التفوّق: فرصة متاحة للجميع
آية الله السيد محمد رضا الشيرازي
2018-02-13 05:50
يجب أن نكتشف نقاط قوتنا ونفعّل هذه النقاط، فبتفعيل هذه النقاط، مهما كانت نقاط الضعف كثيرة، يمكن للإنسان أن ينمو وأن يكون نابغة في ذلك البعد
وجود التفوق في الموجودات هو مقتضى النظام الأتمّ، فإذا لم يكن هنالك تفاضل ولا تفاوت ولا اختلاف، لكانت جميع الموجودات مثل منتوجات المعامل
يجب الإلتفات إلى أن الإنسان ينبغي أن لا يفكر أن العباقرة هم وحدهم المتفوقون، وإنما بامكان كل إنسان أن يكون متفوقاً ولكن في بعد من الأبعاد
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
سيدور كلامنا في هذا البحث حول ظاهرة التفوق ونتحدث حول هذه الظاهرة في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: عمومية هذه الظاهرة.
الفصل الثاني: فلسفة هذه الظاهرة.
الفصل الثالث: نسبية هذه الظاهرة. [1]
الفصل الأول: عمومية هذه الظاهرة
إنّ ظاهرة التفوق في الموجودات ظاهرة عامة تعمّ جميع الموجودات، إبتداءً من الجماد ومروراً بالنبات والحيوان وانتهاءاً بأفراد البشر، وهذه الظاهرة توجد في جميع هذه الموجودات، كمثال الجماد فيه تراب وفيه المعادن الغالية، ربما يكون التراب ليس ذا قيمة بينما اللؤلؤ يُشترى منه مثقال واحد بالآلاف أو بالملايين، لذا خلق الله تعالى الجماد في درجات وفي طبقات، والنبات كذلك، يشير الله تعالى إلى هذه الحقيقة في القرآن الكريم ويقول: ﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ﴾[2]، مع أنّ الأرض والتربة والماء والمناخ واحد، ولكن هذه النباتات يختلف بعضها عن البعض الآخر في المذاق وفي الطعم وفي الجودة، وكذلك الحال في الحيوان، والبشر أيضاً، وحتى الأنبياء والأئمة وهم قمة، فقد فضّل الله تعالى بعضَهم على البعض الآخر، يقول الله تعالى: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[3]، والمعروف بيننا أن أفضل الخلق كافة هو خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ثم بعد ذلك الأئمة الطاهرون والصديقة الطاهرة، والأئمة أيضاً (صلوات الله عليهم) فيهم درجات.
الفصل الثاني: فلسفة هذه الظاهرة
لماذا ظاهرة التفوق؟ وما هي حمكتها؟ وما هي العلة الكامنة من ورائها؟
الجواب على ذلك على نحو الإجمال: أنَّ وجود التفوق في الموجودات هو مقتضى النظام الأتمّ، فإذا لم يكن هنالك تفاضل ولا تفاوت ولا اختلاف، لكانت جميع الموجودات مثل منتوجات المعامل، كلها على نحو واحد وبكيفية واحدة، يعني ثوب على نحو واحد لا يختلف بعضه عن البعض الآخر، فإذا تكون جميع الموجودات على نحو واحد وعلى نمط واحد فهذا يكون خلاف النظام الأتم وخلاف النظام الأكمل.
لنأت بمثال لتقريب الفكرة، لاحظوا: إنَّ أعضاء البدن متفاوتة - مثلاً- هذه العين مركبة من خلايا رقيقة ودقيقة إلى أبعد الحدود، بينما العظم في البدن شيء خشن وصلب، فإذا كان كل البدن عظماً وخشونة ما كان بدناً كاملاً وتاماً، أو كان كل البدن كالعين مركباً من الخلايا الدقيقة والرقيقة، هل يكون كاملاً، فالبدن يحتاج إلى العظم ويحتاج إلى الغضروف ويحتاج إلى اللحم ويحتاج إلى الشحم ويحتاج إلى الشعر ويحتاج إلى الخشن ويحتاج إلى الناعم ويحتاج إلى كل شيء حتى يكون بدناً كاملاً يؤدي الدور المطلوب منه، هذا التنوع هو الذي يوجد الإنسان الكامل.
وهكذا إذا فرضنا أنّ هنالك رساماً ماهراً يريد أن يرسم لوحة، هذه اللوحة تحتاج إلى اللون الأحمر والأخضر والأصفر وأشكال متنوعة وألوان متنوعة، بعضها صغير وبعضها كبير، وبعضها واضح وبعضها خافت، أما إذا كان يأخذ اللون الأخضر ويرسم به اللوحة كلها، فهذه لن تكون لوحة فنية، لأن طفلاً ربما يتمكن من هذا العمل، يأخذ اللون الأخضر ويلوّن به الورقة، اللوحة الفنية الكاملة تحتاج إلى كل شيء.
والحياة تحتاج إلى ماء وإلى هواء وإلى نبات وإلى تراب وإلى بشر مفكّر وإلى بشر عامل. كان هنالك أحد الأفراد لديه حالة التردد، وهي حالة موجودة لدى بعض الأفراد في الأمور، في كل الأحوال فانّ الفرد المتردد لا يمكن أن يكون مديراً، فالمدير يجب أن يكون قاطعاً، والإدارة بحاجة إلى قاطعية، فيما المتردد عادة لا يلاحظ بعداً واحداً ويسير في ذلك البعد، بل ينظر لكل الأبعاد؛ ليحيط بجوانب الأمور وما فيها من التعادل والتراجيح، فتأخذه حالة التردد، هذا الرجل كان يقول: إني وإن لم أتمكن أن أكون مديراً، ولكن تمكنت أن أكون مستشاراً، لأن المستشار يشير على من استشاره بجوانب الأمور، بما فيها من المعطيات والسلبيات والإيجابيات، فتمكن أن يكون مستشاراً ناجحاً في شركة.
إذن، فالحاجة قائمة إلى الجميع، فالحاجة إلى الفقيه وإلى الرياضي وإلى العامل وإلى المخطط وإلى التاجر و... غيرهم، وإذا كان الجميع على نمط واحد لما كانت تقوم الحياة.
هذا إجمال الجواب عن هذا السؤال والتفصيل بحاجة إلى مجال آخر.
الفصل الثالث والأخير: نسبية هذه الظاهرة
هذه هي إحدى المشاكل الكبيرة، حيث يظن الأفراد أنّ التفوق ذو بعد واحد، وأنه شيء مطلق، كلا؛ إنّ التفوق ليس كذلك، على الأغلب لم يجعل الله تعالى التفوق مطلقاً، ولم يجعله في جميع الأبعاد، إنّما يعطي سبحانه وتعالى التفوق في جانب دون جانب آخر، مثل البلاد التي نشاهدها، فيعطي لبلد المناخ الطيب والجيد، لكن من دون ثروة، ومن دون نفط، فيما بلد آخر يعطيه الله تعالى النِفط ولكن لا يعطيه المناخ الجيد، فهذه نقاط القوة غير متمركزة في بلد واحد وإنما موزعة على بلاد متعددة.
لذا يجب الإلتفات إلى أن الإنسان ينبغي أن لا يفكر أن العباقرة هم وحدهم المتفوقون، وإنما بإمكان كل إنسان أن يكون متفوقاً ولكن في بعد من الأبعاد، يعني ربما يكون الواحد ذكياً جداً، والذكي هو الذي يستوعب المسائل بسرعة فائقة، ومن يعيش مع إنسان ذكي يرى أنه لا يتمكن أن يكون مثله، لأنه فاقد لنعمة الذكاء، ولكن هذا خطأ، فيمكن أن يكون ذكياً، ولكن لا يكون دقيقاً، كما يمكن أن أكون دقيقاً وإن لم أكن ذكياً، وبهذه النقطة، نقطة الدقة يمكن أن أكون متفوقاً، ولذلك إذا تلاحظون العباقرة والنوابغ في التاريخ، تجدون أن جميعهم لم يكونوا أذكياء، أضرب لكم ثلاثة أمثلة لتقريب هذه الفكرة، فنحن يجب أن نكتشف نقاط قوتنا ونفعّل هذه النقاط، فبتفعيل هذه النقاط، مهما كانت نقاط الضعف كثيرة، يمكن للإنسان أن ينمو وأن يكون نابغة في ذلك البعد:
المثال الأول: المحقق القمي[4]
المحقق القمي (رحمة الله عليه) المدفون في مدينة قم بمنطقة (شيخان) والناس يذهبون إلى قبره ويطلبون قضاء الحوائج ببركته، وكثير من الحاجات تُقضى عنده، كان عالماً تقياً وزاهداً في حياته، هذا العالم كتب عن نفسه، ولو لم يكتب هو عن نفسه لما كنت أقول هذه الكلمة، يقول: «إنني بليد!» إذ لم يكن ذكياً، وكان فهمه للمسائل والدروس ضعيفاً، كما كان يعاني عجزاً في الحوار، بعكس بعض الأفراد الذين ينطلقون في الحوار ويلتهمون الطرف المقابل، بينما نجد بعض الأفراد لايتمكن من قول كلمة واحدة، ولذلك في حواره مع صاحب الرياض[5] الذي كان عالماً منطيقاً وذكياً، وعندما كان يتكلم، كان المحقق القمي يلتزم الصمت، إضافة الى انّ ذاكرته لم تكن تسعفه بالجواب السريع، وذات مرة دعا صاحب الرياض المحقق القمي في بيته، فطبخ طعاماً له فيه (كشمش)، فقال له المحقق القمي: لماذا وضعت الكشمش في الطعام؟
قال: وما المشكلة في ذلك؟
قال: الكشمش إذا غلا يكون حراماً.
فقال: وما هو دليلك على ذلك؟
فقد كان صاحب الرياض يحلل الكشمش وإن غلا، بينما كان في رأي صاحب القوانين المحقق القمي حراماً، فبدأ صاحب الرياض يطرح الأدلة فيما المحقق القمي ساكت وينظر إليه! فقال صاحب الرياض: قل شيئاً أو أجب على حديثي حتى أرد عليك!
فقال المحقق القمي: أكتب حتى أكتب أنا، فأنا لا أتمكن أن أجيب بهذه الطريقة، فانت أكتب وأنا أذهب الى البيت وأجلس وأفكر حتى أجيب كتابةً[6].
فهذا العالم الذي يقول عن نفسه إنه بليد عنده كتاب «القوانين» الذي يُدرس في الحوزات العلمية طوال مئتي عام تقريباً، وهو من أعمق الكتب الأصولية، وعنده كتاب «جامع الشتات» وهو كتاب فقهي جميل جداً، ويستفيد منه الفقهاء كثيراً، ومن الناحية المعنوية، فان قبره يُقصَد لقضاء الحاجات، فهذا رجل يعبر عن نفسه أنه بليد، ثم يبلغ هذه المقامات العالية من العلم والعمل.
المثال الثاني: العلامة البرغاني[7]
كان العلامة البرغاني يقول: أنا حجة من حجج الله تعالى على الخلائق أو على طلبة علوم الدينية، فيوم القيامة يأتون بالطلبة ويقولون لهم: لماذا لم تعملوا... لماذا لم تحفظوا... لماذا لم تتقدموا...؟ فيقولون يا الله كنّا فقراء، ولم يكن عندنا كتاب أو مصباح أو بيت أو أمثال ذلك من الأعذار، يقول: فتقول الملائكة لي: أدلي بشهادتك أيها البرغاني! أقول يا رب أنا كنت أفقر من كثير من هؤلاء - فأنا حتى لم يكن عندي مالٌ لأشتري النفط للمصباح، رغم الثمن البسيط للزيت، وكنت أذهب وأطالع الكتاب على ضوء بيت الخلاء الذي كان يذهب اليه الطلبة، وكان فيه مصباح قديم! صيفاً وشتاءً، رغم إن ذلك المكان لم يكن بالأساس مكاناً للمطالعة، ومع هذا الفقر الذي كان يعانيه تحول إلى واحد من العلماء الكبار وذوي الأبعاد المتعددة، وله مؤلفات تُعد بالعشرات، منها موسوعة العلامة البرغاني - وإذا قال طالب: يا الله! إنني بدأت متأخراً كان عمري عشرين أو خمسة وعشرين عاماً، ولم أبدأ من أيام طفولتي، تقول الملائكة: أدلِ بشهادتك، فأقول يا الله! أنا بدأت بعد الثلاثين بتعلم حروف ألف باء - أو خلال الثلاثين سنة- أو إذا قال طالبٌ يا الله! إنني كنت ضعيف الذاكرة، يقولون أدل بشهادتك أيها البرغاني، فأقول: يا الله! كانت ذاكرتي ضعيفة إلى حد كنت أضيع بيتي، فعندما كان يريد الذهاب إلى بيته كان يدخل في زقاق آخر.
ينقلون عن أحد العلماء وهو من المفكرين الكبار أنه كان ضعيف الذاكرة، وذات يوم جاء إلى باب بيته فطرق الباب، فأشرف الخادم من الشباك وقال: من تطلب؟ ومن دون أن يرى ذلك العالم، فقال له العالم: -مثلاً- أريد الشيخ تقي، وكان يعني اسمه هو، فقال له الخادم إنه ليس موجوداً في الدار! فقال: عذراً... لقد أزعجناكم، ثم تابع طريقه وذهب.
فكان البرغاني يتوه عن بيته أيضاً وينسى أسماء أطفاله! وعندما كان يريد أن ينادي أحدهم، يفكِّر قليلاً ليتذكر إسمه، ولكن مع هذا الفقر وهذا الضعف وهذه البداية المتأخرة، تحول العلامة البرغاني إلى أحد كبار العلماء وله موسوعة من عشرات المجلدات.
المثال الثالث:
إنه أعظم علماء الفيزياء المعاصرين[8]، وهو حي الى الآن، يقولون عن هذا العالم بأنه أهم من إينشتاين المعروف، بل ونسف بعض نظريات إينشتاين، ويقولون إنّ أفكاره ثورة في المجال العلمي وإنقلاب في تاريخ العلوم، هذا رجل كان معوّقاً، عاجزاً عن المشي وعن النطق، وعن تحريك رجليه ولا حتى يديه، ولم يكن يتمكن أن يلبس ملابسه، كان فقط يتمكن من تحريك إثنين من أصابع يده اليسرى فقط، فهو رجل مشلول ومربوط بسرير متحرك ويحتاج إلى العناية على مدار الساعة ولأفراد يقومون بشؤونه، فهذا الرجل هو أعظم علماء الفيزياء المعاصرين، وعنده كتاب إسمه «مختصر تاريخ الزمان»[9]، بيع منه خلال فترة قصيرة مليون وسبعمئة ألف نسخة، ويقال عنه إنه رجل مربوط بالكرسي المتحرك، ولكن فكره يسبح في الآفاق الواسعة، فقد كان يفكر في الكون والمكان وما وراء الكون، وعنده نظريات، لكن كيف يكتب؟ وكيف يطرح نظرياته؟ لقد كانت عنده جهاز (حاسبة) وبأصبعيه اللذين يتحركان يطبع نظرياته، ثم هنالك فريق من العلماء حوله كانوا يلتقطون إشاراته ويكتبونها، فقد كان يفكر ويطبع، إذا كان هنالك رجل معوق إلى هذا الحد من التعويق في بلادنا، لكان يوضع في دار رعاية المعوقين، وكان يبقى معوقاً طوال حياته، لكن هذا المعوّق يتحول إلى واحد من أعظم علماء الفيزياء.
من هنا فان الله سبحانه وتعالى جعل في معظم الأفراد نقاط نبوغ، ويمكن للإنسان أن يكتشف هذه النقاط وينمّيها ليكون شيئاً مذكوراً ويخدم به المجتمع ويعمّر آخرته بذلك.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.