صدور الناس ليكتم بذلك أنفاسهم.

الحاكم الإسلامي:

وربما يحاول الحاكم أن يعدل في حكمه بتطبيق المبادئ الإسلامية والقوانين الشرعية ولكن رفضه مبدأ الشورى مخل بشرعية حكمه إذ أن من مبدأ تطبيق الشورى ركن مهم من أركان الحكم وتركه يخل بعدالة الحاكم لأنه يعكس صورة الإستبداد والإنفراد بالرأي يقول الإمام الراحل: (الحاكم الإسلامي رجل مؤمن يفقه الدين تماما ويعرف شؤون الدنيا ويتحلى بالعدالة التامة فمهما توفرت هذه الشروط ورضي به أكثر الناس يبقى حاكماً ولو خمسين سنة وإذا فقد إحدى هذه الشروط عزل عن منصبه فوراً، ولكن إذا لم ترضَ الأمة ببقائه رئيساً حق لهم تبديله إلى غيره ممن جمع الشرائط). وقد أخذ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله المشورة حتى عندما كانت تخالف رأيه أحيانا وهو المبعوث رحمة للعالمين وعيبة علم الله وخازن وحيه ورغم ذلك فعمد إلى ممارسة الإستشارة مع الأخرين تنازلياً أي يستشير العالم العارف من هو دونه في العلمية والمعرفة والأخذ برأي الآخرين وبذاك يجعل أفراد الطبقة الدنيا لا يدخر أحدهم جهداً في البحث عن الأدلة ومحاولة التبحر والوقوف على ساحل الصواب والإتيان بنتيجة يمكن أن تكون رأياً معتبراً يُأخذ به، وهذا دليل رجاحة عقل العالم المستشير حيث إنه استطاع أن يجعل المستشارين يدركون أهمية وجودهم باحترام مشاعرهم. وحين تصبح الشورى مشعلاً وهاجا في ظلمات مسيرة الشعوب التي تعاني من مكابدة الدكتاتورية والإنفرادية، فليس لدينا شاهد ودليل أقرب من استشارة النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه فهو يُعرف عنه إنه لا يحتاج لأحد رغم احتياج الكل إليه وليس هو بحاجة للإستشارة ولكنه كان أحوج لإعطاء الدروس والعبر وبيان الإرشادات وكانت فكرة استشارة أصحابه إحدى الوسائل التربوية من دروس مكارم الأخلاق التي أنشأ عليها جيلاً يحمل أسمى القيم وأعظم المبادئ وأروع صيغ الديمقراطية.

 قضاء على مبدأ الشورى:

هذا التصرف أيقظ الود والمحبة في نفوسهم واقتراب البعض من البعض الآخر لذا إلتف الجميع حول الرسول صلى الله عليه وآله وقد أدرك الجميع بأن الشورى هو المنفذ الوحيد والأهم للخروج من ظلمات العبودية والتسلط، لذا نرى الشعوب حتى يومنا هذا تطالب بممارستها إذ أن من المسَّلم به هو أن الرأي الثوري هو الأصوب دائما إذ ما استحصل إلا بعد المداولة والمشاورة وبعد العرض والإستعراض ونال تأييد الأكثرية. وهي أي الشورى قد تمثل أحيانا طوقاً يطوق رقاب بعض الحكام ويحد من حرياتهم التي يكتسبونها من تقييد أيادي شعوبهم وتكميم أفواههم فحق لهم أن يجندوا كل طاقاتهم ويستخدموا كل قواهم ويعتمدوا على كل عناصر استبدادهم لمحاربة الشورى والقضاء عليها وعلى كل من يروج لممارستها ممارسة صحيحة حتى تتزايد مساحة الفجوة بين الحاكم والمحكوم ويزداد ابتعاد كل منهما عن الآخر وتكبر الهوة ويطول الجفاء ويموت الولاء وتولد البغضاء فيزداد ظلم الحاكم وقسوته وبطشه مثلما يزداد كره المحكوم وعداوته وكل يتربص للآخر حتى تنتصر إرادة الخير التي لا بديل غيرها في كل زمان ومكان.

الدكتاتورية خشب مسنَّدة:

إذ أن المستشارين باقون والمستبد ماضٍ لا محال حيث غلبة رأي الأكثرية، لذلك إن طريق الوصول إلى الدكتاتورية أسرع وأسهل بكثير من الوصول إلى الديمقراطية التي أساسها الشورى، فالمشاورة في الأمر تحتاج إلى عقلية كبيرة متفتحة وذهنية متنامية وصدر واسع يتقبل كل الآراء ضارها ونافعها ويستند على النافع فيمضي قدماً لينفع به الجميع. والإستبداد هو إلغاء دور الآخرين وتجاهل وجودهم والإعتداء على حقوقهم واغتصابها وإخماد أي صوت يمكن أن ينطلق فيأخذ حيزاً في ملأ فضاء الحقيقة بأصداء الحق وما يتبعه. وكذلك مقدرة القضاء على الدكتاتورية أكبر من مقدرة القضاء على الشورى إذ أن الدكتاتورية تمثل فرد والشورى تمثل الجماعة. والشورى تمنع الفرد من أن يستبد برأيه فيجر المجتمع والبلاد إلى الهلاك. يقول سماحته: (أحياناً تكون الدكتاتورية بحجم كبير جداً فيخاف الإنسان أن يقابلها … لكن يجب أن يعلم الإنسان إن الدكتاتورية مهما كانت كبيرة الحجم فإنها (خُشُبٌ مُسَنَّدة) وألا ييأس من روح الله).

الشورى حاجة ملحة ضرورة ونجاح:

ويبدو أن الشورى هي من الحاجات الملحة التي تسابق الشعوب للحصول عليها وهي فكرة تمتد في استمراريتها مع حياة الشعوب وهي يمكن أن تكون نقطة انطلاقة التمرد على الجبروت الذي يتمثل به الحكام في كل زمان ومكان يقول سماحته: (الشورى تضمن صعود المؤهلين وأصحاب الكفاءات إلى مرافق الحكم والإدارة مما يسبب تقدم البلاد والعباد). على سبيل المثال بالشورى يمكن أن يشن القائد حرباً ضروساً فيخرج منها منتصراً بأحقيته إذ إن الحرب لا تقوم إلا على أساس استرجاع حق أو هداية العاصين أو إرجاع المرتدين إلى رشدهم. وإن لم تكن عن طريق الشورى والمشورة لما اكتسبت الصلاحية ولما خول القائد في شنها. عكس ذلك عندما يستند القائد برأيه فيشن حرباً تطابق أهدافها هواه وتجاري مقتضيات مصلحته وتلبي رغباته فلا تكون النتيجة إلا الخراب والدمار والشواهد في ذلك كثيرة لا تحتاج إلى تبيان.

وقد مرنت الشورى شخصيات عديدة برزت في التاريخ على مر العصور، ولو تصفحنا سجلات التاريخ بماضيه البعيد والقريب ستجد كثيراً من الأسماء التي دونت فيها، تلك الشخصيات التي مرنتها الشورى فاتخذت من العدالة سياقاً وقاموساً وسلوكاً لمسيرتها. وعندما تفيض فينا رغبة صادقة بالتطلع إلى الحياة السعيدة والرفاه الأفضل وعيش رغيد خالٍ من الظلم والمظلوميات وبعيداً عن الفوضى والإضطرابات علينا اذن نبذ النزعات الفردية وتوحيد الكلمة بالإلتزام بالشورى وبها نسعى لإتيان الأفضل فالأفضل. وأما إذا ازددنا إصراراً على رفض الشورى ونكرانها فعلينا أن ندرك تماما بأن لا بديل لعدم القبول إلا الإضراب والفوضى ومسايرة الجهل والتخلف يقول سماحته: (لا مجال لمن ينكر الشورى والحرية إلا أن يقر بالبديل الآخر، وهو الفوضى والإستبداد).

لقد أراد الإمام بذلك أن يمرن النفوس ويحفز على تثبيت عناصر الشورى وهي كثيرة ويحث على إحياء وإنماء الديمقراطية والعدالة والحرية في الحكم وتوحيد الكلمة والمساواة ونبذ الفرقة ومحاربة تفكك الأمة وتشرذمها لتكون الشورى محوراً للحكم وقطباً يستند عليه الفقهاء عند إطلاق الحكم فتسعد الأمة بشورى فقهائها وتنعم بصفائها.

رائد المرجعية الميدانية:

لقد إعتاد الناس منذ زمن بعيد أن يتعرفوا على العالم أو المرجع الديني أما في اعتمادهم على قراءة الكراسات عنه وله أو عن طريق آخرين يستطيعون الإتصال به أو رؤيته عن كثب بشكل أو بآخر وبغير ذاك فإن الناس يُروى لهم عن المرجع سماعاً فقط ويتبعوه للتقليد بالإستماع والقراءة أكثر بكثير من أن يشاهدونه وجها لوجه. وربما قد مات الكثير من الناس ولم يرَ مقَلَّدّه الذي كان يتمنى كثيراً تحقيق ذلك ولكن صعوبة وصوله إلى ذلك المرجع المقَلَّد حال بينه وبين تحقيق رغبته، وكم من مرجع يقدم ويموت ولم يره أغلب الناس ولم يرَ هو أيضاً أغلبهم، وهذه الحالة لها أسبابها ومسبباتها وانعكاساتها أيضاً وهي كثيرة جداً لا يسعنا الآن التعرض لها. فالخوض فيها يودي بنا إلى متاهات واسعة ويسبب لنا حرجاً لسنا بحاجة إليه.

وكلاء المراجع وطرق التبليغ:

ويبدو أن العلماء والمراجع الكرام الذين لم يتركوا ثغرة إلا وحاولوا سدها لكي لا تتسلل التبريرات والأعذار والحجج التي يتحجج بها من يريد أن يبتعد عن تطبيق الشريعة لذلك اتخذ المراجع الوكلاء والوسطاء في تبليغ رسائلهم بحمل وإيصال الأسئلة والإستفسارات والإستفتاءات واستحصال أجوبتها السليمة. وقد إعتاد القسم الأكبر من الناس تطبيق الأحكام الشرعية وإتباعها بالحصول عليها من المُقَلَّد بصيغة الوساطة إما عن طريق قراءة الرسالة أو عن طريق الوكيل أو الوسيط وكم كان البعض من عامة الناس ومن بسطائهم يود أن يقابل المرجع فيراه وجهاً لوجه فيلتقف من فمه تصريحاً أو إصداراً لحكم أو حلاً لاشكال شرعي أو فقهي أو عقائدي أو غير ذلك. إذ أن طريقة استخدام الوسطاء أو الوكلاء في إيصال الأحكام والمستجدات والمستحدثات كانت أحيانا يمكن أن تكون ذريعة للبعض سواءً في مخالفة الحكم والرأي أو في عدم تطبيقه فتكون عاملاً من عوامل انعدام القناعة وكثيراً ما صار ذلك التصور مدعاةً لزعزعة الثقة وعدم الإستجابة التامة والقبول والتململ والتباطئ أو التردد في تطبيق الحكم الشرعي، هذه الظاهرة أوجدت شرخاً في توطيد العلاقات بين الإمام والمأموم بل أحدثت اضطراباً واسعاً في بعض الأوساط في الإقبال والتقبل والقبول وإن كان هذا الإضطراب غير معلن وغير ظاهر لكنه أحدث ثغرة واسعة استطاع بعض المغرضين الولوج من خلالها إلى بعض النفوس والعقول لبعض العوام والتأثير بطريقة سلبية مباشرة أو غير مباشر وجعلهم يعتقدون بأن هنالك عملية ابتعاد المرجع عن مقلديه عملية مقصودة سببها التعالي والكبرياء وعدم الإهتمام بشؤون الآخرين وعدم مخالطة العوام فأوجدت هذه الظاهرة فجوة كبيرة في بعض الأوساط فراح البعض يتحجج بحجج واهية تبرر ركونه في زاوية معارضة أوامر الشريعة الإسلامية الحقة وعدم تنفيذها وانحراف البعض بل خروجه خروجاً كلياً عن جادة الصواب.

عندها أصبح من الضروري البحث عن صيغ فكرية وعلمية ونفسية لردم الهوة ومعالجتها والحفاظ على سلامة المسيرة المرجعية. ويبدو ان المعالجات من الجانب النفسي من أهم صيغ المعالجة لإعادة المجتمع إلى جادة الصواب وتطبيق الأحكام الشرعية.

المرجعية الميدانية:

ولقد كان لسماحة الإمام الراحل الأولوية أو الأحقية لحيازة قصب السبق في مقاومة هذه الظاهرة والقضاء عليها ميدانيا بعد معالجتها معالجة علمية شافية، إذ قد أهلته علميته البالغة وحسه العقائدي وإخلاصه للدين والمبدأ، هذه العوامل جعلته أن يلتفت إلتفاتة كريمة في ردم الهوة وسد كل ثغرة بايثار وتضحية من سماحته ليتصرف تصرفاً عقلانيا حكيما لم يسبقه به أحد، لذا ابتكر إسلوب المرجعية الميدانية ذلك الإسلوب الذي قل أن استخدمه سواه وهو النزول إلى الشارع فعلياً دون أية واسطة وأي وكيل بل نزولاً مباشراً بنفسه إذ قد خصص من وقته الثمين جزءً ليس باليسير للتجوال في الشارع ومحادثة الناس وجهاً لوجه وممارسة المرجعية الميدانية بالتبليغ بالوعظ والإرشاد شخصياً، وكان يتصل بالأفراد من أصحاب المحلات التجارية وغيرها ويطلعهم على ما يجهلون من أمور وما يغفلون من وقائع يحاور الكبير والصغير ويصحح الأخطاء، وهذه الممارسة قد أدت دورها الفاعل في تقويم الشخصية العقائدية والمذهبية للكثير من الناس، وكان لذلك الإسلوب الأثر الكبير في رأب الصدع بل لتجديد التصاق العوام بالمرجعية ولا زال الكثير من الكربلائيين يحتفظون في ذاكراتهم ببعض الصور والذكريات التي تصور مرجعيته الميدانية وإرشاداته المباشرة.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا