كيف سبق الامام الشيرازي عصره وزمانه؟

عبد الرزاق عبد الحسين

2019-05-12 07:29

يشهد من جايَلَ الإمام الشيرازي (قده)، بمكانته العلمية المتميزة التي بُنِيَتْ بمساعٍ عقلية موسوعية، نبغت منذ بواكير عمره، وشرعتْ في الدراسة والتمعّن والاستقصاء العلمي، وليس غريبا أن نتلمّس هذا النبوغ في شخصية نافرة، كالتي يتحلى بها الإمام الشيرازي، والتي تقترب أو تتفوق حتى على التوصيف الشهير الذي أطلقه غرامشي بخصوص المفكر أو المثقف العضوي.

الجديد والمبتكَر من الأفكار والدعوات العلمية في هذا التخصص العلمي أو ذاك، نجدها تلازم رحلة الإمام الشيرازي الفكرية والعلمية، فهو عقل مسكون بالديناميكية الفكرية، لا يقرّ له قرار، ولا يتوقّف عند حد أو درجة أو حاجز، دائما تجد الجديد المبتكر في مناقشاته قيد البحث، وما أعطى أهمية كبرى لهذه العقلية الموسوعية أنها تذهب بعد التأمل الفكري والمناقشة العلمية إلى التطبيق.

فالتنظير هنا ليس هو الجناح العلمي الوحيد الذي يطير به الإمام الشيرازي في فضاء العلم والبحث والاستقصاء، لأن الجناح الآخر الذي يوازن البحث والطرح الفكري هو التطبيق الواقعي لتلك الطروحات والنظريات، وقلما نجد طرحاً فكريا للإمام الشيرازي لا يقرنه بالدعائم العملية التي تحيل الفكر إلى ملموس فعلي، وهذه ميزة ترفع مكانة الإمام الشيرازي إلى مصاف المفكرين العضويين الذين غيروا تأريخ البشرية من خلال إسهامات علمية موسوعية لم تترك مجالا إلا وبحثت فيه واستقصته، وخرجت منه بنتائج مذهلة.

وهكذا يمكن للباحث المتأمّل بدقة في مؤلَّفات وكتابات الإمام الشيرازي، أن يستخلص ويقع على عدة ميزات، يمكن أن يتلمّسها في مؤلفاته وكتاباته التي تميزت بكثرة الكمّ وجزالة النوع بحثا في قضايا الإنسانية المعاصرة، حتى يمكن القول بأنه لم يترك واردة أو شاردة تهمّ حياة الإنسان إلا وبحث فيها واستقصاها.

جاء في مقدمة كتاب "التعاون والعمل" لمؤلِّفه السيد الإمام الشيرازي، أن كتاباته وبحوثه ومؤلَّفاته تتسم: (بالتنوّع والشمولية لأهم أبعاد الإنسان والحياة، لكونها انعكاساً لشمولية الإسلام.. فقد أفاض قلمه المبارك الكتب والموسوعات الضخمة في شتى علوم الإسلام المختلفة، بدءً من موسوعة "الفقه" التي بلغت المائة والستين مجلداً، حيث تُعدّ أكبر موسوعة علمية استدلالية فقهية في العالم الإسلامي).

على الرغم من تنوّع كتابات الإمام، لكن هذا التنوع كان مدعماً بالعمق، بعيدا عن الاستسهال، حريصا على الجدية والحداثة، ساعيا في القضايا التي تمس كينونة البشرية وقضاياها المصيرية، مقدّما في ذلك الأفكار التي تطرح وتناقش وتستنتج، ثم تعطي أو تقترح الحلول المناسبة، من وجهة نظر عميقة نبعت من عقلية خبرت الحياة، وشرَّحتْ تركيبة الإنسان النفسية والفسيولوجية، واستطلعتْ حاجاته التي لا غنى عنها، وأحاطت بالعلوم والمعارف وتوغّلت فيها، بما جعلها قادرة على الخوض في علوم تهندس حياة العصر.

ومما يعضّد هذا الرأي أن الإمام الشيرازي كتب في:

(علم الحديث والتفسير والكلام والأصول والسياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق وسائر العلوم الحديثة الأخرى.. وانتهاءً بالكتب المتوسطة والصغيرة التي تتناول مختلف المواضيع والتي تتجاوز بمجموعها الـ 1300 كتاب وكراس/ المصدر: كتاب التعاون والعمل).

ومع تصاعد الكمّ الكتابي للإمام، والحرص على نوعية الأفكار والأطاريح المختلفة التي تخوض في تنظيم حياة الناس، كانت الميزة الأهم متوافرة، ولا يصعب تمييزها أو لمحها ملمح الباحث الخبير، هذه الميزة تتجسد بأصالة المبحوث أو المطروح الفكري، والابتعاد عن التقليد أو الأخذ عن الآخر، ونبذ القوالب الجاهزة التي يلجأ إليها مفكرون وفلاسفة عجزوا عن الدمج بين الأصالة والنبوغ الفكري.

على الرغم من أن السيد الإمام الشيرازي كتب في مجالات علمية عديدة، كلها تدخل في صلب حياة الإنسان، إلا أنه تعمَّدَ بأفكار وطروحات حملت معها أصالتها، وأبعدتها عن مناكفات النسخ أو التشابه أو التقليد، ومنحتها ما يشبه (الماركة) التي لا مجال لوصمها بالقِدَم أو الاجترار، ما يدلّ على أن الإمام قد ارتكزَ في مؤلّفاته على أركان أساسية دعمت أصالته أهمها القرآن والسنّة المطهّرة.

وهذا ما جعل مؤلَّفات وأفكار ومناقشات الإمام الشيرازي على نحوٍ عام تتميز:

(بالأصالة حيث إنها تتمحور حول القرآن الكريم والسنة المطهرة وتستلهم منهما الرؤى والأفكار/ المصدر نفسه).

من مزايا أفكار الإمام جذريتها، واستبصارها العميق للمبحوث، بالأخص تلك البنود التي تتصدى لمشاكل الأمة الإسلامية، وتدفع بها إلى الأمام وتستحثها كي تستعيد موقع الصدارة الذي يعدّ موقعها الطبيعي، تنويرا، إنسانية، تعاوناً، تعايشاً، وإنصافاً، فلا يتوقف الإمام الشيرازي فيما يطرحه بمتون مؤلَّفاته، عند حدود البحث والمناقشة والاستنتاج، بل يتعدى ذلك إلى ما هو أهم وأعمق حيث يقدّم:

(المعالجة الجذرية والعملية المستبصرة بمشاكل الأمة الإسلامية ومشاكل العالم المعاصر/ المصدر السابق).

كما تنص شروط المناقشات العلمية، والبحوث والدراسات، وطرح الأفكار عبر مؤلَّفات أو سواها، فإن الشرط الأهم أن يتحدث العالم أو الباحث باللغة العلمية التي تناسب المطروح العلمي، فلكل علم لغته التي تختص بمناقشاته وأساليبه، فـ حين التحدث عن الاقتصاد هناك لغة خاصة به، والحديث عن السياسة كذلك، والاجتماع له لغته الخاصة وأرقامه التي لا تنطبق على سواه.. وهكذا مع العلوم المختلفة.

ومن الميزات المهمة للعقلية الموسوعية للإمام الشيرازي، أنه حين يشرع في مناقشة مواضيع متنوعة ومختلفة في فحواها، فإنه يذهب دائما إلى (التحدث بلغة علمية رصينة في كتاباته لذوي الاختصاص).

في نهاية المطاف نستخلص أواصر وعناصر متقاربة، يمكننا العثور عليها في معظم أو جميع كتابات الإمام الشيرازي، تجمع بينها ميزات واضحة المعالم، قمنا بعرضها في هذا المقال الموجز، على أن نتابع ذلك في مجال أوسع، لنضع أمام المهتمين، جانبا مما كان يتحلى ويتسم به فكر الإمام الشيرازي، وانشغالاته وأساليبه، وحرصه الشديد على الملازمة بين الفكر والتطبيق.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي