الملامح العامة في الفكر السياسي عند الإمام الشيرازي
عبد الله الفريجي
2018-07-07 08:14
المقدمة:
إذا كان البحث السياسي يتجه نحو معالجة النظرية السياسية أولاً وتطبيقاتها العملية في الواقع الاجتماعي ثانياً؛ فإنه غالباً ما يتوصل إلى ذلك عبر الفلسفة السياسية باعتبارها العملية التي تحاول التوصل إلى أفضل الصيغ وأدق الأحكام، وتضع المبادئ والمعايير التي على ضوئها يتم بناء النظريات والتطبيقات.
فعلى سبيل المثال (هناك نظريتان تنزلان العوامل البيولوجية في الصراعات السياسية منزلة الصدارة؛ نظرية (تنازع البقاء) و(النظرية العرقية)، فأما الأولى فهي تتناول الصورة التي رسمها دارون لتطور الأنواع الحيوانية فتنقلها إلى المجتمعات الإنسانية. إن هذه النظرية ترى أن كل فرد لابد أن يصارع الآخرين ليبقى، ولا يبقى إلا من هو الأفضل، فالاصطفاء الطبيعي يكفل بقاء ونمو خيار الناس. إن نظرية دارون هي الشكل البيولوجي للفلسفة البرجوازية التي يعدّ التنافس الحر تجسيدها الاقتصادي)(1).
ومن هنا فإن الحديث عن أي مشروع فكري سياسي يقود تلقائياً إلى البحث في الفلسفة السياسية التي أقيم عليها المشروع؛ لأنها هي التي تعطي ذلك المشروع ميزته وخصوصيته.
وحين نريد أن نطل على المشروع الفكري السياسي للإمام الشيرازي الراحل(قده) فإننا نحتاج إلى الإطلالة على هذه المبادئ ولو بصورة مجملة، لكي نستطيع أن نقرأ مشروعه السياسي قراءة صحيحة، وبالقدر الذي تسمح به هذه المقالة المقتضبة، حتى لو كان الأمر لا يتعدى الإشارة إلى لافتات أو نظرات سريعة.
المعالم العامة لمبادئ المشروع
إذا أريد للبحث أن يتسم بقدرٍ من الموضوعية فلابد من إلقاء نظرة على الملامح العامة في فكر الإمام الشيرازي لكي نستطيع من خلالها الولوج إلى العالم الخاص له والمحصور بالجنبة الفكرية السياسية، ذلك أن أي مفكر يستند إلى ثوابت خاصة به تمثل أسس الرؤى وحجر الأساس فيها، وبالتالي فإننا نجد هذه المبادئ موجودة في جميع جنبات التفكير كظلال حتى لو لم يتم الإشارة إليها بصراحة في أبعاد وتفرعات الأفكار.
وإن أول ما يمكن تسجيله هنا هو كون الإمام الشيرازي) مثله مثل سواه من العلماء والمراجع، يشكل الفكر الديني الأرضية الواسعة لكل ما يفكر به أو يريد إنفاذه.
ومن هذه الزاوية فإننا نجد عدم الاهتمام بالفلسفة السياسية، وقلة الاتجاه إلى خوض السجالات التي تدور في العادة بين المدارس الفكرية؛ ذلك أن هذه المدارس تختلف عن الأفكار الدينية باضطلاعها بتأسيس الفكر من الألف إلى الياء، بالاستناد إلى تجارب بشرية سابقة وإلى الآراء العلمية، بينما نجد الفكر الديني نفسه في غنى عن ذلك بسبب وفرة النص الديني وخصوصاً الإسلامي الذي يفرض على العالم السعي وبذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية (بما أنها مواقف من الموضوعات على اختلافها، سواء كانت الأحكام مستندة إلى نصوص معتبرة أو إلى عمومات الشريعة، والتي يعبر عنها بـ(الوظيفة العملية) بالمصطلح الفقهي).
ولهذا نجد أن الإمام الشيرازي منذ البداية يرى أن الفقه هو الدائرة الأوسع التي لابد من بحث جميع المسائل والقضايا في إطارها، ولذلك فإنه ينقد الحالة السائدة التي تقسم العلوم إلى علوم دينية وعلوم دنيوية، ويقدم لنا رؤى فقهية في كل العلوم؛ ولهذا فإن البحث الاقتصادي والبحث الاجتماعي والبحث السياسي لديه هي مباحث لابد من تناولها في دائرة الفقه.
والمتأمل لهذه الخصوصية في ضوء الفصل الذي ساد بين الدين والسياسة في أجواء المدارس الفكرية الغربية والمدارس الأخرى التابعة لها في العالم الإسلامي، يجد أن الإمام يؤسس لعملية نسف كاملة لتلك المدارس.
ولعل قائلاً يقول أنه ليس الوحيد الذي مارس أو آمن بهذه القضية، فنقول أن هذا أمر لا مراء فيه، لكنه الوحيد الذي أدخل هذه العلوم إلى دائرة الفقه، بينما الآخرون خرجوا بمناهج الفقه إلى دائرة العلوم، وهذا فرق هائل من زاوية (مدرسة التأصيل) التي تشكل أهم أرضيات الفكر الإسلامي المعاصر؛ وبذلك يكون السيد محمد الشيرازي الوحيد القادر على أن يخوض في كل العلوم المعاصرة دون أن يعكس أي درجة من درجات الخروج عن الأصالة، وهذه طبعاً ميزة غاية في الأهمية لابد من تتبعها.
وإذا عدنا إلى انعكاس هذه القضية على الفكر السياسي للإمام وإلى مشروعه السياسي، فإننا نجد أنه يؤسس لقيم أو أفكار تقلب الواقع قلباً كاملاً، فبدلاً من فصل الدين عن السياسة لكي تنطلق السياسة في عالم بلا أخلاق ولا قيم، يفرض الإمام دمج السياسة برمتها دمجاً كاملاً بالدين فتصبح ليست أكثر من تجسيد لقيم الدين، وبمجرد أن تتوقف عن هذا التجسيد فإنها تتحول إلى حالة من الضلال والتيه، ولهذا فإن الإمام بدأ تجاوز الخطأ الشائع في فهم الدين (وفهم السياسة والعلاقة بينهما) (2)، (فالمفهوم الإسلامي للسياسة مفهوم أوسع من وظيفة الدولة، وأوسع من وظيفة زمن محدد ومكان محدد) (3).
وهكذا نجد أن الإمام وضع هذه المبادئ كأسس لمشروعه السياسي، وهي مبثوثة في كتبه ومحاضراته وخصوصاً كتاب (السياسة) و(دولة المدينة)، بالإضافة إلى نظرية (شورى الفقهاء) التي تعد من أهم التطبيقات السياسية التي تميز الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، لأنها استطاعت الجمع بين ولاية الفقيه ومشاركة الآخر في القرار السياسي.
فإذا (كانت المجادلات الحامية تتركز حول معنى من المعاني، فإنها تتركز اليوم وبحدة حول المعنى الواجب إلصاقه بعودة التدين، وبما أطلق عليه (جيل كيبل) تسمية: انتقام الله، ولو لم يكن الدين سوى تقليد الطائفة ووعيها الجماعي، وكانت الحداثة والديمقراطية تنتميان انتماءً كلياً لدنيا التغيير؛ وعليه إذا كان ينبغي أن تتعارض تماماً مع ما أسماه (رالف لنتون) الإسناد والإنجاز والنظم المنقولة والنظم المكتسبة، وما هو عليه الناس، وما يفعله الناس، فينبغي الاستنتاج بسرعة أن الديمقراطية والدين ينتميان إلى عالمين متناقضين على قدر ما في تعريف التقاليد والحداثة من تناقض) (4).
ولقد أثبت السيد الشيرازي تهافت هذا الاعتقاد، ذلك أن الدين ليس عودة للطقوس والروحانيات فحسب، بل هو عودة للقيم والنظم والأفكار الخلاقة التي صنعت عالم الأمس وستصنع عالم اليوم، وأمكن الجمع بينهما من خلال أطروحة شورى الفقهاء التي تعني عودة الدين وعودة الشورى (الديمقراطية).
وعلى أساس ما سبق فقد وضع الإمام (نظريات سياسية لبناء الدولة الإسلامية وطريقة عملها ومنهجها، والطريق الذي يوصل إليها ضمن ما سماه بالتغيير، وذلك من غير اشتراط لتبني نظرية غربية) (5).
ثم إننا إذا وضعنا الدين أرضية للتفكير، وكان الممارس للعملية هو أحد الفقهاء، فإن الحاجة إلى الخوض في الفلسفة السياسية ستضعف كما قلنا، ولكن ضعفها لا يأتي من فراغ بل لوجود البديل الكامل، فالعالِم بدلاً من الخوض في العلل والمبادئ التي قد لا يكون ملماً بها، فإنه يختار طريقاً آخر إلى تقرير الصحة والصواب، ألا وهو بذل الوسع في التوصل إلى اليقين والواقع بقدر ما تتجه الأدلة.
وهكذا فإن البديل عن الفلسفة السياسية إذا كان الموضوع سياسياً هو سعي العالم إلى الوصول بعملية الاستنباط إلى درجة قريبة من اليقين فيما يخص موضوعات السياسة، بعد أن يحيط العالم الممارسة الفقهية بكل الأدوات التي تقربه من هدفه، أي هدف إصابة الواقع.
غير أن هذا لا يعني إهمال الفلسفة السياسية والسجالات التي تخوض مباشرة في تقرير الأوضاع نهائياً، رغم شعور العالم بالكفاية من هذه الناحية، لأن بذل الوسع في اكتشاف الحكم الشرعي يؤدي بنفسه إلى التعويض عن السجالات التي تتطلبها الفلسفة السياسية؛ ذلك أن الفلسفة السياسية هدفها إيصال النظرية السياسية أو سواها إلى أعلى درجات الدقة في تقريب المواقف من الواقع، وهو بالضبط ما يسعى إليه الحكم الشرعي؛ حيث أن الاجتهاد لا يعني إلا بذل الوسع في الوصول إلى الحكم الواقعي الذي يوصل المكلف إلى الواقع، وبالتالي صحة المواقف من الموضوعات.
وإذا أردنا أن نطبق هذه القضية على الواقع في الممارسات السياسية الفعلية التي مارسها علماؤنا، فإننا نجد أنهم قد تمتعوا ببراعة فريدة في التعاطي السياسي دون أن يحتاجوا إلى دراسة السياسة على ضوء المناهج الغربية، وكانت براعتهم تأتي من خلال قدرتهم على تشخيص الأحكام الشرعية التي قلنا إنها تغني عن الفلسفة السياسية.
وهذا بدوره يقودنا إلى بحث الميزة الأخرى، وهي أن العالم حين يريد أن يطرح آراءه السياسية فإنه غير مضطر إلى تركيب نظرية سياسية، بل إن دوره ينحصر في اكتشاف معالم هذه النظرية لأنها موجودة؛ وبالتالي فإن دور العلماء يبدأ من المرحلة التي تلي التأسيس، وعليه يسهل على العالم الانتقال إلى دائرة التطبيق، ويتجاوز البحث في الأسباب والعلل التي تقود إلى سجالات لا نهاية لها.
وإذا شئنا تلخيص ملامح فلسفة الإمام الشيرازي فإننا نجد الملامح التالية:
1- تميز فكر الإمام بصورة عامة بنظرة ديناميكية للمجتمع والحياة، وهو عكس ما يحاول البعض إلصاقه بعلماء الإسلام؛ ولهذا نرى أن الإمام حرص حرصاً شديداً على معالجة المستجدات في أي جانب من جوانب المجتمع، ولهذا أيضاً فإنه أفرد بحثاً فقهياً لعلاج المشكلات الفقهية المستقبلية، إلى جانب معالجته للمشكلات الفعلية؛ ولقد ألّف في فقه المرور والبيئة والاقتصاد والاجتماع وسوى ذلك.. ويأتي هذا طبعاً في ضوء الإيمان بأن الشريعة حالة متحركة تواكب التطورات، وليست حالة جامدة، ولهذا فإن الله يأتي بأحكام جديدة كلما أرسل نبياً جديداً لمواكبة التطورات الحاصلة بين بعثات الأنبياء، وهذا أيضاً يصدق ولكن بدرجة أقل بالنسبة للشريعة الواحدة كالشريعة الإسلامية؛ ذلك أنها عاصرت زمن الحداثة الذي تعد ميزته سرعة التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي أدركه الإمام الشيرازي إدراكاً عميقاً، وعمل على إبراز ذلك في مؤلفاته وسلوكه العام.
2- وعلى ضوء ما سبق فإن السيد الإمام ينظر إلى الإسلام باعتباره شريعة منجزة قد اجتازت عصر التأسيس، ويركز بصورة خاصة على إدراك التطورات وبناء ما يلائمها من أحكام، وهو بذلك يخالف حركات النهوض التي حاولت إنجاز قطيعة مع الإسلام، إما بشكل علني عن طريق الإعلان عن مشروع تغريبي، أو بصورة غير معلنة عن طريق التفسير والتأويل والسعي للوصول للنموذج الحضاري الغربي بعد جر الأحكام إليه، ولو بتحميل النصوص ما لا تحتمله، والمهم هنا ملاحظة أن الإمام عمل على هذا الاتجاه في وقت كان فيه التيار الأول هو السائد بصورة مطلقة.
وبناءً على ما مضى فإننا نلاحظ اختلاف منطلقات الإمام الشيرازي الفكرية، رغم كون جوهرها منطلقات تغييرية تسعى إلى إنجاز النهضة، لكن بناءً على التواصل مع الذات وليس عبر القطيعة معها. وعندما يحاول تمتين التواصل فإنه يكون بمواجهة الإشكاليات القديمة، التي رغم تغير أشكالها فإنها لا تزال تحمل نفس الجوهر؛ فالسياسة ليست أي سياسة بل هي الدائرة التي حددها الدين فيها، ومن هنا فإنه يشعر بضرورة تأكيد الترابط الوثيق بين معرفة الدين ومعرفة السياسة (فإن الإنسان لا يفهم السياسة إذا لم يفهم الدين) (6) كما أن (السياسي لا يمكن أن يدير البلاد إن لم يأخذ بعين الاعتبار في أعماله وقراراته الناحية الدينية للشعب) (7).
منذ البدء يحدد الإمام (رحمه الله) منهجه في التعامل، وهو منهج لا يختلف بحسب العموم؛ إذ أنه لا يعالج كل علم على حدة، وبمنهج خاص، إنه منهج يعتبر أن جميع العلوم سواءٌ كانت في مجال النظرية أو التطبيق ليست سوى أبواب في الفقه؛ لذا فإنه يقول: (لقد كان من الجدير أن يكون (للفقه السياسي) باب مستقل في الفقه، بعد أن كانت له مسائل مشتتة في أبواب الجهاد، والمكاسب، والقضاء، والشهادات، والحدود، والقصاص، والديات، وإحياء الموات، وما أشبه ذلك.. ) (8).
هذه الالتفاتة ضرورية جداً لأنها من العوامل المهمة لردم الهوة بين علوم الدين والدنيا التي يئن منها عالمنا الإسلامي، حيث تشهد علوم الدين حالة من التضخم الرهيب، بينما يعاني الجانب الثاني من ضمور، ولعل هذا هو مرمى الإمام، خصوصاً أنه قام بمعالجة الكثير من هذه العلوم منطلقاً من الفقه، وهذا هو أهم ما يمكن أن نقيم عليه دعوانا في صلاحية الدين لكل عصر ومصر؛ إذ تقام على أرضية الفقه جميع معالم الحياة، ولا يقتصر على العلوم التي اقتصر العلماء على تسميتها بالفقه، بل إن الفقه هو مجموعة علوم تبدأ من الفقه التقليدي لتمر إلى كل العلوم الأخرى، وهذا يعادل إعادة بناء الحياة على أساس الدين.
فالإمام الشيرازي حين يريد علاج أي قضية لا يغادر منهجيته، ولا يبدأ بتناول القضية طبقاً لمناهج الآخرين، كما حاول البعض من العلماء، لكنه قد يشير إلى شيء مشابه لدى الآخرين، ولكن هذا التشابه مقام ومؤسَّس على قواعدنا الأصيلة، ولعل ما يؤكد ما ذهبنا إليه وهو صلب موضوعنا - أي الحكومة الإسلامية -.
لا يختلف الإمام وهو يتطرق إلى عناصر الحكومة الإسلامية عن كثيرين عندما يؤكد أن عناصرها هي ثلاثة (الإنسان، النظام، الأرض) وقد أكدت على هذه العناصر أبحاث من مثل (الفقه الدستوري الحديث)، و(علم السياسة)، حيث ورد (شعب أو أمة ينظم أمرهم حكم، ويخضعهم هذا الحكم جميعاً إلى أحكام قانونية واحدة لا تمايز فيها) في ص1 من كتاب (الاجتماع السياسي) للشيخ محمد مهدي شمس الدين(رحمه الله) وتضاف الأرض إلى هذه العناصر.
ويرى الإمام أن الحكومة حالة أصيلة ولدت بولادة الإنسان، ذلك أن عناصرها موجودة، ولكن أشكالها متطورة؛ إذ أن الحياة في أشكالها البدائية بحكم ضعفها تكون مستغنية عن التطورات والأشكال الناجمة عن تعقيدها، وبالتالي فإنها جهاز قابل لتحقيق الأهداف، فعلى الصعيد النظري فإن السلطة السياسية لدى الإمام هي امتداد لوضع قائم من حالة شرعية أسسها الأئمة المنصوص عليهم من قبل النبي(ص)، فهؤلاء هم القيادة الروحية والسياسية في نفس الوقت، لكن دورهم واحد، سواء كانوا مبسوطي اليد وممسكين بزمام السلطة الفعلية، أم لم يكونوا كذلك؛ فالحوزة العلمية بالمجموع ليست هي التي تمثل امتداداً لحالة الإمامة؛ لأن المرجع الفرد، وكما هو ثابت لدى جميع الشيعة، هو مجرد عالم قد يخطئ ويصيب؛ ولذلك لابد له من مكمّل يساهم في حصر دائرة الخطأ في أقل دائرة ممكنة، عندما يؤخذ منه في فضاء مجموع الحوزة العلمية؛ ولهذا جاءت نظرية شورى الفقهاء، هذه النظرية التي تدفع بالمرجعية بحالتها العامة إلى أقصى درجات التكامل الممكن، وذلك بسبب:
1- لأنها تتيح الفضاء الواسع أمام العالِم لطرح آرائه.
2- إنها تخلق حالة من الفضاء العلمي المتحرك الذي يتطلب المزيد من القوة والإحكام بسبب وجود النقد الذي يمارسه فريق من العلماء، كلٌّ على حدة، ومن وراء هؤلاء ثلّة من أهل الفضيلة، وأخيراً الجمهور.
المنطلقات الفكرية
لا تشبه منطلقات السيد الإمام الشيرازي الفكرية رغم كونها في الجوهر والبناء هادفة إلى التغيير، منطلقات شاعت في أفكار النهضة، أي المنطلقات الداعية إلى القطيعة مع الواقع، والرامية إلى استبداله بصورة مطلقة، وكأن المجتمع هو عبارة عن سلعة تالفة يمكن استبدالها بأخرى مشابهة؛ الأمر الذي جرّ على البلاد الكثير من الويلات، وقاد إلى تشابكات وتداخلات لا تزال إلى الآن من أهم معوقات النهوض.
فالإمام ينطلق من هذا الواقع، ومن آخر الأوضاع التي وصل إليها في بدء المسيرة؛ ولذلك فإنه يستند إلى الواقع القائم ليرسم صورة المنشود والمطلوب، كما أنه لا يغفل عن العناصر الجديدة التي يجب التوفر عليها للقيام بأي نقلة تغيير اجتماعية أو سياسية.
ولذلك فإن أول ما يطالعنا في المشهد هو الحوزة العلمية، تلك المؤسسة العلمية العريقة، وما يلحق بها من جهاز علمائي، ثم الشريعة الإسلامية بما تمتلك من غناء وسعة يجعلها تشبه النهر الممتد مع الزمن، الذي يؤمه كل جيل فيشرب ويأخذ حاجته منه، أما العنصر الثالث فهو الأشكال المستحدثة التي يمكن أن تسهل الارتباط بين الحوزة والمجتمع، في أي جانب من جوانب الحياة التي طالما نادى الإمام الراحل (ره) بضرورة دفعها إلى الأمام.
إذن هذه العناصر الثلاثة؛ الشريعة والحوزة العلمية والأشكال المستجدة، هي الأساس الذي يبدأ به مشروعه التغييري.
وإذا يممنا وجهنا شطر عالم السياسة فإن هذه العناصر حاضرة فيها وتشكل الأساس في إنتاج الفكر السياسي لدى الإمام الشيرازي.
ولهذا فإن شكل النظام السياسي لدى الإمام الراحل عبارة عن عملية تطوير للحوزة العلمية، ونقلها من النظام الحالي إلى نظام أكثر مواءمة مع الدولة، كما أن التطوير المفترض هو عبارة عما يسمح الشرع به من إضافة أو تحوير في الحوزة لتكون نظاماً سياسياً.
والإمام يحاول الإفادة من الأشكال المعاصرة للتعبير عن المفاهيم الأصيلة والموجودة في الإسلام، لكنها مغيبة؛ ولذلك فإن التغيير أو التجديد لدى الإمام ليس إلا عبارة عن رفع الغياب عن الأصالة المغيبة، ولا بأس بأن يكون إعادة الحضور بصورة معاصرة؛ ولهذا فإنه يرى أنها الأداة الأساسية للعالم فيقول: (يجب اضطلاع العالم الديني بالعلم السياسي) (كتاب السياسة: ص6)، ويتضاعف هذا الوجوب بسبب الظروف التي تعيشها الأمة، ويتسع أيضاً ليشمل أي متدين ولكن على نحو الكفاية.
لا يستطيع أي منظر إسلامي أن يتجاوز المرحلة الأولى التي شهدت فيها التجربة الإسلامية أول مخاض تطبيقي لها، ومن هنا نلاحظ أن الإمام أفرد لهذه التجربة التأسيسية بحثاً خاصاً تطرق فيه إلى معالم النظام الإسلامي في أول أشكاله التطبيقية. وهي ليست مجرد تجربة يمكن لنا أن نتجاوزها، بل إنها وضعت كافة الأبعاد على المحك، كما أنها رسمت ملامح عامة لكافة التطورات التي سيشملها المستقبل الإسلامي، لا بمعنى الإقرار بتوقف الحياة عند نقطة معينة من التاريخ، بل بمعنى إرساء المعايير التي ستظل توجه أي شكل من أشكال الممارسة السياسية مهما كان شكلها.
ومن هنا نلاحظ أن الإمام وضع هذه التجربة أمام عينيه، وطرحها من خلال الأبعاد المعيارية التي ستفرض على الواقع المعاصر تأثيرها الخاص، دون تجاهل مستوى النقلة التي قطعتها الإنسانية منذ عصر الرسالة وحتى العصر الحالي الذي تخوض الأمة فيه صراعاً من أجل البقاء والاستمرار والتأثير.
ومن هنا أيضاً نلاحظ في الصفحات الأولى أن الإمام يلقي الضوء على مبدأ هام جداً، وله مساس بالواقع المعاصر، ألا وهو الذي قال عنه ما يلي: (فقد قامت الدولة الإسلامية العادلة في المدينة ابتداءً على قيام الروابط الحسنة مع جميع الأديان) (9).
ثم يعقب مبرزاً هذه المعيارية ومؤكداً على طبيعتها الديناميكية التي تسمح لها بالاستمرار فيقول: (فقد كان الإسلام دائماً ديناً سمحاً يؤمن بحرية العقيدة ومبدأ التعايش السلمي بين معتنقي المبادئ المختلفة، ويعتبر أهل الكتاب متساوين مع بنيه في الحقوق والواجبات بطريقة أو بأخرى) (10).
فالأصل في النظم الإسلامية وبغض النظر عن الأزمنة والأمكنة هو تجسيد هذه المبادئ التي نرى صداها واسعاً في عصرنا الحاضر، فيكون الإمام قد كلّم العصر بلغة تأصيلية تخلق الوئام الكامل بين الواقع القائم والمبادئ الإسلامية التي نفترض أنها مستمرة إذا جادل البعض في ذلك.
دولة المدنية
فدولة المدنية دولة دينية، وكونها دينية لا يعني أن الدين كمالي، بل إن الدين مكوّن رئيسي من مكونات الثقافة التي بدورها تفرز إفرازها الرئيسي على مجمل أوضاع المجتمع، ومن هنا نرى الإمام يعالج في الصفحات الأولى أثر الدين في البيئة الاجتماعية، وتبعاً لهذه الأهمية فإنه يعالج الفروقات بين الأديان، لكي يصل إلى نتيجة غاية في الأهمية بالنسبة للدين الإسلامي، ألا وهي القابلية للحياة والبقاء
الرؤية السياسية
وإذا شئنا أن نطل على رؤية الإمام السياسية، فإننا سنواجه رؤية تجمع النظرية إلى جانب الشكل التطبيقي، دون أن ننسى التعريج على الفلسفة السياسية، وهكذا يكون الإمام قد جمع بين الاقتضاب والعمق في مجمل أوضاعه، وأن تكون الرؤية قد حملت ثلاث طبقات من التفكير السياسي (فلسفة السياسة)، وهو العنصر الذي يشكل أساس النظرية السياسية، ثم يصل إلى النظرية السياسية التي هي كما أسلفنا نظرية جاهزة وموجودة في الشريعة الإسلامية، وفي ثنايا التجربة التي خاضها الإسلام في عصر التأسيس، ثم أخيراً يخرج الإمام الشيرازي بعمله الاجتهادي الصورة الصالحة للتطبيق، والقادرة على التجاوب مع العصر.
فمنذ صفحات التمهيد يمكننا تلمّس هذه المعالم جميعاً، حيث يقول الإمام: (لقد كان من الجدير أن يكون للفقه السياسي باب مستقل في الفقه، بعد أن كانت له مسائل ديناً ودنيا، وهذه الخاصية هي التي ستفرز الشكل الخاص للحكومة الدينية الإسلامية، فهي وإن سميت دينية إلا أنها أيضاً دنيوية) أي أنها خلقت حالة من التمازج بين العالمين الذين غالباً ما ينفصلان في بقية الأديان، وهذا طبعاً من المعالم المهمة التي لفت الإمام الأنظار إليها.
فالإمام اكتشف أن المعايير التي يراد لها أن تسمى أخلاقية، لا تهدف إلى تنظيم عالم الفرد الروحي فقط، بل إنها تهدف أيضاً إلى تنظيم الحياة وإرساء عالم صحيح؛ فتكون الحكومة الإسلامية عبارة عن (القدرة) التي ستجسد المبادئ الإلهية في شكلها الدنيوي والحياتي.
ولعلنا نجده في بقية أقسام الكتاب يعمد إلى استنطاق التجربة السياسية في المدينة المنورة، ليستخرج الجوانب التي تمس حياتنا المعاصرة؛ ذلك أنها كما قلنا ذات صفة معيارية وليست أشكالاً مربوطة بزمن معين، أو أشكالاً مثالية لا تصلح إلا لعالم المثل الأفلاطوني.
ومن خلال هذه العجالة نستطيع تأكيد حالة التأصيل المعاصر للدين، وهي ميزة لا تكتفي بطرح مجرد للقيم والمثل؛ بل تطرح الجوانب المتشتتة من أبواب الجهاد والمكاسب والقضاء والشهادات والحدود والقصاص والديات وإحياء الموات، وما أشبه ذلك.
إن الفقهاء قلما ألّفوا كتاباً خاصاً في هذا الشأن وما يتبعه من أمثال (قاطعة اللجاح) و(تنبيه الأمة) و(الحكومة الإسلامية) وغيرها.. وذلك لاكتفائهم بما دونوه في تلك الكتب من المسائل المشتتة، مما استنبطوه من الكتاب العزيز) (11).
فكل شيء لدى الإمام الراحل يمر من بوابة الفقه وينتهي إليه؛ ذلك أنه فقه شامل لا يقف عند زمان أو مكان، والذين يعتقدون بتوقف الفقه إنما هم الذين توقفوا عند فقه معين، أما الإمام الشيرازي فإنه يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل برابط أساسه الدين والوعي والإدراك العميق للموضوعات.