لنلخّص بعض أفكاره: للتطبيق لا للتوثيق فقط
عقيل ناجي
2019-05-25 05:42
من الذكريات التي لا أنساها فيما يتعلق وارتباطنا المباشر مع فكر آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي "قده"، هو موضوع تلخيص الكتب، وقد اشتُهِر عني في حوزة الإمام الباقر (عليه السلام) بمشهد المقدسة في الفترة من بداية 1405هـ حتى ذي الحجة 1407هـ، بأنني أكثر الطلاب تلخيصاً للكتب، على أقل تقدير ضمن طلاب المرحلة التي أنتمي إليها، أو ما يُسمّى بالدورة، وكان اسم دورتنا (دورة الإمام الجواد "ع")، حتى ظهرت نكتة عند زملائي الطلاب فقالوا عني: "يقرأ الكتاب وهو يتكون من 100 صفحة ويلخصه في 200 صفحة"، وكنت أتقبّل منهم هذه الطرفة وأضحك عند الاستماع إليها كثيراً، إلا أنني راجعت بالفعل تلخيصاتي ولم أجد ذلك في الواقع، ربما اشتبه أحدهم عندما رأى دفتراً في أول صفحة منه عنواناً لتلخيص كتاب، فاعتقد أن الدفتر كله لهذا الكتاب، بينما هو لعدة كتب.
وعند عودتي لمسقط رأسي في بدايات ذي الحجة 1407هـ فقدت كل كتبي ودفاتري في الحوزة، ولم أعلم حتى الآن ما هو مصيرها، وأتذكر أنني كثيراً ما أستشير أساتذتي المشايخ فيما ألخصه من الكتب، وبالذات كتب المرجع الراحل، وهذه هي البذور الأولى التي أتقنت زراعتها جيداً في أرضيتي المتواضعة، ثم رعيتها بالسقي المنظّم حتى استطعت بحمد الله وتوفيقه أن أمسك بقياد القلم وأن أقوم بتلخيص أي كتاب وفي أي جانب فكري أو ثقافي أو معرفي، وفي مكتبتي الحالية تجارب عدّة في التلخيص– أظنها ناجحة – وإن شاء الله ترى النور، حيث أطمح بطباعتها بإذن الله تعالى ضمن الكثير من مخطوطاتي التي اجتمعت لديّ منذ عام 1408هـ حتى 1440هـ.[1]
وقد تطرق الأكاديميون المتخصصون في مناهج البحث والدراسات إلى أهمية تلخيص الأبحاث والدراسات، وقالوا: " يعرف ملخص الدراسة، أو ملخص البحث العلمي بأنه الملخص المختصر لموضوع الدراسة، أو المشكلة البحثية، والذي يتناول فيه الباحث الأفكار الرئيسية التي وردت في البحث دون التعمق في التفاصيل، مما يساعد على فهم مجمل موضوع الدراسة، وتوضيح النقاط المبهمة فيه، ويعتبر ملخص البحث نصاً قائماً بحد ذاته، ومستقلاً عن البحث نفسه، وهو مرآة الدراسة التي تعكس جودتها، وتعكس مستوى الكاتب الإنشائي، وقوة صياغته للمفردات، ويتكون ملخص الدراسة أو ملخص البحث من فقرة واحدة تتراوح كلماتها بين 200 إلى 300 كلمة، والذي يجب ألا يحتوي على مصادر، أو مراجع، أو صور، أو معلومات لم يرد ذكرها خلال البحث ".[2]
وهذا بالضبط ما أدعو إليه شبابنا الأعزّاء وهم في زهرة عمرهم النّضِر، وذلك بتلخيص بعض الكتب والأبحاث والدراسات من آثار آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي "قده"، لما للخلاصات في حياتهم الثقافية من أثر واضح، وبالذات إذا تفاعلوا مع هذا الفكر وآمنوا به إيماناً يقينياً وعن قناعة ذاتية، لأنها ستؤثر حتماً على حياتهم الشخصية والاجتماعية بشكل عام.
ولأنهم أيضاً سيفهمون هذا الفكر البنّاء وسيتوضح لهم بكل تفاصيله إذا حفظوا قواعده وجسوره وأركانه وأعمدته التي شكلتها هذه الخلاصات المكثفة، ويصدق في الخلاصات فكره البناء الحضاري للفرد والمجموع، الذي ينطلق بشكل مباشر لبناء الأمة بشكل عام، وإني أخاطب بهذه الأبيات الأربعة سماحة المرجع الراحل (قدس سره الشريف) موظفاً فكرة البناء قائلاً:
خُلاصةُ فكركَ البنّاء تسمُو***** بأنفسنا إلى قمَمِ المعالي[3]
كأنّ حروفك النوراء أيدٍ*****تُحيطُ بنا لنذهب للجَمَالِ
عجبتُ منَ البحارِ، وأنتَ بحرٌ***** بلا قعرٍ وكنزُكَ للنّوالِ
فَذِي الصفحاتُ منْ وعيٍ ورُشدٍ*****صِحَافٌ قد مُلئنَ مِنَ اللئالي
يمكنك في بداية التلخيص أن تطرح سؤالاً يتعلق بأصل البحث الذي تنوي أن تتناوله، وطرح السؤال مهم جداً لأنه سيكون بمثابة نقطة الانطلاق إلى رحاب الإجابة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سيكون السؤال دلالة على منطقية التفكير السليم عند الباحث والمُلخّص للبحث أو المطلب، وقد قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَيْهِ قُفْلٌ وَ مِفْتَاحُهُ الْمَسْأَلَةُ "[4] لأننا باختصار سنتعلم بهذه الطريقة أسلوب سماحة السيد المرجع الراحل في طرح أمثال هذه الموضوعات وكيفية استنتاجاته بعد أن طرق مقدمات الموضوع وحيثياته ومن ثم النتائج التي توصل إليها، وبالتالي سنتعرف على سبب اختيارنا لهذا السؤال الذي طرحناه على البحث ثم بحثنا عن جوابه في فكر السيد، كما سنثبت أيضاً بأن هذا السؤال جدير بالبحث، وذلك لأهمية الموضوع وعلاقته المباشرة بحياتنا وواقعنا الذي نعيشه.
يمكننا بعد طرح السؤال، وتوضيح أهميته، وجدوى البحث في الموضوع المحدد، أن نقوم بكتابة الفرضيات التي تم إثبات صحتها من خلال البحث، ونتوقف عند كل فرضية على حِدَه ونناقشها مناقشة مستفيضة، سواء كانت من الكاتب نفسه أو يسردها الكاتب من آراء الآخرين ويناقشها ثم يطرح رأيه، مصداقاً لقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطاء"،[5] وبعد ذلك نحدد أي الفرضيات أفضل، كل ذلك من خلال قراءة أصل النص المُراد تلخيصه.
وفي الخلاصة التي نحررها نحاول أن نضع يدنا على الهدف الذي يسعى إليه الباحث لتحقيقه من خلال بحثه، فهو من الأهمية بمكان كبير، ولا يمكننا إغفاله، حتى لو كان هذا الهدف الذي يصبو إليه الباحث هو تكوين حكومة ذات ألف مليون مسلم، كالهدف الذي يحمله الإمام الشيرازي في أطروحته الشهيرة، والتي هي ليست مستحيلة على الإطلاق، ولكننا أثناء البحث يمكننا طرحها كهدف للباحث ثم نبحث عن مقومات هذا الهدف، هل يمكن تحقيقه؟.. أين؟.. كيف؟.. متى؟.. وبماذا؟..ولماذا؟.. إلى آخر هذه الأسئلة البحثية.
ثم بعد ذلك نستخدم أسلوب التوصيف لطريقة تحليل البيانات في الدراسة أو الأطروحة أو البحث الأصلي للكاتب، ونتطرق لهذه التحليلات بإيجاز شديد لأن الباحث تطرق إليها بتفصيلات وتفريعات متعددة.
ومن خلال إيراد هذه البيانات التحليلية يمكننا التطرق إلى الأساليب التي استخدمها الباحث.
ومن ثم نتطرق إلى النتائج التي توصل إليها في أصل بحثه الذي نقوم بتلخيصه، ونضع الهيكلية المتكاملة لكامل أفكاره الرئيسة، من بداية البحث حتى آخرة.
وبعد الانتهاء من توصيف النتائج النهائية يمكننا شرح الآثار الرئيسة لهذه النتائج دون المبالغة في التفاصيل.
كما يمكننا التأكد من اكتمال جميع جوانب الدراسة التي تمثلت في النص الأصلي، ثم لخّصناها في هذا الملخص الذي أصبح بين أيدينا الآن.
وحتى يكون ملخصنا لما كتبه الإمام الشيرازي سهلاً وبسيطاً يجب علينا اعتماد اللغة السهلة والواضحة والدقيقة للإشارة إلى مجمل أفكار الكتاب أو البحث أو الدراسة، والابتعاد عن استخدام الدلالات المبهمة، وقد استخدم الإمام الشيرازي هذا الأسلوب في الكثير من كتبه التي وجهها لعامة الجمهور وللطبقة البسيطة، فاشتهرت هذه الكتب وانتشرت بالألوف، لا سيما كُتيباته التي نُشرت في الحرمين الشريفين في مواسم الحج منذ 1385هـ ولعدة سنوات تالية.
في ختام خطوات التلخيص علينا أن نقرأ ما كتبناه في التلخيص بهدوء تام، ونصحح ما وقعنا فيه من أخطاء إملائية أو اشتباهات في بعض الجمل، أو أي خطأ في فهم فكرة أو مفهوم، حتى يكون ملخصنا متكاملاً وحسب القواعد المعيارية لفن التلخيص المتعارف عليها.[6]
كما يمكننا بعد التأكد من كل النقاط الملخصة أن نعرض ملخصنا على شخص آخر من باب الاستشارة، وقد جاء في الروايات شيئاً من ذلك، منها قول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): " الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه"[7]
ويفضل أن يكون الشخص المستشار قد قرأ هذا الكتاب الذي قمنا بتلخيصه، لأنه يكون قد استوعب الكتاب من قبل وأفكاره الرئيسة لا زال يحتفظ بها ولو بشكل مجمل من خلال ذاكرته؛ فإذا لم يكن قارئاً للكتاب فتنطبق عليه مقوله (فاقد الشيء لا يعطيه )، أما إذا كان هذا الخبير متخصصاً في هذا العلم أكاديمياً وموضوع الكتاب من ضمن هذا التخصص فسيكون رأيه أفضل من غيره، لأنه سينطلق في مشورته لك من خلال تخصصه وإحاطته التامة بكامل موضوعات هذا الكتاب وأمثاله من الكتب، شريطة أن لا يكون هذا الخبير متحاملاً على مؤلف هذا الكتاب الذي قمت بتلخيصه أو لا يؤمن بأفكاره.
وأختم مقالي هذا بنصيحة لجميع الطلاب وهي أن يجعلوا من كتب الإمام الشيرازي وأطروحاته العلمية والمعرفية منطلقاً لمناقشة أفكار الآخرين، والإمام الشيرازي علمنا في الكثير من كتبه طريقة الجدال الناجحة، فكيف إذا رفدنا هذه الطريقة بالفكر المستنير والمدهش، كما أنصحهم بأن لا يتناسون أنفسهم في تلخيصاتهم وكتاباتهم، فشخصية الباحث ينبغي أن تكون واضحة وظاهرة في كتاباته، وهذا ما أراده لنا الإمام الشيرازي لنزرع الثقة في أنفسنا وننطلق، والله المستعان.