كيف نفهم المستقبل؟
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2017-08-05 06:00
"من مشكلاتنا نحن المسلمين بصورة عامة، والشيعة بصورة خاصة، ان فهمنا غير واسع، لا لحياتنا الحاضرة، ولا لحياتنا الغابرة، ولا للمستقبل، والفهم أن تفهم ما انت فيه، وان تفهم من قبلك وتفهم من بعدك.
توجد في الغرب مدارس تسمى بالمدارس المستقبلية، مهمتها النظر فيما يحصل بعد مائة عام، فيخططون لطريقة معالجته والتعامل معه، وهذا امر معقول وطبيعي، كما لو ان زوجتي حامل وبعد اشهر تلد، فيجب الاستعداد مالياً لتغطية تكاليف الولادة ثم لتوفير المحيط المناسب للطفل وهكذا... أو ان تكون النظرة المستقبلية فقط في اطار الدار الذي نفكر في بنائه او الزوجة التي نختارها، وامثالها، بل في الغرب هنالك من يتوقع الى ما بعد الف سنة ما يحصل، ولذا نجدهم يتحكمون بالمستقبل، وأي مستقبل يتحكمون به.
المسألة الثانية التي نحتاجها؛ أن نفهم الحياة المعاصرة والحياة الغابرة، وقد قال امير المؤمنين كلمة لولده الحسن، عليهما السلام، غاية بالروعة والبلاغة: "انظر الى ما سبق وما يأتي مثل ما سبق"، إنما الصيغ تتغير.
استشراف المستقبل من أسرار النجاح
يبدو التطلع الى قادم الايام للتعامل مع ما يخبئه المستقبل لتفادي الاصطدام بالمفاجآت، أمر غريزي في الانسان، وإلا كانت الاخطاء والكوارث والمعاناة تواكب البشرية على طول الخط، لذا نجد أي انسان، وفي أي مجال يعيشه، يفرد حساباً خاصاً للغد لتحقيق اكبر قدر ممكن من النجاح، مثل الفلاح الذي ينتظر محاصيله الزراعية، والتاجر الذي يتوقع ارباحه والطالب الذي يتطلع الى تفوقه العلمي وهكذا حال مختلف افراد المجتمع.
بيد أن ثمة فارق بين من يتوقع محصوله من القمح او الفاكهة –مثلاً- لحصوله على الارباح، وبين من يفكر بحجم هذه المحاصيل الزراعية في السوق، وما اذا كان العرض يستجيب للطلب، وهكذا طالب العلم الذي يتوقع نيله الشهادة الجامعية ليحصل من خلالها على فرصة عمل، وبين من يفكر بمدى تأثير تخصصه العلمي على عجلة التطور والتقدم في بلاده، سواءً؛ كان في الطب او الهندسة وغيرها من فروع العلم.
فالنظرة المستقبلية يلتقي عندها الجميع ممن يبحثون عن أفضل الخيارات والبدائل لما هو أحسن في قادم الايام، والحؤول دون ارتكاب اخطاء تؤدي الى الخسران، ولكن؛ يفترق منها صنفان في المجتمع والامة؛ من يفكر بحدود مصالحه الخاصة، ومن يفكر بالصالح العام، وكلما زادت نسبة وجود الصنف الاول، برزت معالم التخلف والحرمان والانكفاء على الذات، وما يستتبع ذلك من انتشار البطالة والتبعية والفساد، واستفحال طبقة الاثرياء واصحاب الامتيازات على حساب طبقة الفقراء ومحدودي الدخل، بالمقابل؛ كلما زادت نسبة التفكير بعقلية أوسع بعداً وشمولية ومسؤولية، كلما تحقق التطور العلمي والثقافي والاكتفاء الذاتي.
وعندما يتحدث سماحة الامام الشيرازي الراحل في هذا المقطع الصوتي عن انعدام الفهم للماضي وللحال الحاضر، ثم انعدام الرؤية للمستقبل، إنما يؤشر الى الصنف الثاني المتجه نحو آفاق المستقبل بما يتعلق بمصير الامة ومستقبلها وليس فقط مصير فرد او جماعة، وإلا فان الحالة العامة السائدة في افراد الامة؛ التفكير والتخطيط للمصالح الشخصية، ليس فقط لأيام وأشهر قادمة، بل ربما لسنوات قادمة لضمان أفضل صيغ العيش الرغيد.
فاذا اردنا يوماً الانتقال من التفكير في الدائرة الضيقة بالحياة الخاصة، الى رحاب التفكير الأوسع، يكون لزاماً علينا مراجعة الماضي بما يحمل من دروس وعبر وتجارب الماضين، فالأمم الناجحة، تلك التي قرأت تاريخها وتجارب الماضين من ابنائها واستفادت مما يمكن الاستفادة منه في حالها الحاضر، فلم تكرر الفشل والهزيمة، إنما خلقت فرصاً وخيارات جديدة للتطور والتقدم في المجالات كافة.
وفي كتابه فقه المستقبل يتحدث سماحة الامام الشيرازي عن أهمية دراسة الماضي بانها "تكشف للانسان آفاق المستقبل، ويقول: عادة افكارنا عن المستقبل تأتي من الماضي لا من المستقبل نفسه، وهذا واضح لأن المستقبل لم يأت بعد، فما حدث في الماضي هو مصدر إرشاد الإنسان إلى ما قد يحدث في المستقبل"، أما كيف يمكن استخدام الماضي لدراسة المستقبل، فيقول سماحته: "إن افتراض أن الأوضاع التي كانت في الماضي سوف تتواصل في المستقبل مع لحَاظ المتغيرات القطعية والمحتملة، مضافاً إلى دراسة الأسباب والمسببات والعلل فان كل سبب ينتهي إلى نفس المسبب، وتلك سنة الله الثابتة في الكون".
وفي القرآن الكريم دعوات صريحة للأمم والاجيال بأن تستفيد من تجارب الأمم السالفة لتجنب تكرار التجارب الفاشلة فيما يتعلق بالإيمان والعقيدة؛ {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، (سورة آل عمران، 137)، وفي آيات أخرى يربط القرآن الكريم بين الاتعاظ بعواقب المكذبين والمصرين على سلوك طريق الخطأ، وبين إصلاح الحال الحاضر بعدم الاتباع الاعمى لقوانين وأعراف الماضين؛ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}، (سورة البقرة، 170)، فحكم العقل يقضي بتفهّم حقائق الحياة وما فيها من نِعم وفرص للتطور والنمو، ثم استشراف المستقبل لمزيد من التطور والتقدم مع نسبة أقل من الاخطاء.
مؤسسات البحوث المستقبلية
كما أكد سماحته – طاب ثراه- في غير مؤلف ومحاضرة مسجلة على مؤسسة العمل والتخطيط، فانه يدعو هنا الى مأسسة البحوث المستقبلية ايضاً، مستفيداً من تجارب الماضين في العالم المعاصر الذين تقدموا أشواطاً في مجالات عدة ثم تحولوا الى مصدر لإغناء العالم بالتكنولوجيا والطب والهندسة وحتى السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون! لذا نجد سماحته يضغط على الكلمات بشدة – في هذا المقطع الصوتي- عندما يشير الى وجود مؤسسات بحثية في مجال استشراف المستقبل تخطط لما بعد مائة عام، أي ان القضية لا تحتمل العمل الفردي كما هو التنظير او التفكير او القيام ببعض المبادرات الفردية الحسنة.
ومن أول من توجه نحو مأسسة البحوث المستقبلية في العالم المعاصر؛ الاميركان، و في وقت مبكر من القرن العشرين، ففي كتابه؛ الامم المتحدة في نصف قرن، يقول الكاتب المصري حسن نافعة أن الادارة الاميركية في عهد الرئيس روزفلت حثّت كلاً من المنظمات غير الحكومية والجامعات ومراكز البحث العلمي المتهمة بالتنظيم الدولي على انشاء مجموعات عمل لاتسشراف المستقبل لما بعد الحرب العالمية الثانية، فظهرت في تلك الفترة 100 مجموعة عمل داخل الجامعات الاميركية لدراسة مشكلات ما بعد الحرب، ثم تبعتها دول غربية مثل فرنسان والمانيا والسويد والدنماكر واليابان.
وفي بريطانيا دعى مجلس العموم البريطاني لتأسيس مؤسسة المستقبل العالمية لديها لجنة من النخبة يبحثون عن مستقبل لما بعد 30 سنة، وطورت اليابان عددا من المؤسسات ذات العلاقة بدراسة المستقبل، فالجمعية الاقتصادية التقنية اليابانية التي تاسست عام 1966، اقامت معهد تكنولوجيا المستقبل، وهناك جميعة علم المستقبل، وفي الهند تأسس مركز دراسات المجتمعات النامية عام 1963 تموله الحكومة، عمله تحليلي لقراءة التحديات المستقبلية التي تواجه الشعوب.
وفي نفس كتابه (فقه المستقبل) يشير سماحة الامام الشيرازي الى مسألة في غاية الاهمية لنشر ثقافة الاستشراف المستقبلي – إن صحت العبارة- بأن تخرج من اطار النخبة المثقفة والمتعلمة الى نشر حالة من الوعي في المجتمع إزاء القادم من الايام وما يجب فعله وكيفية التعامل مع المستجدات والتطورات والاستفادة من الفرص السانحة لحل المشاكل الراهنة.
وهذا تحديداً بالامكان تفسير احد اسباب انتشار المشاعر السلبية بين الشعوب الاسلامية بسبب الفوضى السياسية والاقتصادية وتفشي الفساد وانتشار ظاهرة التبعية للخارج في جميع نواحي الحياة، فالملاحظ في بلادنا، ومنها؛ العراق، التركز بالدرجة الاولى على بحث ودراسة اليوم الحاضر وكيفية توفير افضل السبل لتحقيق مصالح و اهداف آنية، وإن تحدثت مع شخص عن المستقبل فانما وضعته امام صورة غامضة وبعيدة جداً تشعره بالارهاق الذهني لو اراد تفهمها والتطلع اليها، أما التاريخ فانه يوحي للكثير بالموت و الاطلال والتراث القديم الذي يستحق فقط مشاهدته والتقاط الصور بالقرب منه، ثم الترحم على رجالات الماضي القديم ممن قدم انجازات رائعة.