فلسفة التاريخ على ضوء رؤية الإمام الشيرازي
محمد طاهر الصفار
2018-06-18 06:48
هل بإمكاننا الاعتماد على ما وصل إلينا من معلومات في المصادر حول الأحداث والشخصيات التاريخية بصيغة نهائية وتبنّي تلك المعلومات على أنها من المسلمات، أم أن للتاريخ قول آخر خُفي أو أخفاه المؤرخون؟
إن الانحياز إلى مؤرخ بعينه على أنه موضوعي أو أنه أكثر موضوعية من غيره لا يعتمد فقط على أنه يدوّن الحقيقة التاريخية دون أن يعيش معها حالة الارتباط التاريخي أو الحوار الداخلي الذي يبرزها كحقيقة ذات مغزى برؤية عميقة ونافذة إلى الماضي.
هذه النظرة الثاقبة والرؤية الدقيقة التي ترسم الخط القويم الذي يجب أن يسلكه المؤرخ في تضاريس التاريخ طرحها السيد المرجع آية الله العظمى الإمام محمد الحسيني الشيرازي بدقة وأعطاها أهمية ونوّه عليها بالقول:
(يلزم على من يريد معرفة فلسفة التاريخ، أن يجمع أكبر قدر ممكن من الحالات، والمعلومات، والخصوصيات، والمزايا المتعلقة بموضوع الدراسة، وأن يقوم بدراسة دقيقة للوثائق، أهي صحيحة أو غير صحيحة؟ قطعية أو ظنية؟ شكية أو وهمية؟ وأن يصب ذلك في قوالب الأشكال الأربعة مراعيا للصناعات الخمس حسب ما يقوله المنطقيون حتى يصل إلى التحليل الدقيق، وأن يقوم بعملية تركيبية، وصياغة المادة التاريخية صياغة علمية، متجاوزا مرحلة السرد والوصف إلى التعليل فإن لكل شيء سببا، ولكل شيء مسببا، فيتعرض المحلل التاريخي للوقائع التاريخية مع تناول علل وأسباب يريد استخلاصها، فما هو علة هذا، وما هو سبب هذا، وما هو المعلول، وما هو المسبب؟ وأن يصل بذلك إلى أحكام كلية، وتلك الأحكام الكلية جارية في السابق، والحاضر، والمستقبل، وبذلك يتمكن أن يتنبأ عن المستقبل تنبؤاً علمياً) (1)
في هذه الفقرة يدحض الإمام الشيرازي قول البعض بأن (لا سبيل إلى تعلم أية دروس من التاريخ، لأن التاريخ على نقيض العلم، لا يقدر على التنبؤ بالمستقبل) وهو بذلك يبني رأيه على أسس متينة في فلسفة التاريخ إذ إن أهمية نتاج العملية التاريخية ومدى تفاعلها في الحاضر يقتضي من المؤرخ أن يفهم الماضي على ضوء الحقائق التاريخية بمعزل عن الصورة التي صورتها لنا الأهواء والنزعات المذهبية والسياسية.
إن مسألة التنبّؤ التاريخي التي طرحها الإمام الشيرازي تعتمد ــ وبصورة أوضح ــ على التمييز بين الشمولي والمفرد ولا يقتصر عمل المؤرخ على أحد منهما دون الأخذ بالتعميم واستخلاص النتائج المرجوة، كما تتنبأ النظريات الفيزيائية الحديثة في وقوع الأحداث، والاقتصادية بحدوث انتعاش أو كساد، والسياسية بأحداث سياسية مهمة ... وقد أبرز الإمام الشيرازي هذه المسألة التي تعد في صميم فلسفة التاريخ بصورة أعمق وأدق في قوله:
(اللازم على من يريد تحليل التاريخ، وذكر فلسفته، أن يعزل موضوعه زماناً، ومكانا، وشرائط، وخصوصيات، ومزايا عن سائر العصور، والدول، والأزمنة، والأمكنة، وغير ذلك، حتى يصل إلى جوهر التاريخ، كما يعزل العالم الطبيعي الظاهرة الطبيعية عما هو من حولها من الظواهر الأخرى، حتى يصل إلى الجوهر العام والكلي المختفي في الظواهر، فإن لكل شيء ظاهرا وباطنا، وأحيانا يكون الباطن بعد باطن حتى يصل إلى سبعين باطنا كما ورد بالنسبة للقرآن الكريم: (إن له سبعين بطنا) وإذا أردنا أن نمثل ذلك بمثال وإن كان المثال يقرّب من جهة ويبعد من جهة، نمثله بالجنين المستخلص من المني، المستخلص من الدم، المستخلص من التفاح، المستخلص من الشجرة، المستخلص من التراب، والماء، والنور، والهواء..) (2)
فعلى المؤرخ الأخذ بنظر الاعتبار أهمية هذه العلاقة التي يتم على ضوئها الرؤية الصحيحة إلى الماضي بعيداً عن المغالطات والالتباس والميول السلطوية لتحقيق الترابط الوثيق بين مجتمع الأمس ومجتمع اليوم إضافة إلى حمل الأمانة التاريخية ونقلها إلى الأجيال بـ (أخلاقية) المؤرخ في وصفه للأحداث والسير الشخصيات التاريخية وتوجهاتها فهي:
(من موضوعات فلسفة التاريخ التي يجب على الباحث التاريخي أن يلاحظها) (3)
فقبل المضي في إطلاق الأحكام بمعايير الفعل التاريخي يجب: (النظر إلى تاريخ الأمة بصورة إجمالية، والقول إن تاريخها تاريخ أخلاقي، أو تاريخ غير أخلاقي)
فبما أن التاريخ هو نتاج مراحل متعددّة وسياق يتحرك باستمرار، وقد حمل أحداثاً ودروساً متباينة فإنه يمثل الماضي الحي الذي يعمل على تكريس العوامل التي ساهمت في تبلور العملية الحضارية عبر مراحلها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية فالتاريخ هو جميع الأحداث التي تصب في قوالب هذه الجوانب:
(الأحداث قبل أن تقع .. هي بانتظار اللحظة التي ستقع فيها، ولحظة وقوعها تدخل في مكونات الحاضر ، وعندما يمر زمان على وقوعها ، تصبح شيئا من الماضي، وهذا هو التاريخ.
تصدق هذه الحقيقة على كل شيء، باستثناء الله "سبحانه وتعالى" حيث لا يشتمل عليه الزمان كما قرر في علمي الفلسفة والكلام وكذلك المجردات على بعض الأقوال). (4)
فعلاقة التاريخ مع كل هذه الجوانب صميمية تنبع من أسس وقواعد نهجتها الأمة لقرون طوال ويوضح الإمام الشيرازي العلاقة بين التاريخ وبين أهم هذه الجوانب وهو جانب الفقه كونه يلامس حياتنا اليومية ولا يستغني الإنسان المسلم عن الرجوع إليه فيقول:
(لما كان الفقه شيئا من الأشياء، فارتباطه بالتاريخ ارتباط وثيق لا انقطاع له، فالفقه الإسلامي لم يكن ثم وجد ثم مر عليه الزمن لا بمعنى انعدامه كانعدام الإنسان والحيوان بل بمعنى مرور الزمان عليه).(5)
إن التاريخ أصبح هنا انعكاساً للحاضر أو بمعنى أدق قد تحالف مع الأجيال وسايرها وهنا يشكل الإمام الشيرازي سلسلة متصلة الحلقات تهدف إلى توسيع وتعميق فهم المصطلح الفلسفي للتأريخ يقول:
(مثلا: فقه الإمام الصادق (عليه السلام) تكون عندما قال الإمام تلك الأقوال وبين تلك الأحكام، فأصبح قوله وفعله تقريرا فقها، وعندما رحل الإمام إلى الرفيق الأعلى ومر على هذا الفقه زمن طويل، أصبح ذلك الفقه تاريخا و((تاريخا)) بالمعنى الفلسفي للكلمة لا بالمعنى العرفي لها، أي ليس بمعنى انقضاء العمل به بل يؤخذ به إلى قيام الساعة، لأنه حقيقة يريدها الله للبشر حتى انقضاء أجلهم المكتوب لهم على هذه الأرض). (6)
فعملية تقسيم التاريخ إلى مراحل ليست واقعية بل فرضية ضرورية للمؤرخ بقدر ما يفي بتسليط الضوء على الحقيقة الكاملة ولم جزئياتها واختبار الأدلة التي يملكها وهو ما يميز المؤرخ عن غيره يقول الإمام الشيرازي:
(إن منهج علم التأريخ، يعتمد على جمع أكبر عدد ممكن من الوقائع التاريخية بهدف الوصول إلى أحكام كلية على طبق ما ذكر في العلوم الطبيعية، إما على نحو القياس، أو على نحو الاستقراء، أو على نحو التمثيل) (7)
فالإمام يطرح هذين المفهومين لاستخلاص الحقيقة منهما وفق منهج البحث العلمي الموضوعي الذي يلجأ إلى الاستدلال بدلاً عن الاستحسان لنقل حقائق التاريخ بنظرة محايدة لا تقودها الأهواء والنزعات المذهبية والعرقية، فدراسة المؤرخ نفسه مهم قبل دراسة التاريخ لأن المؤرخ هو من نتاج التاريخ والمجتمع أيضاً وهو معرّض للإصابة بأمراض التعصّب، فاختيار التاريخ النقي مهم جداً لتتعلم منه الأجيال وتتأمل وتستخلص الدروس، ويضرب الإمام (قدس الله سره الشريف) مثالاً مشابهاً في الفقه حيث يقول:
(وقد أضاف بعض علماء الأصول الاستحسان، لكن الاستحسان ليس له ضوابط خاصة، ولهذا فإن الفقهاء أسقطوا الاستحسان عن الاستدلال، لأنه حسب ذوق العالم الذي يستحسن ولذا فأحدهم يستحسن شيئا، وأحدهم يستحسن شيئا آخر...) (8)
فالإمام الشيرازي لا يرى بديلا عن الدليل والقرينة للإثبات حيث يقول:
(لا يؤدي الاستحسان إلى تأسيس أحكام كلية، فهو ليس منهجا علميا، وبالتالي لا يوجد قاعدة كلية وهذا من جهة العلم) ..... (9)
فالهدف المنشود من اتباع المنهج العلمي للتاريخ هو الوصول إلى خبرات التاريخ وفهمها والاستفادة منها والتي يفهم على ضوئها الأحداث الحالية أو المستقبلية من خلال استقرائها بموضوعية محايدة تلتقي بالنتيجة فيهما نظرة الدين والعلم وتتفقان فهما لا ينفصلان أبدا حتى لو بلغت الشعوب غاية التطور في العلم فإن ذلك سيصبح وبالا عليها ما دامت نظرتها أحادية نحو هذين القرينين يقول:
(فإن فلسفة التاريخ منهج علمي يستفيد من منهج العلم ومن غاية العلم، كما إنه يستفاد من ذلك احتياج العلم إلى الدين، وإنه لا يمكن للعلم أو الدين أن يؤثر لوحده، فهما جناحان للحضارة الصحيحة وقد أضحت غاية العلم خدمة أغراض الدين، فإن العلم بدون الدين لا يتمكن أن يخدم الإنسان، بل كثيرا ما يكون العلم آلة للهدم بيد الإنسان، كما رأينا في هذين القرنين بالنسبة إلى البلاد الغربية، وقبل ذلك كان دين المسيحية دون وجود أي دور للعلم، فأفسدت الكنيسة إفسادا لا مثيل له) (10)
إن هذه النظرة المتفحصة العميقة تفرز مباشرة إلى الأذهان النكبات والمآسي والمجازر التي حدثت في ذروة عصر العلم اليتيم الذي فقد قرينه ــ الدين ــ فأصبح كالذئب المفترس لا تحده أخلاق ولا تهذبه مثل وقيم:
(وفي هذين القرنين، وبعد أن أضحى العلم بدون وجود الدين، أفسد العلم إفسادا لا مثيل له، حتى انتهى إلى صنع القنبلة الذرية المدمرة) (11)
هذه النظرة السريعة هي والقراءة الموجزة هي لبعض فصول الكتاب الذي ألم بكل ما للتاريخ وما عليه وكل ما يلزم المؤرخ أن يسلكه من منهج بحثي وعلمي حيث يقصر القلم ويكل الذهن عن الإحاطة بكل فصول هذا الكتاب القيم الذي ما أحرى أن يدرس في الجامعات والمعاهد كمنهج علمي عظيم عن فلسفة التأريخ.