العنف اللفظي في المنظور الإسلامي
رؤى من أفكار الامام الشيرازي
شبكة النبأ
2015-06-08 03:43
ينقسم العنف بصورة عامة الى قسمين، الاول العنف المادي الجسدي، والثاني هو العنف اللفظي، وكلا القسمين تتفرع منهما انواع وصور مختلفة من العنف، ولعل الامر الواضح، من التعاليم الاسلامية ومبادئ الدين الاسلامي كما وردت في النصوص القرآنية الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة، واحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام، أن الاسلام يرفض العنف بأشكاله كافة، ويقف بالضد منه، وكنّا في مقالات ودراسات سابقة قد خضنا في نظرية اللاعنف للامام الشيرازي (رحمه الله)، حيث يتصف الإمام الشيرازي في كتاباته بنوع من الروحية الخاصة، فيولي عنايته لمسائل عديدة ربما كانت لعلماء تخصصوا في علوم غير دينية، فهو استطاع أن يخلق نظرية متخصصة في اللاعنف آواخر القرن العشرين.
وقد استمد فحوى نظريته في اللاعنف من المبادئ التي اعتنقها من الأصول الإسلامية المرنة القائمة على أسس مدرسة النبي محمد صلى الله عليه وآله، وسنته الشريفة وما قال به آل بيت الرسول عليهم السلام، لذلك فهي لم تكن مفاهيم علمية مجردة وفروضاً للبحث فحسب، بل كادت أن تكون موضعاً للتقديس، ذلك أن هذه المبادئ تعد ثمرة الدين الإسلامي الحنيف عبر قرون عديدة مضت، ومن بين انواع العنف التي يرفضها الاسلام جميلة وتفصيلا، كما ذكرنا سابقا هو العنف اللفظي، او العنف الذي يقترن بالكلمة وينتج عنها، فيكون مفعوله السلبي قويا وأحيانا صادما ومؤذيا لدرجة قد يتفوق فيها على الاذى المادي للعنف.
لذلك على الانسان أن يفهم بالضبط درجة الاذى التي يمكن أن يفعلها ويتسبب بها لسانه للآخرين عندما يتحاور معهم، او يشهّر بها، او يتجاوز على كرامتهم وما شابه من ضروب العنف اللفظي، ولاشك أن من يتعرض لهذا النوع من العنف لن يقف مكتوف الايدي، وبهذا ربما تتسبب مشكلات كبيرة وعصية على الحل تكتنف حياة الناس، بسبب عدم سيطرتهم على ألسنتهم، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف: (نجاة المؤمن في حفظ لسانه). من هنا كان تركيز آل البيت صلوات الله عليهم كبيرا على العنف اللفظي وأهمية الحيطة منه، والسيطرة التامة على اللسان ومخارج الكلام والمعاني التي قد تجرح الآخرين وتتجاوز على كرامتهم.
إذ يقول الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (اللاعنف في الاسلام) حول هذا الجانب: (ربّى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وأئمة أهل بيته عليهم السلام، من خلال أحاديثهم الشريفة الداعية إلى نبذ العنف وترك ردّ الاساءة للغير، المسلمين، واعتماد السماحة واللين، الأمر الذي أخذ بأيديهم نحو التقدّم والرقي).
الكلام الطيب يحسّن شخصية الانسان
ويؤكد الامام الشيرازي على الاسس التي يقوم عليها رفض العنف كوسيلة او اسلوب او منهج للحياة، استنادا الى المنظور الاسلامي لهذا النوع من العنف، إذ يقول سماحته في هذا الصدد بكتابه المذكور أعلاه: (لا يخفى أنّ الآيات الداعية إلى عدم ردّ الإساءة بمثلها هي في نفس الوقت تدعو إلى اللاّعنف، فليس العفو إلاّ ضرب من ضروب اللاّعنف أو مصداق من مصاديقه البارزة. قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).
علما أن تأثير الكلام على سلوك الانسان واضح وكبير، فعندما يعتاد الناس على الكلمة الطيبة في تعاملاتهم اليومية المختلفة واحاديثهم وتبادلهم للأفكار، فإن لطف الكلام وجماله وهدوئه سوف ينعكس على سلوكهم، إذ من النادر ان تجد إنسان يتصف بالحكمة والهدوء ان يكون مستعدا للتهور والتجاوز اللفظي على الآخرين، لهذا من الافضل للإنسان أن يرّبي نفسه على الكلام الهادئ الجميل الذي يراعي مشاعر الآخرين، ويمد معهم جسور الألفة والثقة والانسجام، وهذا يكون ممكنا عندما يعتاد الانسان على لطف الكلام الذي سينعكس بدوره على جوارحه واخلاقه وحتى سلوكه.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله الواضح: (عندما يطبّع الإنسان نفسه على اللين واللاعنف، فإنّ آثار ذلك يوماً بعد آخر ستنعكس على سائر جوارحه وجوانحه). وطالما يتعلق مقالنا هذا بالعنف اللفظي، أي الأذى الذي يمكن أن يلحقه الكلام بالآخرين، وطالما ان اللسان هو الوسيلة او العضو الجسدي الذي يظهر ويعلن الكلام الى العلن، فهذا يعني أننا ينبغي أن نسيطر على هذا العضو، وأن لا نترك له العنان كما يرغب ويريد، فإطلاق اللسان يعني التفوّه بكلمات قد تكون مصدر اذى للناس الآخرين، وهو امر يرفضه الاسلام، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وآله هذا المبدأ في قيادته للدولة الاسلامية، وهذا هو منهج أئمة أهل البيت عليهم السلام، حيث كان العنف اللفظي ابعد ما يكون عنهم.
لذا يدعو الإسلام بصورة دائمة الى تطبيع اللسان على الكلام المناسب والصحيح، والذي يراعي مشاعر الآخرين، علما أن اللسان هو العضو الذي يمكن أن يقود الانسان الى الهلاك، أو انه يحافظ عليه ويمنحه درجة النجاح. كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (من الجوارح المهمّة التي طالما أكّد الإسلام على تطبيعها باللاعنف هو اللسان، ذلك العضو الذي كثيراً ما يأخذ بيد الإنسان إمّا إلى الهلاك والضياع المحتوم أو إلى السعادة والفلاح في الدارين).
رحم الله عبداً تكلّم فغنم
وقد ورد في دراسة للدكتور اسعد الإمارة عن نظرية اللاعنف للامام الشيرازي: إن سماحته يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الأديان قامت على مبدأ السلم والمسالمة والأخوة بين البشرية ونبذ العنف بقوله: إن منطق الرسل والأنبياء هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار.
وقد ركّز الامام الشيرازي في كتابه (اللاعنف في الاسلام)، على أهمية تخلّص الانسان من أقوال الفحش، ويعني بها الكلمات التي تجرح الاخرين وتشهّر بهم وتحط من مكانتهم وقيمتهم، وهو امر لا تؤيده مبادئ الاسلام ولا تعاليمه كافة، اذ تحض النصوص القرآنية المباركة، والروايات والأحاديث الشريفة على منهج اللين في التعامل مع الآخرين وعدم التهجم عليهم، وهذا هو جوهر المنظور الاسلام للعنف اللفظي تحديدا.
إذ نقرأ في قول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (إنّ العديد من الروايات أخذت تؤكّد على مسألة اللين في القول، وعدم التهجّم على الآخرين عبر اللسان سواء أكان من خلال السباب والفحش أم بغيرهما من أساليب العنف باللسان).
لذلك فإن الكلام الذي يتجاوز على الاخرين، هو امر مرفوض في المنظور الاسلامي كونه يتناقض مع الرؤية الاسلامية لدور اللسان والكلام معا، فالكلام كما يرى الاسلام ينبغي أن يكون غنيمة تعود على صاحبها بالنفع والخير، وليس إساءة يتسبب بها للناس، ومتى ما وجد الانسان أن الكلام لا يعود عليه بالنفع عليه ان يتوقف ويكف عن الكلام من خلال السيطرة على اللسان.
لذلك أراد الامام الشيرازي أن يوضّح جوهر الرؤية الاسلامية الى هذا الموضوع، حيث ورد في كتابه أعلاه: (ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: رحم الله عبداً تكلّم فغنم أو سكت فسلم، إنّ اللسان أملك شيء للإنسان، ألا وإنّ كلام العبد كلّه عليه إلاّ ذكر الله تعالى أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو إصلاح بين المؤمنين).