من قصص الفساد ومحنة العباد

صالح الطائي

2016-04-30 03:22

شاع بين العراقيين مثل يُراد به وصف الإنسان الحقير الذي لم يأت بحسنة أو بعمل شريف في حياته، يقول المثل: "فاسد من البيضة" بمعنى أنه فاسد حتى قبل أن تُلقح بيضته في رحم أمه، وقد يكون هذا المثل فاعلا ومدهشا حينما تكون هناك قلة من المفسدين، لكن حينما تتحول الأغلبية إلى فاسدين مفسدين، وتسكت القلة المتضررة عن أعمالهم فلا مثل يفيد ولا كلام.

من قصص الفساد المالي العراقية النادرة في تاريخنا الحديث قصة أوردها صديقي الباحث مثنى الغرباوي، جاء فيها: "عندما افتتح الملك غازي سنه 1939 سدة الكوت أقامت له بلديه الكوت مأدبة غداء وكانت من بين وصولات الصرفيات 30 تنكه دهن حر للمحلبي!!! علما ان المحلبي لا يوضع له دهن"(*).

وقد ذكرتني قصته هذه بقصة تعود إلى الأيام الأولى لافتتاح محطة الإذاعة العراقية وراديو بغداد حيث كانت هناك اسطوانة مسجل عليها صوت تغريد بلبل، يديرها المشرفون لبضع ثوان قبل البدء ببث القرآن الكريم عند افتتاح الإذاعة، وكان هناك أحد المفسدين نجح في استغلال هذا الأمر، فكان يذهب صباح كل يوم إلى مدير الإذاعة ليأخذ منه مبلغا من المال بحجة شراء حبوب طعام للبلبل المفترض، واستمر الحال على ما هو عليه زمنا طويلا، لا المدير انتبه إلى اللعبة ولا طلب رؤية البلبل ولا خرج للبحث عنه، ولا سألهم كيف يغرد لهم البلبل متى يشاءون.

وذكرتني هذه القصة بدورها بقصة أخرى تدخل في نطاق ما يطلق عليه البعض اسم (الفساد المشروع)(**)، تقول القصة أن شيخ حسن أحد العشائر العراقية وجد شابا تائها لا يعرف أهله، فحن عليه، وأبقاه عنده في خدمته، وحينما كبر الشاب أوكل له الشيخ حسن أمر الذهاب إلى المدينة للتسوق وشراء ما تحتاجه العائلة والمضيف، وقد انتبه البعض إلى أن الشاب يختلس بعض الأموال، فأخبروا الشيخ بذلك، فأخذ يرسل خلفه من يسأل عن سعر المواد التي يكلفه بشرائها، وفي كل مرة كانت أقوال الشاب تطابق أقوالهم، ولكن الساعين به إلى الشيخ استمروا بنقل الأخبار مما أضطر الشيخ أن يرسل عليه ويسأله عن الحقيقة، فقال للشيخ: صحيح أني أحصل على بعض المال ولكنه ليس منك، فأنا لا يمكن أن أخونك. وحينما طلب منه شيخ حسن توضيح ذلك، قال: خذ مثلا أنك أرسلتني يوم أمس لأصنع لك (مهرا) أي ختما يستخدمه الشيخ في دمغ مراسلاته ووثائقه، وكان المهر يصنع من النحاس وتحفر الأحرف عليه بالطرق معكوسة لتظهر صحيحة عند غمسه في الحبر والختم به، فأنا حينما ذهبت إلى صانع الأختام سألته: بكم تصنع الختم؟ قال: آخذ عشرة فلوس عن الحرف الواحد. فطلبت منه أن يصنع لي ختما باسم (خس) فاستغرب الرجل وتأكد أكثر من مرة من صحة الاسم، فأكدت له صحته، ووقفت قربه، فطرق أولا حرف الحاء، ثم حرف السين من بعده، وحينما هم بوضع نقطة الخاء في مكانها، طلبت منه أن يضعها في نهاية حرف السين ولما استغرب من طلبي قلت له: هذا لكي يتميز الختم، ففعل وأعطيته (20) فلسا، وطلبت منه أن أجرب الختم فلما جريته حصلت على اسم (حسن) وبهذا وفرت لنفسي ثمن حرف النون وأنت حصلت على الختم بثلاثين فلسا وهذا هو سعره الحقيقي.!!!

أما فلم تعد لدينا مثل هذه القصص عن الفساد لأنه أصبح القاعدة وغيره الاستثناء.!

...............................
الهوامش
(*) المحلبي نوع من الحلويات يصنع من خلط النشاء والحليب والسكر والهيل فقط، ويوضع على النار مع التحريك، ولا يحتاج إلى السمن.
(**) لا أدري كيف يكون الفساد مشروعا، ولكن الظاهر أنه من المصطلحات الحديثة لقادة العراق من أتباع الإسلام السياسي!
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا