دور التكرار في تعميق الفهم

محمد علي جواد تقي

2025-11-01 03:45

"أكثروا من التهليل والتقديس والتسبيح والثناء على الله والتضرع اليه والرغبة فيما عنده من الخير الذي لا يُقدّره ولا يبلغ كُنههُ أحد، فاشغلوا ألسنتكم بذلك".

الإمام الصادق، عليه السلام

في منظومة المعارف الدينية، يحتل اسلوب التكرار مساحة واسعة في الممارسة العملية للأذكار والأعمال مثل التسبيح والتهليل، وايضاً أداء الصلوات المندوبة في مناسبات عدّة، وكذا الصيام في مناسبات وأيام مستحبة خلال السنة، وهو ما جاء في طيات رسالة الامام الصادق، عليه السلام، الى شيعته، وهي الرسالة الموثقة من قبل الشيخ الكليني المعاصر للقرن الرابع الهجري القمري، يوصي فيها شيعته المؤمنين بأن يكون التكرار للأذكار الدينية الغالب على ما يتكلمون به طوال اليوم، والعلّة في هذا سنأتي عليه في طيات المقال.

كيف يكون التكرار مفيداً؟

قبل ان نتحدث عن اسلوب التكرار في التربية الدينية في مدرسة القرآن الكريم، وفي سيرة رسول الله والأئمة المعصومين من بعده، يجدر بنا الالتفات الى اسلوب تعاملنا مع اطفالنا في البيت عندما ننهاهم أو نأمرهم بشيء ما، هل نكتفي بالمرة الواحدة؟! بالتأكيد كلا؛ إنما نواصل تكرار القول عليهم بأن؛ "لا تلعب بالنار" مثلاً، أو "انهض من النوم و أدّي صلاة الصبح في وقتها"، وما الى ذلك من الدعوات والنواهي والنصائح نكررها اكثر مرة خلال ساعات، والسبب وجود حواجز نفسية بين السمع كجهاز استقبال ليس بوسعه إلا العمل وتوصيل ذبذبات الصوت الى الدماغ، والقوى النفسية الكامنة مثل؛ الإرادة، والرغبة، والايمان، وبما أن في الانسان تجتمع مختلف القوى والقدرات والنزعات المتضاربة، فليس من السهل اتخاذ الحكم السريع بالقبول او الرفض، فنلاحظ التمادي، والتسويف، وهي الحقيقة التي يشير اليها القرآن الكريم في إشارته الى أهم فرع من فروع الدين، ألا وهي الصلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، فتكرار الطلب مع الاصطبار لإعطاء فرصة زمنية للنفس بأن تتخذ قرارها النهائي عن رضى كامل و ايمان عميق، والامر ينسحب على مسائل عدّة أبرزها الحجاب للفتيات، والقائمة تطول، فالقرآن الكريم ومنظومة الاحكام الاسلامية ترنو الى تطبيق الشريعة والأخلاق والآداب عن طيب خاطر وإيمان وفهم كاملين بما يفعله الشاب او الشابة.

هذا فيما يتعلق بمساحة العلاقات الاجتماعية، أما في رحاب العلاقات بين العبد و ربه، فان مفهوم التكرار له مديات تربوية يستفيد منها كل فرد في المجتمع والامة حسب استيعابه، ولذا فإن الإكثار من التهليل والتقديس والتسبيح، كما أوصانا الامام الصادق، عليه السلام، "قضية تشكيكية تتفاوت حسب الاشخاص والمناسبات"، يقول سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي في تدبّره في رسالة الامام الصادق بكتابه "نهج الشيعة".

والتكرار والإكثار من الطلب يوجد حالة "التضرّع" في النفس، وقد تحفّظ سماحة المرجع الشيرازي في كتابه على أن معنى التضرع؛ البكاء، ويؤكد أن "التضرع هو الطلب المقرون بالمسكنة واستشعار الفقر الى الله –عزوجل-"، ولعل هذه الحالة تكون طريقاً لتحقيق حوائج عسيرة في حياة الانسان من خلال الدعاء الى الله –تعالى-، وهو ما يصفه المرجع الشيرازي بـ "بتربية الامام الصادق لشيعته على تكريس الشعور الايجابي في نفوسهم".

تكرار من دون ملل 

عندما يكون للتكرار والإكثار من الأذكار المقدسة والعالية المضامين بهذه الفوائد الجمّة ذات التأثير على حياة الانسان، فضلاً عن حياته في الآخرة، فمن من المستبعد أن يشعر بالملل عندما يقرأ في "مفاتيح الجنان"، أعمال عبادية مستحبة منصوص عليها من المعصوم، بأن –مثلاً- الصلاة ركعتين في النصف من شهر رجب يقرأ في الأولى الحمد، وفي الثانية سبعين مرة سورة التوحيد، أو أن يصلي في الثلاثين يوم من أيام شهر رمضان المبارك ألف ركعة، تم تقسيمها بشكل رائع في "مفاتيح الجنان"، وسهلة التطبيق لمن أتى الله بقلب سليم، وأعمال عبادية لا تُعد، فضلاً عن تسبيح السيد فاطمة الزهراء، عليها السلام، الذي علمها إياه أباه رسول الله، والتي يدأب المؤمنون الإتيان بها عقب صلاة الفريضة، وهي 34مرة الله اكبر، و33 مرة الحمد لله، و 33 مرة سبحان الله، فهو تكرار يسوق القلب والنفسبب تدريجياً الى السمو الروحي والانقطاع عن الدنيا والاتصال بعالم الآخرة والخلود، حيث {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً}.

و القلب لا ينقطع فجأة عن مشاغل الحياة لمجرد الجلوس أمام القبلة وأداء الصلوات المستحبة، او التسبيح، فالهواجس، والخوطر، ومسلسل الاحداث والمشاحنات والانشغالات تعصف بالذهن باستمرار، ويأتي التكرار والإكثار لإبعاد الانسان تدريجياً عن هذه الانشغالات والانقطاع الى الله –تعالى- حتى وإن كان في الرقم الاخير من الاذكار الطويلة. 

لنفترض أن الوصية جاءت لنا بأن نذكر الله –تعالى- تسبيحاً وتحميداً مرة واحدة في اليوم، او حتى عشر مرات فقط، فهل يكون من الانصاف مقارنتها بما يلهج به لساننا طوال اليوم بما ليس بحق وصواب وعدل؟ 

وهل يتوقف اللسان يوماً عن المبالغة في وصف الاشياء الى حد الكذب، او التسرّع في الاحكام، أو إطلاق الالفاظ القاسية بحق هذا او ذاك بدعوى التوتر العصبي وما الى غيره من أعذار واهية؟ هذا فضلاً عن حملات الغيبة والافتراء والنميمة والبهتان التي تُعد معصية مع سبق الاصرار والترصّد رغم النهي المؤكد عنها في القرآن الكريم.

إن تكرار ألفاظ راقية أبرزها: "ياالله" والاكثار منها في كل خطوة ولحظة، لها تأثير مباشر على تقويم السلوك، وتهذيب الأخلاق، وصناعة ثقافة مستقيمة تحفظ الانسان من الانزلاق في الخطأ في حق نفسه وفي حق الآخرين، لأنه يتذكر دائماً بوصلة الرشاد الدالة على كل قيم الخير والحق، فيبتعد آلياً عن كل ما يسحبه نحو مهاوي الضلال والخسران.

ذات صلة

كيف تغيّر نفسك وتسيطر على أعصابك.. وكيف تصنع مشجّرة الأطاريح والمحاضرات؟الضباب الأسود في السياسةلماذا تُضّيع ثروتنا الوطنية؟الحرب الأميركية في الكاريبي غطاء للفشل الداخلي في الحرب على المخدراتمصالح الدول وأصحاب المصالح فيها