لماذا علينا تجنَّب الشهرة؟

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2020-03-02 04:55

تجديد الحياة وتغييرها غاية تطمح إليها الأمم كلّها دون استثناء، حتى تلك التي تغوص في أتون الاحتراب، وتعاني من الجهل وقلة الوعي، تحلم أن تجد نفسها في يوم ما، وقد تغلبت على الجهل والقمع وإطفاء أسباب التشرذم، لتصبح واحدة من الأمم التي يُشار إليها بالبنان.

تجديد الحياة ليس سهلا، ولا هو هدف أو عمل بسيط حتى يكون في متناول كل من يريده، طالما أنه لم يُعِدّ المستلزمات التي تصل به إلى عملية التجديد، وهذه لن تقوم إلا على بعقول استثنائية، هي عقول الحكماء الزاهدين الممتلئين ثقة بأنفسهم وقدراتهم وإراداتهم، هؤلاء الذين يتقنون (نكران الذات)، ويؤمنون بالإيثار فطريا وليس شكليا للظهور أما الآخرين بهذا المظهر، بل لأنهم فعلا يؤثرون الآخرين على أنفسهم، ولا يبحثون عن الأضواء ولا يمكن أن تكون الشهرة هدفاً من أهدافهم.

هذا النوع من العقول هو ما تحتاجه الأمة لبلوغ الثرى، وإحراز مكانتها في المقدمة إلى جانب الأمم التي صنع ارتقاءَها أبناؤها المخلصون المضحّون الرافضون للشهرة وللأضواء الإعلامية أو سواها، فمن يبحث عن هذا النوع من الأضواء لا يمكن أن يكون عقلا هدفيا، ومن تشغله الشهرة الفردية، لا يمكن أن يكون من بين الناس الذين تشغلهم عملية تجديد الحياة.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه الثمين الموسوم بـ (لنبدأ من جديد):

(الباحث عن الشهرة والساعي نحو الأضواء لا يمكنه أن يجدِّد الحياة).

هذا يعني أن العقول التي تتصدى لعملية تجديد الحياة هي عقول مختلفة، تدعمها نفوس كبيرة وإرادات لا يكتنفها القنوط مطلقا، كما أنها لا تفكّر بالأضواء والشهرة والأخيرة لا تعني لها أي شيء، وما يعنيها هو الإسهام الفكري والفعلي والأخلاقي في تقديم كل يمكن تقديمه من أجل الارتقاء بالفرد والمجتمع، لاسيما أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا تزال تعاني من الفجوة الفاصلة بينها وبين العالم المتقدم، في حين أنها تمتلك جميع مقومات تجديد الحياة وتغييرها بما يتناسب مع وصلت إليه الدول والشعوب المتطورة من مستويات هائلة في التطور.

صدق الإرادات وتجديد الحياة

التأكيد على فرادة عقول التغيير، سوف تتلازم مع شرط آخر يجب أن يتوافر أيضا، ونعني به صدق الإرادة وقوتها، فمن يمتلك هذا الشرط سوف يكون مترفّعا على الأضواء الإعلامية وعلى المديح بكل أشكاله، لأنه يسعى لتجديد الحياة دون أن يفكّر بربح مادي أو حتى معنوي، إن هذا النوع من العقول مكتفٍ بذاته ومؤمنا بقدراته وواثق من نفسه، والأضواء أو الشهرة لا تزيده اعتزازا بنفسه قيد أنملة، لذلك هو لا يفكّر إلا بما يجدد الحياة من دون مقابل له.

يقول الإمام الشيرازي:

(من يريد الهدف لا يريد الأضواء، إذا كان صادقاً في إرادته).

البنية الاجتماعية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية ومنها العراق، تعاني من ركاكة النسيج المجتمعي، لأسباب كثيرة، منها تداخل الثقافات في عصر العولمة، واختلال القيم الأصيلة، وتسلل قيم دخيلة سعت وسعى من يقف وراؤها إلى الإبقاء على حياتنا متحجرة، تدور في فلك التخلف، فيما يقطف الأمم الأخرى ثمار التطور على مدار الساعة، ولابد أن ندرك بأن البقاء في دائرة الاجترار سوف يوسّع من الفجوة الفاصلة بيننا وبين التقدم.

وهذا أمر لا يرتضيه صانعو الحياة، أولئك الذين ينذرون أعمارهم وقدراتهم لتجديد الحياة، والمساعدة للالتحاق بالركب العالمي، وهي مهمة المفكرين والمثقفين والعلماء والمبتكرين، هؤلاء هو الطبقة أو النخبة النادرة التي تتصدى لعملية تجديد الحياة في مجتمعاتنا، وليس أولئك الناس الذين تأمرهم أهواؤهم وتلعب بهم كما تشاء هي وليس كما يشاؤون هم.

كبار النفوس وعظماء العقول وهم نادرون، هؤلاء هم من يتكفَّل تجديد حياة المجتمع، ونقله من الركود والاجترار، إلى التطور والابتكار، وهؤلاء موجودون في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتوجد نماذج منهم ترفّعت على المصالح والماديّات، وضربت طوقا حديديا حول الأنانية الذاتية، ونذرت عقولها وإمكانياتها وأعمارها لتغيير مجتمعاتها، عبر الأفكار، والابتكارات، والمبادرات المدروسة التي لا تقدَّر بثمن، بسبب الدور العظيم الذي تلعبه في تجديد الحياة.

فارق كبير بين الهدفي والأضوائي، بين الباحث عن الشهرة والزاهد بها، فالأول عاجز عن تجديد الحياة أو المساهمة في إنجاز هذا الهدف، لأنه غير مستعد للتضحية، ولا يمكنه دحر أنانيته، هذا النوع من الناس لا دور له في الحياة، ويعيش عالة على مجتمعه، وهو من النوع الضار الذي يأخذ كلّ شيء ولا يعطي أي شيء!! وهو الذي يصفه الإمام الشيرازي: بـ (الأناني والمتكبر والمتعالي وطالب الشهرة وبائع الفضيلة، الذي لا يتمكن أن يكون ـ في نفس الوقت ـ متواضعاً، وطالباً للفضيلة، وهدفياً، فكيف يبدأ من جديد؟‍!).

البحث عن الأهداف الرفيعة

الوضع العربي والإسلامي في الراهن العالمي لا يحتاج إلى العقول الأنانية، فهذا النوع يشكل خطرا إضافيا، وما نحتاجه هو النوع الزاهد، العقل الذي لا يشتري الشهرة ولا يلهث وراءها ولا تعنيه بشيء، ومن يحمل عقلا بهذه المواصفات لابد أنه يكون فاهما ومدركا للمعادلة العظيمة التي يطرحها الإمام الشيرازي بالشكل التالي: (كلما مال الإنسان إلى التواضع ابتعد عن التكبّر، والعكس صحيح).

والإنسان المتواضع، حامل العقل الراجح، هو ما نحتاجه اليوم في مجتمعنا العربي والإسلامي، إنه يحمل القوة والقدرة والإصرار والمستلزمات الأخرى التي تؤهلهُ كي يكون (هدفيّا) وليس (أضوائيّا)، وشتان بين الاثنين، لاسيما إذا عرفنا بأن الشهرة (آفة) كما يصفها الإمام الشيرازي، لأنها تحاصر الإنسان بالأضواء، وتعمي بصره وبصيرته عن الأهداف الكبرى التي تُسهم في تجديد الحياة.

هنا يحذّر الإمام الشيرازي الإنسان الهدفي ويدعوه إلى ضرورة تجنّب الأضواء والرغبات الذاتية التي تدفع إليها النفس غير المسيطَر عليها، ويدعو سماحته بقوة كلّ من يضع من تجديد الحياة وتنوير المجتمع هدفا له أن يقاتل ببسالة ضد (آفة) الشهرة، لأنها سوف تحيله إلى صفرٍ على الشمال!!.

يقول الإمام الشيرازي:

(الباحث عن التقدم والهدف الرفيع لابد أن يتجنب الأضواء والأهواء، فإن الشهرة آفة ومن يريد تجديد الحياة يجب أن لا يلهثُ وراءها).

وحين يزداد عدد من يؤثر حاجات الناس على حاجاته المادية والمعنوية، فإننا نكون قد شرعنا فعليا في بناء مجتمع معاصر مستقر ومتقدم، وهذا يفرض على كل من يهمه الأمر في مجتمعنا العربي والإسلامي، أن يزيد من العقول المجدّدة للحياة، ويوضّح فوائد هذا النوع من العقول والإرادات، وفي نفس الوقت يجب التحذير من النوع النقيض الذي يبحث عن الشهرة، ويقتنص الفرص كي يسلط الأضواء على شخصه، على العكس ممن ينذر نفسه لتجديد حياة أمته زاهداً بكل هذه الترّهات التي لا تغني ولا تشبع من جوع.

لهذا فإن الفارق بين الاثنين، اللاهث وراء الشهرة والزاهد بها كثير وكبير، يمكن اختصاره بالتالي، الأول لا يرى الحياة إلا في نفسه ومصلحته، والثاني لا يراها إلا في الأخذ بأيدي الناس إلى النجاح والاستقرار والتقدم.

كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:

(الفرق بين الإنسان الباحث عن الأضواء وبين الذاهب وراء الأهداف، أن الأول يستغلّ المناسبات لنفسه حتى يُلقي الضوء الأكثر على ذاته ويُظهرها أكثر فأكثر، بينما الثاني يستغلها للوصول إلى الهدف ولتقريبه إلى الحياة الواقعية أكثر فأكثر).

يتضح في خلاصة الأمر أننا كأمة (تأخرت بعد أن كانت متقدمة)، نحتاج إلى التركيز على الهدفية، وتنمية العقول والإرادات الطامحة إلى تجديد الحياة، والتي لا تعنيها الأضواء بشيء، ومن المهم أن نركز على تنمية الموارد البشرية العقلية الفكرية والطبيعية، فهذه كلها من مستلزمات التجديد الذي لا يمكن أن نحقّقه إلا بالعقول الاستثنائية من المضحّين الزاهدين بالشهرة وأضوائها.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي