لماذا لا يمتلك المسلمون مقومات الحياة؟
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2018-01-29 05:50
لكل أمة خصوصية تشمل الإرث الفكري والديني والفلسفي والثقافي، تمثل هويتها التي تميزها عن الأمم الأخرى، وتبعا لهذا الإرث المفعَّل حاضرا، أو هكذا ينبغي أن يفعّل دائما، تتشكل الشخصية الجمعية، لتنهض على مقومات لا سبيل لإهمالها أو عدم اعتمادها، فالأمة التي تهمل مقومات تطور الحياة ونهوضها، لا تقوم لها قائمة، وستبقى تراوح في مركز الانحطاط والتخلف، فيما تتقدم الأمم لتصبح أمامها بعد أن كانت وراءها، والأسباب واضحة، لكن المعالجة قاصرة.
ولو أردنا الحديث بدقة أكبر، فإن المسلمين، هذه الأمة التي تصدّرت قيادة العالم ثقافة وفكرا وسياسة وفي المجالات كافة، إبان الرسالة النبوية وخلق الأمة الأكثر تميّزا وفاعلية آنذاك، باتت اليوم في مواقع متدنية من التطور، ومرتفعة في التخلف، لسبب يعرفه أولي الأمر من الساسة والنخب المثقفة القيادية، هذا السبب يمكن تلخيصه بإهمال خلق وصنع وتطوير مقومات الإنسان، والمشكلة الأكثر تأثيرا وتعزيزا للتأخر، أن سلاح المسلمين في التطور واستعادة الموقع الريادي في العالم، هي الأماني الخالية من الفعل أو التطبيق.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (لنبدأ من جديد) عن هذا الموضوع:
(إن أعداء المسلمين في أعلى مراكز القوة، وإن المسلمين في أحط مراكز الضعف، فهل يمكن ـ والحال هذه ـ أن يرتفع المسلمون إلى مستواهم، وأن يتفوقوا عليهم بمجرد الأماني؟).
ثم يعزو الإمام الراحل، هذا التراجع والقصور في التفكير والأداء والإدارة إلى سبب سبق ذكره في صدر هذا المقال، ففي الوقت الذي يمتلك فيه أعداء الإسلام كل مقومات الحياة وتطورها وتقدمها، من علم وكفاءة وأسباب أخرى لتحقيق التفوق والتصدّر على الأمم الأخرى، فإن المسلمين لا يمتلكون شيئا من هذه المقومات، لأنهم أساسا انشغلوا في جوانب ومآرب أخرى لا علاقة لها بصنع مقومات الحياة ودفعها إلى أمام، وهم بذلك غادروا جذورهم الإسلامية التي صنعت أعظم دولة وأمة وفكر وإنسانية في تأريخ البشرية، وشتان ما بين الأوائل، والأواخر، فالأوائل صنعوا مقومات الحياة العظيمة وانشغلوا بهذه الصناعة في مجالات العلم والفكر والثقافة والدين، فيما انشغل مسلمو الحاضر بتدمير هذه المقومات.
لهذا يتساءل الإمام الشيرازي عن هذا الأمر قائلا:
(إن المعادين يمتلكون الحياة ـ الكثير منها ـ والمسلمون لا يمتلكون أيّ مقوّم للحياة، فهل ـ والحال هذه ـ يمكن تقدم المسلمين؟).
كيف يمكن أن ينهض المسلمون؟
ومع سيل التساؤلات التي يطلقها الإمام الشيرازي، إلا أنه لا يحصر بحثه في هذا الموضوع بتأشير الأخطاء فقط، ولم يتوقف عند المشكلات الكبيرة التي يعاني منها المسلمون، إن سماحته يبحث فيها ويكشفها للملأ ممن يهمه هذا الأمر، وهذا الكشف يأتي ويتم بأروع الأساليب وأكثرها دقة وعلمية وواقعية، ثم يبدأ سماحته في كتابه القيم (لنبدأ من جديد) بوضع سبل التصدي لتلك الأخطاء والمشكلات وكيفية معالجتها، ليضع ذلك بين أيدي الحكومات الإسلامية وصنّاع القرار بوضوح تام وعلمية دقيقة، مع وضع المقترحات العملية للمعالجة.
وما على الحكومات وحكامها سوى الإطلاع الدقيق على هذه المعالجات العلمية، ومن ثم الشروع في تطبيقها لإعادة أمة المسلمين إلى عهدها السابقة ودورها التنويري العظيم الذي أنقذ العالم من هيمنة الظلام إلى رحاب الضوء العلمي الفسيح، بعد أن غابت العلل والأمراض عن المسلمين وصارت هذه الأمة تقتفي أثر القادة العظام من أمثال النبي محمد (ص) والإمام علي بن أبي طالب (ع)، فالقضاء على العلل والأمراض هو السبيل الأقصر للسمو والتقدم والنجاح.
يقول الإمام الشيرازي في مؤلَّفة هذا: (إن المسلمين انهزموا لألف علة وعلة، فإذا فرضنا أننا تغلّبنا على بعض العلل فهل يكفي ذلك لإنهاض المسلمين ولنهضتهم؟).
وثمة عقبة أخرى في طريق تقدم المسلمين، وهي قضية البحث عن الأعذار أو الأسباب التي أدت إلى تأخرهم، وإعطائها أكبر من حجمها، وجعلها عقبات فعلية ذات طابع ذرائعي، فهناك من يقول بأسباب عديدة جعلت المسلمين في أدنى درجات التقدم، ويعزون ذلك إلى عدم الاتحاد، أو قلة رجال العلم، أو عدم احترام النظام، وغير ذلك من الذرائع والتبريرات، ولكن هل ستتطور أمة المسلمين في حال معالجة هذه الذرائع، هذا هو السؤال الجوهري الذي يطلقه الإمام الشيرازي، ويجيب عنه في ذات الوقت. فيقول سماحته:
(لقد واجهتُ أناساً ينسبون تأخر المسلمين إلى عدم الاتحاد.. وآخرين ينسبونه إلى عدم توفر القدر الكافي من رجال العلم. وآخرين ينسبونه إلى عدم النظام.. وآخرين ينسبونه إلى عدم وجود القيادة الصحيحة.. وآخرين.. وآخرين.. فهل أن الأسباب منحصرة في أحد هذه الأمور أم جميعها، أم هناك أسباب أخرى؟). لا شك أن هنالك أسباب أخرى ينبغي البحث عنها بعلمية ومهنية والتحري العلمي الدقيق وصولا إلى النتائج الأكثر دقة وصوبا.
أولوية امتلاك العلم بالحياة
ثمة أولويات ينبغي أن تتم دراستها وتأشيرها، والمضي في توفيرها كونها تقف في صدارة العوامل المساعدة على عودة المسلمين إلى موقع الصدارة، فحتى لو تمكن المسلمون من تحقيق بعض الأمور والجوانب التي تساعد في دفعهم إلى الأمام، لكن ثمة أمر أكثر أهمية يتطرق إليه الإمام الشيرازي بوضوح، فهناك بعض النواقص المهمة حتى مع توفيرها وتحصيلها، لكنها لن تكون قادرة على تحقيق التقدم المطلوب لأمة المسلمين.
مثال ذلك هل يكفي أن يوفر المسلمون العلماء وحدهم كي يتطوروا ويتقدموا، أم هل يكفي تنظيم شؤونهم لتحقيق الانتقال المطلوب من التخلف إلى التقدم، وهل يكفي أن يكون لدينا قائد مناسب كي نحقق ما نربو إليه؟؟ في الحقيقة أثبتت التجارب أن الجانب المهم ليس تحقيق بعض العوامل المساعدة على تطور الأمة، وإنما ينبغي أن تكون لدينا معرفة كافية بطبيعة الحياة وتعقيداتها، كذلك علينا أن نمتلك الأسلحة الكافية التي ترجّح كفتنا على الآخر المضاد لنا.
إذ يتساءل الإمام الشيرازي عن هذا الأمر قائلا:
(فهب أنّا وحّدنا الجهود، ووفرنا القدر الكافي من أهل العلم، ونظمنا شؤوننا، وسلّمنا الأمر إلى قائد حكيم، ثم لم يكن لنا علم بالحياة، ولم تتوفر لنا الأسلحة الكافية، فهل ننجح؟). بالطبع لا يمكن أن يحقق المسلمون ما يربون إليه بعيدا عن المعرفة الموسوعية الشاملة، إلى جانب ذلك عليهم بامتلاك أسباب القوة وكل ما يسهم في توفيرها.
لذا فإن الإجابة الصحيحة عن تساؤل الإمام الشيرازي تكمن في الوصول الجمعي الشامل إلى منبع العوامل المساعدة على التقدم والتطور، كما أننا جميعا، الأفراد والجماعات، والقيادات، والنخب، والمنظمات، والمؤسسات المتخصصة بالثقافة والعلم والإعلام، علينا جميعا أن نسعى بقوة لصنع مقومات التقدم والارتقاء، لذلك فإن سببا واحدا يمكن أن يكون كافيا لإلحاق الهزيمة بالأمة، أما النجاح والتطور واسترداد مكان الصدارة، فإن هذا يتطلب اجتماع أسباب النجاح كلها، وتوافرها لكي تصبح أمة المسلمين قادرة على قيادة الركب العالمي، وهذا هو موقعها الذي يليق بثقافتها وتأريخها وإسهامها في تنمية البشرية وتطويرها.
لذلك يجب الإمام الشيرازي عن تساؤله أعلاه بالقول: (الجواب: كلا، إلا إذا أخذنا بسائر أسباب الحياة، وسائر مقومات الرقي والتقدم. إذاً.. سبب واحد كاف في الهزيمة.. ولكن لا يمكن النصر إلا بتوفر كل الأسباب).