ماذا عن العولمة في فكر الإمام الشيرازي؟
مجلة النبأ
2017-07-04 07:00
راجي أنور هيفا
أصبح مفهوم العولمة عنواناً بارزاً وقولاً شائعاً وجوهرياً في مختلف أصناف العلوم الاجتماعية، وبات شعاراً يتغنى به أرباب وخبراء أكبر الإدارات الاقتصادية والسياسية في العالم. ويزعم أرباب تلك الدوائر الاقتصادية أن اقتصاداً كونياً شاملاً قد برز بحقٍّ، أو أنه في طريقه إلى الانعتاق من قوالب النظريات الاقتصادية والتنظيرات السياسية والانطلاق إلى ساحة الأمر الواقع من أجل المباشرة بالتطبيق العملي على مدار مساحة العالم بكامله.
ولكنّ هذا الاقتصاد العالمي الجديد الذي سيفرض ذاته بطريقةٍ أو بأخرى على كافة المجتمعات الإنسانية لن يكون أثره مقتصراً على الناحية التجارية والاقتصادية فحسب، بل سيقود العالم أيضاً إلى صيرورات كونيَّةٍ جديدة تذوب فيها الثقافات القومية، والاقتصاديات القومية، والحدود القومية(1).
وبعبارة أكثر وضوحاً، فإن العولمة دعوة لتحويل العالم، باختلاف نظمه الاقتصادية والسياسية والثقافية وحتى الروحية، إلى قرية صغيرة يحكمها نظام واحد بأسلوب سياسي واحد ونهج اقتصادي واحد وتحت ظل ثقافةٍ وأيديولوجيا واحدة.
ولِما لمفهوم العولمة من حساسية وخطورة بالغتين، فإننا نلاحظ أن هذا المفهوم قد تمَّت مداولته ومناقشته على كافة المستويات الأكاديمية وغير الأكاديمية؛ فلم يعد الأمر مقتصراً على علماء الاقتصاد ورجال السياسة وسادة البورصات، بل تعدّى ذلك إلى كتابات الإعلاميين والأدباء ومساهمات المفكرين وعلماء البيئة وجماعات حقوق الإنسان وغيرهم أيضاً.
ولاشك في أن انخراط هؤلاء جميعهم في الحديث عن العولمة وتشعُّباتها في ميادين الحياة المختلفة يدلّ على مدى وعمق التأثير الذي يمكن أن تخلّفه العولمة وراءها في عملية التداخل بين مختلف فعاليات الحياة دون إقامة أيِّ اعتبارٍ أو وزنٍ للحدود السياسية أو للسيادات الجغرافية أو حتى للانتماء إلى وطن معيّن أو بلد محدد.
وبناءً على ما يطرحه المفكرون حول التعريفات المتقاربة للعولمة، نلاحظ أن هذا المفهوم الغربي يركز على تفريغ المواطن من وطنيّته وتعريته من قوميته واجتثاثه من انتمائه الاجتماعي والروحي واقتلاعه من جذوره الثقافية وأصالته الفكرية.
ولكن لا نريد هنا أن يُفهَمَ من كلامنا أننا ضد العولمة في كل ما تطرحه أو تتبنّاه، ولا نريد أيضاً أن يُفهم كلامُنا على أنه سلاح مشهور ضد هذا المصطلح فقط لأنه وُلِد حديثاً في الغرب الأوروبي أو الأمريكي المجاهرين بعدائهما لنا، بل نريد أن نقول إننا مع العولمة في إيجابياتها وانفتاح الشعوب بعضها على بعض، ونحن معها في عمليات تبادل الخبرات والتكاملات الاقتصادية والتلاقحات الثقافية والفكرية، ولكن بنفس الوقت نحن ضدها عندما تكون سيلاً جارفاً يكتسح الثقافات ويزيل الانتماءات ويمحو الهويّات ليعيد صياغتها بالشكل الذي تفرضه شدَّةُ جريانه وقوَّةُ اكتساحه.
ونرى من الواجب علينا، قبل الخوض في جوهر حديثنا عن مفهوم العولمة ودلالاتها في فكر الإمام الراحل محمد الحسيني الشيرازي (طيَّب الله ثراه)، أن نشير إلى العوامل التي أدَّت إلى ظهور وتبلور مفهوم العولمة في الفكر الغربي - الأمريكي.
فالعولمة أخذت بالظهور على مسرح الألفاظ والمصطلحات السياسية والاقتصادية في السنوات الأخيرة من احتضار القرن الماضي، ولكنْ هذا لا يعني أنها وُلدت فجأة من غير عمليات تلقيحٍ فكرية شملت أوروبا وأمريكا بأثرهما على حَدٍّ سواء.
ويرى الباحثان بول هيرست (أستاذ النظرية الاجتماعية في جامعة لندن)، والبروفسور جراهام طومبسون (أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة المفتوحة) أن هناك عدّة عوامل أدّت إلى جعل مفهوم العولمة يطفو على السطح في السنوات الأخيرة، ومن هذه العوامل:
- آثار انهيار نظام (Bretton Woods) الاقتصادي وأزمتي نفط أوبك في العامين 1973 و1979 اللتين رفعتا أسعار النفط بصورة جنونيّة هائلة وما كان لذلك من أثرٍ بليغ في توليد الاضطرابات والتحوّلات السريعة غير المتوقعة في كل الاقتصادات الكبرى على مدى عقد السبعينيّات وصولاً إلى الثمانينيّات.
- المحاولات والجهود الدؤوبة التي قامت بها المؤسسات المالية وكبار الصناعيين من أجل التعويض عمّا خسروه في فترة الاضطرابات والضغوط التضخّمية. وهذا يعني البحث الدائم عن منافذ أوسع للاستثمارات والأسواق الإضافية، ومن هنا ازدادت نسبة التجارة الخارجية التي أدّت بدورها إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي في البلدان المتقدمة من جهة، وإلى زيادة انتشار الإقراض المصرفي للعالم الثالث خلال السبعينيات بصوره التضخّمية من جهة أخرى.
- إسراع السياسات الحكومية للبلدان المتقدمة بتدويل أسواق المال وذلك عن طريق التخلّي الواسع الانتشار عن نواظم صرف العملات وغير ذلك من إلغاء الضوابط الأخرى عن الأسواق المالية منذ أواخر عقد السبعينيات وحتى مطلع عقد الثمانينيات.
- نمو البطالة الطويلة الأمد في أوروبا وظهور اليابان كقوَّةٍ اقتصادية منافسة للغرب، بالإضافة إلى بعض دول العالم الثالث التي انخرطت وتغلغلت اقتصادياً في أسواق العالم الأول مما أثار وعزَّز مخاوف الغرب من الدخلاء الجدد.
- الانتقال من فكرة الشركة القومية المحتكِرة إلى فكرة الشركة المتعددة القوميات التي تحوِّل العالم إلى جملة من المشاريع المعقدة والمتعددة القوميات والهياكل(2).
إن كل هذه العوامل الأساسية قد ساهمت بشكلٍ فعلي في إطلاق مفهوم ومصطلح العولمة في ساحة الاقتصاد الغربي ثم لتنتشر وتأخذ صداها بعد ذلك في شتى أصقاع العالم.
وإذا كان العالم الإسلامي قد وقف موقف المرتاب من العولمة الغربية، بحيث لا يستطيع أن يحدِّدَ موقفه أو أن يتخّذ الموقف الجدّي من هذه المسألة المستجدّة على الساحة الدولية، فإننا نرى أن القلّة القليلة من المفكرين العرب أو المسلمين قد استطاعوا أن يقفوا على التحليل العلمي الصحيح لمفهوم ودلالات ونتائج العولمة وعلاقة كل ذلك بنا نحن كعربٍ ومسلمين.
ولعلَّ الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (طيَّب الله ثراه) كان أحد أولئك القلّة القليلة التي انبرت لدراسة (العولمة) بطريقة علمية بعيدة كل البعد عن لغة العواطف والانفعالات.
ويرى سماحة الإمام الراحل (قدس سره) في كتابه القيَّم (فقه العولمة) أن (العولمة الصحيحة هدف إنساني لا غناء عنه إلا بنشره وتعميقه، ولا طريق للإنسانية أمامها إلاّ بالدخول فيها والانتماء إليها) (3).
وهذا يعني أن الإسلام ليس ضد العولمة طالما أن العولمة تقوم على خدمة الإنسان ورفعه إلى مستوى الإنسانية اللائق. فالعولمة الصحيحة هي العولمة التي تجمعنا مع الآخرين وتجمعهم معنا لكن على أساس التفاهم والتقارب وخدمة الطرفين، لا على أساس استعباد أحد الطرفين للآخر، ولا على أساس تذويب هوّيات وانتماءات الآخرين بالشكل الذي يرتضيه وينادي به كل طرف من الأطراف الداعية إلى العولمة والانفتاح.
ومن الواضح تماماً لكل ذي بصيرة أن العولمة الغربية التي نشأت أولاً في الحقل الاقتصادي ما لبثت أن وجَّهت أنظارها نحو الحقل السياسي حتى أصبح هناك تلازم وروابط وثيقة بين العولمتين الاقتصادية والسياسية، فلا عولمة اقتصادية إلاّ وبجانبها عولمة سياسية تقوم بتوجيه العولمة الأولى إلى حيث تشاء. فالعولمة السياسية لا تقلّ خطراً عن العولمة الاقتصادية، بل هي الوجه الأكثر بشاعة لها، لأنها تعني بكل بساطة الهيمنة السياسية على الجميع.
ويؤكد الإمام الشيرازي (قدس سره) على أن العولمة السياسية المغلَّفة بالعولمة الاقتصادية تتجلّى من خلال مظاهر متعددة، منها:
- الإقبال الشديد على التكتل الاقتصادي للاستفادة من التطورات التقنيّة المدهشة.
- تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات وتنامي أرباحها واتّساع أسواقها، وتزايد نفوذها في التجارة الدولية والعالمية.
- تنامي دور المؤسسات المالية الدولية والعالمية في تصميم برامج الإصلاح الاقتصادي، وتعديل سياسات السوق في الدول النامية.
- إثارة المشكلات الاقتصادية وتدويلها، مثل الفقر، ومثل الأمية، والتلوث وحماية البيئة، والتوجّه العالمي لمعالجة هذه المشكلات والتعاون الجَمعي في حلِّها.
- شيوع ظاهرة القرية العالمية والأسرة الواحدة، وتقليص المسافات وتحجيمها، وكثرة الاحتكاك بين الأمم والشعوب.
- تقدّم وسائل الإعلام وتطوّرها وتأثيرها الكبير على حياة الإنسان في انتشار الحضارات والثقافات وتداخلها بعضها بالبعض الآخر(4).
ولا شك في أن هذه الرؤية (الشيرازية) صائبة إلى حدٍّ كبير، لأن البُعدَ العملي للعولمة يتضمّن انكماش وتقليص البُعدين الزماني والمكاني في العالم أمام التشابكات والتداخلات ما بين السياسة والاقتصاد من جهة، وما بين الاجتماع والثقافة والسلوك والقِيَمِ الأخلاقية من جهةٍ ثانية. وهذا يعني أن القوة المادية والفكرية الأقوى ستفرض نفسَها بمساعدة شبكات الإعلام العالمية المتطورة جداً على القوى والتكتلاّت الأقلّ قوّة والضعيفة، كما أنها ستفرض قرارَها عن طريق شركاتها التجارية العملاقة العابرة للقارات. ولا شك في أن هذه القوة الجبّارة ستعمل بدأبٍ على إعادة تشكيل وصياغة (الآخر) كما تريد دون أدنى مراعاة لاحتياجاته أو لمطالبه لأن العالم في ظلّ العولمة التي ينادي بها الغرب سيتحوّل إلى (رهينة في قبضة حفنةٍ من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية) (5).
وبالرغم من أن الشكل العام للمدنية الغربية قد أثبت ديناميكيتَه ونجاحه على نحوٍ لا مثيل له، إلاّ أنه (لم يعد صالحاً لبناء المستقبل. فما بشَّرَ به الرئيس الأمريكي هاري ترومان فقراءَ العالم في عام 1949، بضرورة رفع المستوى المعيشي على نحوٍ جوهري لكل أبناء الأقطار المتخلّفة، وذلك عن طريق زيادة الإنتاج الصناعي، أمرٌ لم يتحقّق) (6) وعدم تحقيق هذا الأمر ينطلق من أن زيادة الإنتاج الصناعي سيترافق مع زيادة الحركة التجارية، ولا سيّما الحركة التجارية الحرّة التي تطالب وتنادي بها العولمة الغربية، وهذا ما سيؤدي بدوره في نهاية الأمر إلى خلق أزمات عميقة في سوق العمل(7)، وبالتالي، فإن هذا ما سيؤكد أن شعار (الرفاهية من خلال التجارة الحرّة) في ظلّ العولمة الغربية عبارة عن سراب، بل عبارة عن وعدٍ كاذب(8).
وَإذا أردنا أن نتعرَّف على موقفنا الإسلامي من العولمة الغربية، علينا أن نعلم جيداً أن سلبيات ومخاطر العولمة وأضرار سيطرة أمريكا وغيرها من الدول الغربية القوية على مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا يمكن حصرها، لأن هذه العولمة الجديدة -كما يراها الإمام الشيرازي- هي عولمة (لا تفكّر إلاّ بنفسها ولا تبصر الأمورَ إلا بالمنظار المادي البحت، وتخطِّط للقضاء على الإسلام والمسلمين لأنها تراهما يدعوان إلى عولمة صحيحة، لا تبتني على الهيمنة والاستئثار، والاستبداد والاستضعاف، وإنما تبتنى إلى جانب النمو والازدهار، على المُثُل والقِيَم، وعلى العدل والقسط، وعلى الرحمة والرأفة، وعلى التعاون والتوادد، وعلى التبادل والتواصل) (9).
وَلَئِن تحدَّثَ بعضُ المتحمّسين للعولمة الغربية عن الرفاهية والمستقبل المشرق الذي سيتخطّى كل الحواجز والحدود الأوروبية ليشمل جميع البلدان النامية والأقطار الفقيرة والمجتمعات المتخلّفة، فإن بعض المفكّرين الغربيين من ذوي البصيرة الحادّة، قد تَنبَّؤوا بالعولمة الغربية وبعجزها عن تحقيق شعاراتها الجوفاء الواهية، ولعلَّ المفكِّر وَالباحث (كورت توخولسكي) كان من أولئك الذين تحدَّثوا عن هذه النقطة بشكل واقعي بعيداً عن التهويمات الفكرية والأحلام العشوائية، فقال عن ما يمكن للغرب أن يُصدِّره للآخرين خارج حدود أوروبا: (إن الإجرام والرأسمالية فقط هما المُنَظَّمان في أوربا تنظيماً عابراً للحدود) (10). فهذا هو أقصى ما تستطيع المدنيّة الغربية أن تقدّمه بشكل منظَّم -كما يقول توخولسكي- للعالم كَعَطيَّةٍ من عطايا العولمة للآخرين خارج حدود أوروبا الجغرافية. فما تريده العولمة الغربية منّا هو أن نعيش معها عولمة الدولار والجريمة، وبعبارة أوضح، عولمة تمركز رؤوس الأموال والتخريب الاجتماعي والانحلال الأخلاقي في شتى بقاع العالم.
وإذا كانت هذه هي وجهة نظر المفكر (كورت توخولسكي) تجاه العولمة، فإن (جاك لانغ) وزير الثقافة الفرنسي في عهد الرئيس (فرانسوا ميتران)، قال أمام الأونيسكو في المكسيك: (إنني أستغرب أن تكون الدولة -يقصد الولايات المتحدة- التي علَّمت الشعوبَ قدراً كبيراً من الحرية وَدَعت إلى الثورة على الطغيان، هي التي تحاول فرض ثقافة شمولية وحيدة على العالم، وإن هذا شكلاً من أشكال الامبريالية الفكرية، لا يحتلّ الأراضي ولكن يصادر الضمائر ومناهج التفكير واختلاف أنماط العيش) (11).
وبالإضافة إلى هذه المآخذ التي تؤخَذ على العولمة الغربية، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الفكرية العامة، هناك الكثير من النتائج السلبيّة لها، على المستوى الفردي أو الشخصي لأفراد المجتمع الذي قد تحكمه العولمة الغربية.
وقد قام الإمام السيد الشيرازي (قدس سره) بتعداد بعض تلك السلبيات على المستوى الفردي في كتابه (فقه العولمة)، بالإضافة إلى شروحات وافية لأبعاد تلك الصيحة الغربية التي تدّعي إمكانية تحقيق الرفاهية للإنسان أينما كان!
ومن جملة تلك السلبيات القاتلة للعولمة الغربية، والتي ذَكَرها الإمام الشيرازي، هي (شيوع المحرَّمات؛ من تعاطي الخمرة، والسكر المتزايد، وانتشار أنواع المخدرات انتشاراً هائلاً، وازدياد عدد المدمنين ازدياداً كبيراً، وَكثرة استعمال السلاح، وقتل بعضهم البعض، وتردّي الأخلاق، وهبوط القِيمَ الأخلاقية والمُثُل الإنسانية، وسقوط كرامة الإنسان، وافتقاده عزّته وشخصيَّتِه، وتَفوُّقِ الماديّات على القِيم والمعنويات في كل الأمور) (12).
وهنا يحقّ لنا أن نتساءل قائلين:
إذا كانت العولمة قادرة على خلقِ كلّ هذا الكَمِّ الهائل من السلبيات، فما هو حال المجتمع الذي تحكمه هذه المظاهر من الانحلال والسقوط؟
الجواب على هذا السؤال، هو ما قاله الإمام الشيرازي مُبيِّناً آثار تلك المظاهر على المجتمعات السليمة: (هذا يوجب تبديل حياة المجتمع إلى حياة الغاب، وأمنه إلى الخوف، ودِعتِه إلى القلق، وسكونه إلى الاضطراب، وسعادته إلى الشقاء، وَجَنَّتهِ إلى الجحيم والنار، وهذا ما نجد مقدِّماته في مجتمعاتنا، وممهّداته في أوساطنا، وآثاره في مناطقنا وبلادنا) (13).
وما يؤكد نفاذَ بصيرة الإمام الشيرازي وسعةَ رؤيته المستقبلية في ما يتعلّق بموضوع العولمة وتداعياتها، هي تلك الدراسات الإحصائية التي يجريها، وباستمرار، العديد من الإحصائيين المتخصّصين الغربيين في مجال انحدار المثل الأخلاقية وأسباب ذلك الانحدار ونتائجه الاجتماعية والفكرية، والتي تؤكد -هذه الدراسات الإحصائية- دقّة وصواب وجهة نظر الإمام الشيرازي.
وكمثالٍ على صدق ما قاله الإمام الشيرازي حول سلبيات العولمة الغربية التي تنادي بها وتقود حملَتَها الدعائية الولاياتُ المتحدة الأمريكية، يكفي أن نشير إلى أنه في (ولاية كاليفورنيا - التي تحتلّ بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى الاقتصادية العالمية - فاق الإنفاقُ على السجون المجموعَ الكلّي لميزانية التعليم. وهناك/28/مليون مواطن أمريكي، أي ما يزيد على عشر السكان، قد حَصَّنوا أنفسَهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا، فليس بالأمر الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حرَّاسهم المسلّحين ما تُنفق الدولة على الشرطة) (14).
وبالطبع، فإن هذه المشاهد من الواقع الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً عبارة عن مَشاهد مقزّمة للواقع المخيف الذي يعيشه الإنسان في ظل المدنية الغربية التي تدعو العالم للعيش معها في واقعٍ يشبه واقعها تحت مظلّة العولمة التي ترسمها وتفصّلها للآخرين، وما على (الآخرين) إلاّ أن يَرتَدوا ما فَصَّلَه لهم الغرب دون أدنى احتجاج أو حتى صرخة اعتراض واستنكار!.
وَكَرَدِّ فعلٍ على هذه الحقائق التي باتت أشبه ما تكون بالمسلَّمات أو البديهيّات، فقد حذَّر الإمام الشيرازي كافة المجتمعات الإسلامية من مغبّة تجاهل هذه الحقائق أو الاستهتار بها لأن الاستهتار بها يعني الاستهتار بالهوية الثقافية وبالقيم الروحية، وقد أكَّد سماحتُه على ذلك قائلاً:
(لا يخفى أن العولمة الغربية باللغة العصرية وبالمفهوم المعاصر أصبحت بمعنى (الأمركة)، وهي تعني سيطرة الغرب وهيمنته، والتحكُّم والتلاعب بالسياسة والاقتصاد، وفي مختلف البلاد والعباد، بل قد أخذت تمتد وتمتد لِتَطال ثقافات الشعوب بأجمعها، وتنال من الهوية الوطنية بأسرها، إنها طفقت تسعى جادّة إلى تعميم أنموذج من السير والسلوك، وأنماط من الأخلاق والآداب، وأساليب من العيش والتدبير تتوافق مع الثقافة الغربية وتنسجم مع ميول المستعمرين لتغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى) (15). وهذا بلا شك يعني توجُّهاً استعمارياً جديداً يقوم على احتلال العقل والفكر وعلى مصادرة هوية (الآخر) وصَهرِها في بوتقة (الأنا) الغربية المتضخّمة، وقد أشار الرئيس الأمريكي الأسبق (جورج بوش) - الأب - إلى ذلك حين صرَّح عَقِبَ الظفر في حرب الخليج الثانية:
(إن القرن القادم سيشهد انتشار القِيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي) (16).
وهكذا نجد أن الغرب من خلال عولمته المادية يريد منّا أن نصبح ظلاً له وَأن نكون صدى لتصريحات قادته وساسته ومفكّريه. إنه، وباختصارٍ شديد، يريد للقِيم الإسلامية أن تتحوَّل إلى قِيمٍ ومبادئ ممسوخة جوفاء تبتعد بالإنسان عن دائرة الفطرة الإنسانية السليمة لِتُلقي به في دوّامة الماديات والتيارات الفكرية المجرّدة من السموّ المعنوي والارتقاء الروحي الممتزج بالأَلَق الإيماني.
فالغرب، دون أدنى شك، يمتلك قدرات مادية ومهارات تكنولوجية تقارب العجزَ عن الوصف والتعبير. ومما لا شك فيه أيضاً افتقارنا نحن المسلمين إلى تلك العلوم التكنولوجية والمهارات الصناعية التي تلعب دوراً كبيراً في إيصالنا إلى عالم المدنيّة (المتحضّرة). ولكن بالرغم من هذا الفارق بيننا وبين حضارتهم الغربية من الناحية المادية، وبالرغم من أنها تمسك اليوم بزمام الحضارة وبزمام صناعة القرارات السياسية على المستوى العالمي، إلاّ أنها لا تستطيع أن تنقذ أبناءها من استمرار الانزلاق في متاهات الانحطاط الأخلاقي والتردّي الروحي، لأنها حضارة مادية محكومة - كما يؤكد المثقَّفون من أبنائها - بأحكام شريعة الذئاب(17) وبقوانين أهل الغاب.
فالغرب الذي يزعم أنه يمتلك القوة السحرية القادرة على إنقاذ بقية المجتمعات والشعوب وإخراجها من كهوف الظلام إلى عوالم الإشراق والحضارة والنور العميم، عاجز أمام ذاته عن إيقاف عجلة الحضارة الروحية التي تسير إلى الوراء بعكس اتجاه خط سير العَجلة المادية.
فالتطور الروحي والفكري مرتهن بالتنمية الثقافية من خلال ارتباطها بالأصالة من جهة وبالتيارات الثقافية المعاصرة من جهة أخرى، فكما أن الارتباط بالماضي تراثياً وفكرياً أمر ضروري، فكذلك الحال بالنسبة للاتصال بالثقافات المعاصرة المتداولة بين مختلف الشعوب. ونحن بلا ريب، مع فكرة الانفتاح الثقافي على الآخرين، ومع فكرة التلاقح المعرفيّ مع بقية الشعوب في الشرق والغرب، ولكننا لسنا مع فكرة اجتثاثنا من جذورنا واقتلاعنا من حقل تراثنا الروحي والفكري.
والحقيقة، أنَّ الغربَ وَعرَّابَه - الولايات المتحدة الأمريكية - يريدان منّا أن نقطع الصلة بتراثنا وأن نتبرَّأ من انتمائنا تحت شعار العولمة الثقافية. ومن المعلوم أن هذا الشعار يخلق تبعيّة ثقافية وانجراراً فكرياً لا واعياً وراء الغرب، وهذا ما يثير مخاوف الكثيرين في صفوفنا العربية والإسلامية، وذلك لأنهم يرون في تلك التبعيّة تهديداً مباشراً لهويتهم الثقافية التي هي حق محترم من حقوق الإنسان أياً كان.
ولم يغفل سماحة الإمام الشيرازي (قدس سره) عن هذا النوع من العولمة (العولمة الثقافية) بل تناولها بالتفصيل الدقيق والدراسة المُدعَّمة بالأرقام والوثائق الرسمية ليؤكد سماحتُه من خلالها على مدى خطورة هذه العولمة. وقد أكَّد سماحته على أن الذي يزيد من هذه المخاوف تجاه العولمة الثقافية (هو ظهور عدة نظريات غربية متسرّعة في أعقاب سقوط حائط برلين في ألمانيا، وتؤكد تلك النظريات على انتشار الليبرالية الجديدة، وتفشّي الحضارة الغربية، وتطالب بوجوب تعميمها لتشمل العالم أجمع، وتغطي على كل الحضارات الموجودة فيه) (18).
وكَرَدِّ فعلٍ مدروسٍ على العولمة الغربية وسلبياتها العامة، فقد رأى سماحة الإمام الشيرازي أن بذور العولمة الصحيحة والإنسانية في منطلقاتها وحركتها وغاياتها هي العولمة الإسلامية، تلك العولمة التي تستنهض همّة الإنسان كي يستكملَ إنسانيته ويعودَ بذاته إلى فطرته السليمة. فالإنسان مهما كان موطنه ومجتمعه هو إنسان، وله نفس الاحتياجات والعواطف والمشاعر والمتطلّبات الجسدية التي يحملها كل إنسان آخر، وإن كانت تتباين في درجتها وشدّتِها، ولكنّ الاختلاف الحقيقي هو غالباً ما يكون في الآراء وفي المعتقدات الفكرية والمذاهب الثقافية والروحية.
وليس بالضرورة أن يقود هذا الاختلاف إلى الصراع أو إلى القطيعة بين التيارات والمذاهب، بل ربما يكون في حركة الاختلاف هذه إثراءٌ حقيقي للثقافة وَدافعٌ قوي للإبداع والتطور.
وانطلاقاً من هذه النقاط الهامة في مفاصل الحركة الإنسانية، يرى الإمام الشيرازي أن الإسلام هو الأيديولوجيا الوحيدة القادرة على استيعاب واحترام هذه الفوارق والتَّبايُنات بين الناس فرادى وجماعات، ويؤكد سماحته قائلاً عن العولمة الإسلامية:
(الإسلام هو أول من طرح فكرة العولمة الصحيحة، وأول من أقام صُلبها بنظام اقتصادي سليم، وأول من جاء بمستلزماتها ومقوّماتها، وأول من رَصَّ أسسها وأحكم قواعدها، وقد طبَّق الرسول الأعظم (ص) العولمة الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وحقق نظامها الاقتصادي السليم، وسعى لتبيينها وتحديد مسارها ومعالمها) (19).
وقد بَيَّن سماحتُه، من خلال الأمثلة الكثيرة ومن خلال الشواهد التاريخية في الإسلام، أن العولمة الإسلامية هي البديل القوي والصحيح للعولمة الغربية. ففي الوقت الذي تسعى فيه العولمة الغربية لفرض قِيم الغرب ومبادئه في التعامل مع الحياة والإنسان عن طريق القوة والهيمنة، وربما أحياناً عن طريق تزييف التاريخ والحقائق، فإن الإسلام يحاول بدوره أن يحققّ الوحدة الإنسانية وأن يوحّد شملها الممزّق ولكن عن طريق قوة الكلمة ووضوح الحجة والبرهان العملييّن.
ويعتبر الإمام الشيرازي أن أحد مقوّمات العولمة الإسلامية هو الحوار الحرّ بين كل الأطرافِ وذلك عن طريق استكمال النهج الذي رسمه لنا الرسول المصطفى (ص) وأهل بيته(ع). ولذلك نراه يصرّ على قضية فتح الحوارات مع الآخرين بالطريقة العلمية والبنّاءة. ويقول سماحتُه عن هذه النقطة: (من اللازم علينا -نحن المسلمين- إذا أردنا تحقيق العولمة الصحيحة بالمعنى الإسلامي أن نعيد الاعتبار للإنسان والإنسانية كما أمر به الإسلام، وأن نُحيي الخُلق الإسلامي، ومفاهيم الحوار الحرّ بين كل الأطراف كما كان جارياً مع كل الأديان والمذاهب على طول التاريخ الإسلامي) (20).
وبالطبع، لا يمكننا أن نحيط بكل ما قاله الإمام الشيرازي (قدس سره) عن العولمة الإسلامية ومقوِّماتها وذلك لضيق المساحة المخصصة لنا على هذه الصفحات القليلة، ولكن ما يجب ذكره هنا هو أن سماحته كان أول مرجع علمي ديني يتفرّد بالكلام عن العولمة بشكلها الدقيق والمفصَّل، بالإضافة إلى أنه صاحب أول مشروع لإحياء العولمة الإسلامية عن طريق العمل الجاد والسعي الدؤوب لتحويل شعارات الإسلام النظرية إلى حركات عملية إنسانية تجذب الآخرين نحو عولمتنا التي تدعو إلى سمو الروح وعدم إغفال الجسد في ما يحتاجه، وإلى العودة إلى الفطرة الإنسانية السليمة مع التأكيد أيضاً على عدم هدر حريات الآخرين وعدم اغتيال هوّياتهم ووأد انتماءاتهم وثقافاتهم حتى ولو كانت في موقع الاختلاف بالنسبة لنا؛ إنها مِصداق قوله تعالى: (أفأنت تُكرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين) (21)؟!!.