المال الخارجي المظلم يهدد الديمقراطية

بروجيكت سنديكيت

2024-01-04 05:38

بقلم: دارون عاصم أوغلو، سيمون جونسون

واشنطن العاصمة/كمبريدج ــ تواجه الأنظمة الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم تهديدين رئيسيين: أزمة الشرعية، وأنظمة استبدادية متزايدة العدوانية. ما يربط بين التهديدين ويجعلهما أشد خطورة هو التأثير الخبيث الذي تخلفه تحويلات الأموال المظلمة، وخاصة تلك التي تمر عبر الملاذات الضريبية الخارجية والولايات القضائية التي تتسم بالسرية المالية المفرطة. يجب أن يصبح تقييد هذه الملاذات الضريبية والمطالبة بمزيد من الشفافية بشأن التدفقات المالية عبر الحدود أولوية سياسية رئيسية في كل دول مجموعة السبع في عام 2024.

يتمثل الخطر الذي يهدد الديمقراطية من الداخل في تآكل الشرعية. في الاقتصادات الصناعية مثل الولايات المتحدة وأوروبا، عملت التكنولوجيات الجديدة، وتدفقات رأس المال المتزايدة الارتفاع عبر الحدود، وانخفاض الحواجز أمام التجارة على زيادة متوسط الإنتاجية وخلق النمو الاقتصادي على مدار نصف القرن الأخير، لكن تقاسم الفوائد المترتبة على هذا النمو لم يكن واسع الانتشار. فقد اتسعت فجوة التفاوت داخل هذه البلدان بدرجة هائلة منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، حتى أن الملايين من الناس الآن يشعرون بأنهم نُـبِـذوا بالعراء.

يتقوض دعم الديمقراطية بفعل اعتقاد مفاده أن اللعبة الاقتصادية "زائفة"، حيث يكسب الأقوياء والموسرين بالفعل القدر الأعظم ــ أحيانا على حساب البقية. ورغم أن هذا الاعتقاد ربما لا يخلو من مبالغة، فإنه يتوافق مع واقع التهرب الضريبي. تسمح الملاذات الضريبية للأثرياء ليس فقط ببناء ثرواتهم دون تحمل أي ضرائب، بل وأيضا بممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية بعيدا عن أعين المتطفلين ومن دون أي مساءلة.

تشمل إحدى قوائم الملاذات الضريبية بين العشرة الأوائل دول الكاريبي الصغيرة وبلدان تحظى باحترام واسع مثل أقاليم ما وراء البحار البريطانية (جزر فيرجن البريطانية وبرمودا وجزر كايمان)، وهولندا، وسويسرا، ولوكسمبورغ، وسنغافورة، والإمارات العربية المتحدة. الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أيضا متواطئتان، حيث تسمح قواعد السرية المالية لمبالغ غير عادية من الأموال الأجنبية (وغير المشروعة) بالعثور على مأوى (تتصدر الولايات المتحدة مؤشر السرية المالية).

لقد نشأت صناعة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وتوظف بعض ألمع المحامين والمحاسبين والاستشاريين في العالم، وتركز على مساعدة الأثرياء ومعدومي الضمير. والملاذات الضريبية مفيدة بشكل خاص للأشخاص الذين يمتلكون ثروات غير مشروعة مستخلصة من الرشاوى والسرقة وغير ذلك من أشكال الفساد. وتعد القدرة على إخفاء هوية الأطراف في أي معاملة مالية مطلبا أساسيا لتشغيل ملاذ ناجح.

هذا الشكل من الهندسة المالية يفسد الديمقراطية. الأسوأ من ذلك أنه يؤدي إلى تفاقم التهديد الرئيسي الثاني الذي نواجهه: تعزيز الأنظمة الاستبدادية. الواقع أن الأموال الخارجية المظلمة تزيد من سهولة دعم المرشحين، والتلاعب بالرأي العام، وإقناع الناس بالتصويت لصالح دكتاتور.

كانت أموال القلة الروسية الحاكمة المظلمة لفترة طويلة الدعامة الأساسية التي يقوم عليها اقتصاد روسيا ونظامها السياسي. والعلاقات الوثيقة بين الرئيس فلاديمير بوتن ومصادر الأموال المظلمة موثقة بشكل متقن. الأمر الذي يحظى بمستوى أقل انتشارا من التقدير هو الطريقة التي سمحت بها المعاملات غير الشفافة التي تديرها الحكومة الصينية ببناء إمبراطورية عالمية واسعة من النفوذ. لقد بدأنا الآن فقط ندرك حجم الديون التي تدين بها بلدان منخفضة الدخل، وخاصة في أفريقيا، لكيانات عديدة مدعومة من الصين.

على نحو متصل، تفيد التقارير أن الحزب الشيوعي الصيني "استثمر مليارات الدولارات" في التضليل العالمي في مختلف أنحاء العالم. ويشمل هذا الجهود التي تركز على الانتخابات الأمريكية الأخيرة (وربما في المستقبل). كما بات من الواضح بدرجة مؤلمة أن كمية كبيرة من الأموال تتدفق من إيران إلى منظمات مثل حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، وقوات الحوثيين في اليمن، التي تمطر الآن السفن التجارية في البحر الأحمر بالصواريخ. يتحرك كل هذا التمويل الإيراني تقريبا عبر قنوات مظلمة، بما في ذلك (وفقا للسلطات الأمريكية) كيانات في تركيا واليمن.

لن يكون إغلاق هذه القنوات بالمهمة السهلة، لكن الطريقة الأكثر فعالية لمحاربة المال المظلم ــ وتمويله للاستبداد، والإجرام، والإرهاب ــ تتلخص في تضييق الخناق على العشرات من الملاذات الضريبية الموجودة في مختلف أنحاء العالم. هذا من شأنه أن يعزز جهود تحصيل الضرائب في الديمقراطيات ويقلل من الموارد المتاحة للأنظمة الاستبدادية. من عجيب المفارقات أن عددا كبيرا من هذه الملاذات الضريبية معرضة للخطر بسبب تغير المناخ وهي تطالب بالمساعدة الدولية للتعامل مع الارتفاع المحتمل في مستوى سطح البحر والعواصف الأشد تدميرا. إذا كانت هذه الدول الجزرية وغيرها من الولايات القضائية راغبة في المشاركة في آليات التعديل العادلة والمعقولة (مثل التمويل المرتبط بالمناخ أو تخفيف أعباء الديون)، والتي تمولها جزئياً مجموعة السبع، فيتعين عليها أن تلتزم بمتطلبات الشفافية المتزايدة. يجب أن يكون أحد العناصر الأساسية في هذه الآليات توسيع نطاق قواعد "اعرف عميلك" لتشمل كل هذه الولايات القضائية، على أن تكون مدعومة بعقوبات جنائية مناسبة. على وجه التحديد، يجب أن يكون الإفصاح كاملا للسلطات الضريبية في دول مجموعة السبع فيما يتعلق بمن يملك أي أصول ومن يدفع أي مدفوعات ولأي جهة.

من المؤسف أن بعض التهرب الضريبي يعتبر قانونيا، ويرجع هذا فقط إلى قوة الضغوط التي يمارسها المستشارون والمحاسبون الأقوياء من أصحاب الثراء الفاحش، الذين سيزعمون دون أدنى شك أن الشركات المنتجة سوف تنتقل إلى مكان آخر إذا أُغـلِـقَـت الثغرات. ولابد من مواجهة هذا بمبدأ بسيط ينبغي تقاسمه بين مختلف دول مجموعة السبع: وهو إخضاع أرباح الأعمال للضريبة بما يتناسب مع مكان حدوث المبيعات.

على سبيل المثال، إذا نقلت مقرك الرئيسي (أو ملكيتك الفكرية) إلى بلد آخر، فيجب أن يظل لزاما عليك سداد الضرائب في الولايات المتحدة بناء على الأنشطة التجارية التي تزاولها في الولايات المتحدة. كان اتفاق مجموعة السبع بشأن الحد الأدنى العالمي من الضرائب على الشركات خطوة في الاتجاه الصحيح في هذا الصدد، ولكن لا يزال الطريق أمامنا طويلا.

في عصر الذكاء الاصطناعي، ينبغي لنا أن نتوقع أن يصبح عدد كبير من الأثرياء أشد ثراء. من المنتظر أيضا أن يستخدم هؤلاء أدوات الذكاء الاصطناعي للتهرب من الضرائب بشكل أكثر فعالية. في ظل الترتيبات الدولية الحالية، سيكون من السهل القيام بذلك. لكن الذكاء الاصطناعي من الممكن أن يساعد أيضا في الكشف عن التهرب الضريبي وتجنب سداد الضرائب، فضلا عن التدفقات المالية غير العادية، والتي غالبا ما تكون غير مشروعة.

نقول لبارونات التكنولوجيا الذين يتحدثون بلا انقطاع عن استخدام الذكاء الاصطناعي في عمل الخير، إليكم هذا التحدي: ادعموا النشر السريع للأدوات الجديدة المستندة إلى الذكاء الاصطناعي لتضييق الخناق على التهرب الضريبي والملاذات الضريبية.

* دارون عاصم أوغلو، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومؤلف مشارك (مع جيمس أ.روبنسون) لكتاب لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر ومؤلف مشارك (مع سايمون جونسون) القوة والتقدم: كفاحنا المستمر منذ ألف عام على التكنولوجيا والازدهار
** سيمون جونسون، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، وأستاذ في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ورئيس مشارك لتحالف سياسة COVID-19، ورئيس مشارك في مجلس المخاطر النظامية لمعهد CFA. وومؤلف مشارك (مع دارون أسيموغلو) لكتاب "السلطة والتقدم: كفاحنا منذ ألف عام على التكنولوجيا والازدهار"
https://www.project-syndicate.org/

ذات صلة

عدل اللّه تعالىدور مهارات إدارة الأموال في التنمية المستدامةهل نجحت الولايات المتحدة الأميركية في كبح التصعيد بين إيران وإسرائيل؟الحاجة الماسة للوعي المروريصمتُ الباطن بوصفه ثمرةً لصمت اللسان