العلامات الأربع.. التي تصنع الإنسان الصالح والمجتمع المثالي

صباح الصافي

2025-10-12 04:14

من الخصائص المميِّزة للخطاب القرآني ولتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) وضوحه ودقَّته في تحديد المفاهيم وضبط المعايير، بما يجعل الإنسان قادرًا على الوقوف على حقيقة موقعه العقدي والأخلاقي؛ وعلى سبيل المثال لو طرح الفرد على نفسه هذا السؤال: هل أنا مؤمن حقًّا أم لا؟

 لا يظل سؤالًا معلَّقًا بلا جواب؛ بل يجد إجابته الموضوعيَّة حينما يرجع إلى القرآن الكريم وروايات المعصومين (صلوات الله عليهم). فالقرآن الكريم يبيِّن الإيمان، ويقدِّمه في صورة علامات وسلوكيات عمليَّة يمكن ملاحظتها وتقييمها؛ قال الله (تعالى): (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (1). 

إنَّ هذا العرض القرآني يرسم معايير دقيقة يمكن للإنسان أن يقيس بها واقعه: الخشوع في الصَّلاة باعتباره علامة عمق الصِّلة بالله (سبحانه)، والإعراض عن اللغو بوصفه رمزًا لانضباط الفكر واللسان، وأداء الزَّكاة بوصفه تجسيدًا لوظيفة التَّكافل الاجتماعي، ثمَّ حفظ الفرج تعبيرًا عن عفَّة السُّلوك وصيانة الكرامة الإنسانيَّة. وبهذا تصبح مسألة الإيمان تجربة تُختبر في الميدان العملي، حين تظهر القيم في أفعال ملموسة.

 ومثل هذا السُّؤال هناك الكثير، غير أنَّ الانسان المؤمن يركِّز على أسئلة جوهريَّة؛ ومنها هذا السُّؤال الذي يتردد في ذهن الفرد: هل أنا من أهل الجنَّة؟ 

إنّه سؤال إيجابي يحرِّك القلب نحو التَّفكُّر في المصير الأبدي، ويجعل الإنسان أكثر حرصًا على الطَّاعة وأشدّ يقظة اتِّجاه ما يقوم به من أعمال؛ فالمؤمن حين يسأل نفسه هذا السُّؤال، لا يبحث عن علم الغيب؛ وإنَّما يستنهض همَّته ليراجع سيرته اليوميَّة، ويقيس مدى التزامه بالفرائض وصدق ارتباطه بالقيم الإلهيَّة. وهو بذلك يحيي في قلبه شعلة الأمل برحمة الله (تعالى)، وفي الوقت نفسه يذكِّره بضرورة الاستقامة والتَّوبة الدَّائمة.

وقد أجاب الإمام الصَّادق (عليه السلام) على هذا السُّؤال، ووضع معيارًا جامعًا يرسم ملامح شخصيَّة أهل الجنَّة. فقد ورد عنه (عليه السلام): "إنَّ لأَهلِ الجَنَّةِ أَربَعُ عَلاماتٍ: وَجْهٌ مُنْبَسِطٌ، وَلِسانٌ لَطِيفٌ، وَقَلْبٌ رَحِيمٌ، وَيَدٌ مُعطِيَةٌ" (2).

إنَّ هذه العلامات الأربع تمثِّل أركانًا محوريَّة للبعد الأخلاقي والاجتماعي في شخصيَّة المؤمن؛ فالوجه المنبسط يشير إلى إشراقة الرُّوح التي تنعكس على السُّلوك الاجتماعي، فيبعث البهجة والطَّمأنينة في نفوس الآخرين. وأمَّا اللسان اللطيف فهو مظهر لحكمة الخطاب ورقَّة التَّعامل؛ إذ يصبح الكلام وسيلة للتَّواصل البنَّاء لا أداة للإيذاء. وأمَّا القلب الرَّحيم فيعكس عمق البعد الإنساني؛ إذ يتجاوز حدود الذَّات ليشمل التَّعاطف مع الآخر ورعايته. وأخيرًا تأتي اليد المعطية لتجسِّد فعلًا ملموسًا للعطاء والتَّكافل، فتربط الإيمان بالسُّلوك العملي المؤثِّر في حياة النَّاس.

ونظرًا إلى خطورة هذه العلامات وعمق دلالتها، فإنَّ الوقوف عندها بالتَّفصيل أمر ضروري؛ فهي بمثابة معايير فاصلة تكشف عن حقيقة الشَّخصيَّة المؤمنة من جهة، وعن انعكاساتها العمليَّة في السُّلوك النَّفسي والاجتماعي من جهة أخرى. ومن هنا يصبح الحديث عن هذه العلامات حديثًا عن جوهر الهوية الإيمانيَّة، لا عن سمات شكليَّة أو مظاهر سطحيَّة؛ الأمر الذي يبرِّر تخصيص مساحة للتَّحليل والتَّأمُّل في كلِّ علامة منها على حدة، بوصفها أدلَّة إرشاديَّة ترسم الطَّريق إلى مصير الإنسان الأخروي.

العلامة الأولى: الوجه المنبسط.

هناك أفعال صغيرة في ظاهرها، عظيمة في أثرها، تمدُّنا بالحسنات وتقرِّبنا إلى الله (تعالى)، وهي في متناول أيدينا جميعًا، ومن أيسر تلك الأفعال: الوجه المنبسط. و"البسط نقيض القبض... وإنَّه ليبسطني ما بسطك ويقبضني ما قبضك؛ أي يسرني ما سرَّك ويسوءني ما ساءك" (3).

ومن هذا الأصل اللغوي يتَّضح أنَّ "الوجه المنبسط" يشير إلى الوجه الطَّلق المشرق المتهلل، الذي يبعث في النَّاظر إليه شعورًا بالطَّمأنينة والارتياح؛ فالابتسامة الصَّادقة وانشراح المحيّا هي انعكاس لصفاء الباطن ونقاء السَّريرة.

والظَّاهر أنَّ ما قصده الإمام الصَّادق (عليه السلام) من هذه العلامة أعمّ من التَّعامل مع الأقارب أو الأصدقاء؛ إذ إنَّ صاحب الوجه المنبسط يتَّسم بانفتاحه على جميع من يلقاهم، قريبًا كان أم بعيدًا، صغيرًا أم كبيرًا –ولكن بشرط ألَّا يكون مخالفًا لحكم شرعي-. 

وقد وردت في النُّصوص الشَّريفة شواهد تؤكِّد عمق هذه العلامة وأثرها؛ منها ما رُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "تَبَسُّمُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِ أَخِيهِ حَسَنَةٌ، وَصَرْفُ الْقَذى عَنْهُ حَسَنَةٌ، وَمَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ" (4). فهذه الرِّواية تُظهر أنَّ الابتسامة عبادة تُسجَّل في صحيفة الحسنات، وتجسيدٌ لمعنى إدخال السُّرور على قلوب المؤمنين، وهو من أحبِّ الأعمال إلى الله (تعالى). وبهذا ترتقي الابتسامة من كونها سلوكًا اجتماعيًّا بسيطًا إلى مرتبة سامية من مراتب القرب الإلهي.

لا يتطلَّب الوجه المنبسط من الإنسان قدرات خارقة أو إمكانات استثنائيَّة؛ وإنَّما يقوم أساسًا على جهدٍ في تهذيب النَّفس، وصبرٍ في مواجهة تقلباتها، ومخالفةٍ لما تميل إليه من انغلاق أو عبوس؛ فالنَّاس متنوعو الطباع والأمزجة، وقد يواجه المرء مواقف تثير انفعالات سلبيَّة؛ لكنَّ تربية الوجه على البشاشة بالتكرار والممارسة تتحوَّل مع الوقت إلى عادة راسخة تيسِّر على المرء التَّعامل مع مختلف الأصناف البشريَّة بروح متسامحة ومنفتحة.

وقد أشار بعض المختصين في علم الطب إلى بُعدٍ لافتٍ في هذا السِّياق، حيث ينقل أنَّ الضَّحك أو الابتسام يستلزم تشغيل أربعة عشر عصبًا فقط من عضلات الوجه، بينما يحتاج العبوس إلى أكثر من أربعين عصبًا. وهذا يعني أنَّ الوجه المنبسط هو خيار صحي وعلمي يوفّر على الجسد عناء التَّوتر العضلي والنَّفسي.

ولأجل ذلك، دعت النُّصوص الشَّريفة إلى أن يكون المؤمن منشرح الوجه حتَّى في لحظات الضِّيق أو الحزن؛ فقد ورد عن الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله): "مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ... بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ، وَحُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ..." (5). فالابتسامة هي تعبير عن ضبط داخلي متوازن يجنِّب الآخرين ثقل الهموم الشَّخصيَّة، ويحوّل المعاناة إلى طاقة صامتة تُعاش في باطن القلب من دون أن تفقد الروح إشراقتها. وهذا الجمع بين الحزن الباطني والبِشر الظَّاهري يقدِّم درسًا عميقًا في الأخلاق العمليَّة؛ إذ يصبح الوجه المنبسط مظهرًا للقوَّة الرُّوحيَّة، وقدرة على حفظ التَّوازن بين الواقع النَّفسي والواجب الاجتماعي. وبذلك تترسَّخ هذه العلامة معيارًا من معايير أهل الجنَّة؛ لأنَّها تعكس نضجًا إنسانيًا متكاملًا.

العلامة الثَّانية: اللسان اللطيف.

 اللسان اللطيف مرآة القلب النَّقي، يفيض بالكلمة الطيِّبة التي تزرع في الأرواح سكينةً ومحبَّة، وتترك أثرًا باقيًا في الدُّنيا والآخرة. ومن أحسن تربية لسانه أحسن تربية قلبه، فصار كلامه غرسًا مباركًا يؤتي ثماره حيثما وقع.

 والمقصود بـ(اللسان اللطيف): هو ذلك اللسان البعيد عن الخوض في المحرَّمات، مثل الغيبة والنَّميمة والبهتان والخوض في الباطل، أو في مجالات قد تكون مباحة أحيانًا إلَّا أنَّها قد تجر إلى مشاكل لاحقًا مثل فضول الكلام الذي لا ينفع في أمر الدُّنيا ولا في أمر الآخرة.

وبعبارة أوضح، اللسان اللطيف: هو الدَّقيق في اختيار ألفاظه، ولا ينطق إلَّا بما هو نافع، يوجِّه الآخرين نحو الخير، ويُدخل على النُّفوس الهدى والسَّكينة. فهو مطبوع على الكلمة الطيِّبة التي تثمر في القلوب كما يثمر الغرس في الأرض الخصبة.

وهذا المقام لا يُنال بسهولة، ويحتاج إلى علم ومعرفة ومجاهدة للنَّفس، حتَّى يتعوَّد الإنسان على إحكام لسانه وتدريبه على النُّطق بالخير دائمًا وأبدًا. ومع طول المران والممارسة، يصبح اللسان اللطيف طبعًا أصيلًا، ويغدو الكلام الصَّالح ثمرة دائمة لا تنقطع، يفيض بها صاحبه حيثما كان. وقد روي عن الإمام الصَّادق (عليه السلام) قوله:

"عَوِّدْ لِسَانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ تَحْظَ بِهِ* إِنَّ اللِّسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ يَعْتَادُ

مُوَكَّلٌ بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ* فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَانْظُرْ كَيْفَ تَعْتَادُ" (6). 

والكلام اللطيف إن دلَّ على شيءٍ، فإنَّما يدلُّ على طيب نفس المتكلِّم؛ فهو انعكاسٌ مباشر لصفاء القلب ونقاء الضَّمير. ومن كان كذلك، صار محبوبًا عند الله (تعالى) ومقرَّبًا من المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ لأنَّ اللسان مرآة الباطن، والكلمة الطيِّبة ثمرة القلب الطَّيب.

 ولا يقف أثر الكلام اللطيف عند حدود تحسين العلاقات الاجتماعيَّة أو تهذيب السلوك الفردي؛ بل يمتد ليشمل بركات دنيويَّة وأخرويَّة؛ فقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله: "القَولُ الحَسَنُ يُثرِي المالَ، ويُنمي الرِّزقَ، ويُنسِئُ في الأجَلِ، ويُحَبِّبُ إلَى الأهلِ، ويُدخِلُ الجَنَّةَ"(7). وهنا يكشف الإمام (عليه السلام) عن حقيقة دقيقة، وهي أنَّ الكلمة الطيِّبة سبب لزيادة الرِّزق وطول العمر؛ لأنَّها تبني بيئةً يسودها الحبّ والوفاق، وتزيل ما يقطع الأرزاق من خصام وعداوة، ولأنَّها من مصادق الصَّدقة الجارية التي يضاعف الله (تعالى) أثرها في الدُّنيا قبل الآخرة.

وعن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: "والذي نفسِي بِيَدِهِ، ما أنفَقَ النّاسُ مِن نَفَقةٍ أحَبَّ مِن قَولِ الخَيرِ" (8). فالقول الحسن، في ميزان المعنى، أعظم من المال المنفق؛ لأنَّه لا ينقص بالعطاء، ولا يثقل على صاحبه، ويجري على لسانه فيثمر في قلوب الآخرين محبَّةً وسكينة، ويُكتب له عند الله (سبحانه) صدقةً دائمة.

 وقد التفت الشُّعراء إلى أثر اللسان في صلاح الإنسان وفساده، فصاغوا أبياتًا بليغة تذكِّر بخطر الكلمة وأثرها البعيد، يقول الشَّاعر:

عوِّد لسانَكَ حسنَ القولِ تنجُ بهِ* من زلةِ اللفظ بل من زلَّة القدمِ

واحذر زمانكَ من خلٍّ تنادمهُ* إنَّ النَّديمَ لمشتقٌ من النَّدمِ (9). 

فهذان البيتان يوجهان تربيةً عمليَّة للإنسان، إذ يشبِّه الشَّاعر زلَّة اللسان بزلَّة القدم، وكلاهما قد يؤديان إلى السُّقوط، غير أنَّ سقوط اللسان أخطر؛ لأنَّه قد يُسقط صاحبه من عين الله (تعالى) والنَّاس معًا. كما يحذِّر من مجالسة من لا يحسن الكلام؛ لأنَّ مجالسة أهل اللغو تورث العدوى الخلقيَّة، ومن ثمَّ يكون النَّديم منشأً للنَّدم.

الكلام المثمر

"يحكى: أنَّ الملك الفارسي أنو شيروان -الذي ولد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في عهده- أعلن في الدَّولة بأنَّ من يقول للملك كلمة طيِّبة فله جائزة (400 دينار)، وفي يوم كان الملك يسير بحاشيته في المدينة إذ رأى فلاحًا عجوزًا في التسعينات من عمره وهو يغرس شجرة الزَّيتون، فقال له الملك: لماذا تغرس شجرة الزَّيتون وهي تحتاج إلى عشرين سنة لتثمر، وأنت عجوز في التسعين من عمرك؟

فقال الفلاح: السَّابقون زرعوا ونحن حصدنا، ونحن نزرع لكي يحصد اللاحقون. فقال الملك: أحسنت هذه كلمة طيِّبة فأمر بأن يعطوه الجائزة وهي (400 دينار) فأخذها الفلاح وابتسم، فقال الملك: لماذا ابتسمت؟

 فقال الفلاح: شجرة الزَّيتون تثمر بعد عشرين سنة وشجرتي أثمرت الآن! 

فقال الملك: أحسنت أعطوه (400 دينار) أخرى، فأخذها الفلاح وابتسم، فقال الملك: لماذا ابتسمت؟

 فقال الفلاح: شجرة الزَّيتون تثمر مرَّة وشجرتي أثمرت مرَّتين!

فقال الملك: أحسنت وأمر بإعطائه (400 دينار)، ثمَّ تحرَّك الملك بسرعة من عند الفلاح، فقال له رئيس الجند: ولماذا تحرَّكت بسرعة؟

فقال الملك: إذا جلست إلى الصَّباح فإنَّ خزائن الأموال ستنتهي وكلمات الفلاح العجوز لا تنتهي"(10).

إنَّ الكلمة الطيِّبة قادرة على أن تُثمر في لحظتها كما تُثمر الأشجار بعد سنين طويلة، فهي تختصر الزَّمن وتحوّل المواقف الصَّعبة إلى فرص للعطاء. وقد يملك الحاكم خزائن الأموال؛ ولكن قوَّة الكلمة اللطيفة أعمق أثرًا وأبقى بقاءً، فهي التي تُكسب صاحبها الاحترام وتفتح له القلوب من غير سيف ولا سلطان. ولذا شبَّهها القرآن الكريم بالشَّجرة الطيِّبة التي تعطي ثمارها في كلِّ حين بإذن الله (تعالى)، دلالة على أنَّ بركاتها متجددة، وعطاؤها متواصل، وثمرتها لا تنقطع أبدًا.

قال الله (تبارك وتعالى): (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ*

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (11).

العلامة الثَّالثة: القلب الرَّحيم.

القلب الرَّحيم: هو ذلك القلب الذي امتلأ بالرِّقّة والعطف، فانبعثت منه بواعث الإحسان ودوافع الخير اتِّجاه من حوله، فهو لا يقف عند حدود الشُّعور؛ وإنَّما يشارك الآخرين آلامهم، ويحاول أن يخفف عنهم ثقل المحن، ويحمل عنهم بعض ما ينوءون به من أعباء. فهو قلب يذوب حنانًا ورحمة، فيغدو جسرًا يصل النَّاس برحمة الله (تعالى) (12).

والقلب الرَّحيم طريق إلى الرَّحمة الإلهيَّة في الدُّنيا والآخرة، وقد أكَّد أمير المؤمنين عليُّ ابن أبي طالب (عليهما السلام) هذه الحقيقة بقوله: "كَمَا تَرْحَمُ تُرْحَمُ" (13)؛ ليدلّ على أنَّ الرَّحمة هي سبيل موصل إلى رحمة الخالق (سبحانه). 

وجاء رجل إلى النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، فقال له: أحب أن يرحمني ربِّي؟

فقال له النَّبي (صلَّى الله عليه وآله): "ارحَمْ نَفسَكَ، وارحَمْ خَلقَ اللَّهِ يَرحَمْكَ اللَّهُ" (14). وهكذا يبيِّن الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ رحمة الله (سبحانه) لعبده لا تنفصل عن رحمته بنفسه وبالنَّاس من حوله، فهي سُنَّة إلهية تربط الخالق (سبحانه) بالخلق، والعبد بالجنَّة.

ولكي يتهيأ القلب ليكون رقيقًا رحيمًا، لا بدَّ للإنسان أن يُطهره من مظاهر القسوة التي تحجبه عن الرَّحمة؛ فالإفراط في الذُّنوب، وأكل الحرام، والانغماس في اللهو واللغو، وكثرة المزاح والضحك، وسماع الغناء، وحتَّى بعض المهن التي تُقسي القلب كبيع الأكفان أو الذباحة، كلّها عوامل تضعف الرَّحمة. وفي المقابل، فإنَّ حضور مجالس العزاء، والاقتراب من الأيتام بالمسح على رؤوسهم، والإكثار من تلاوة القرآن الكريم، واستحضار حقيقة الموت، هي مفاتيح رقَّة القلب وجعله نابضًا بالمودَّة، فيَّاضًا بالمحبَّة. ومن يوفق لنيل قلب رحيم فقد وُهب الوسيلة الأسمى للظَّفر برحمة الله (سبحانه).

من آثار الرَّحمة

 "كان ببلخ رجل من العلويين وله زوجة وبنات فتوفي أبوهن. تقول المرأة: فخرجت بالبنات إلى سمرقند خوفًا من شماتة الأعداء، واتَّفق وصولي في شدَّة البرد، فأدخلت البنات في أحد المساجد، ومضيت لأحتال في القوت، فرأيت النَّاس مجتمعين على شيخ فسألت عنه؟

فقالوا: هذا شيخ البلد، فشرحت له حالي. 

فقال: أقيمي عندي البيِّنة عندكِ أنَّكِ علوية. ولم يلتفت إليَّ فيئست منه، وعدت إلى المسجد، فرأيت في طريقي شيخًا جالسًا على دكَّة وحوله جماعة.

 فقلت: من هذا؟

قالوا: ضامن البلد وهو مجوسي.

 فقلت: عسى أن يكون على يده فرجي، فحدَّثته بحديثي وما جرى لي مع شيخ البلد، فصاح بخادم له فخرج. فقال له: قل لسيدتك: تلبس ثيابها. فدخل وخرجت امرأته ومعها جواري، فقال لها: اذهبي مع هذه المرأة إلى المسجد الفلاني، واحملي بناتها إلى الدَّار. فجاءت معي وحملت البنات، وقد أفرد لنا بيتًا في داره، وكسانا ثيابًا فاخرة، وجاءنا بألوان الأطعمة، وبتنا بأطيب ليلة.

 فلمَّا كان نصف الليلة رأى شيخ البلد المسلم في منامه كأنَّ القيامة قد قامت واللواء على رأس محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، وإذا بقصر من الزمرد الأخضر.

 فقال: لمن هذا القصر؟

 فقيل: لرجل مسلم موحد.

 فتقدَّم إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله، تعرض عنِّي وأنا رجل مسلم!

 فقال لـه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): أقم البيِّنة عندي أنَّك مسلم.

 فتحيَّر الرَّجل، فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): نسيت ما قلت للعلوية، وهذا القصر للشيخ الذي هي في داره. فانتبه الرَّجل وهو يلطم ويبكي وبث غلمانه في البلد، وخرج بنفسه يبحث على العلوية، فأخبر أنَّها في دار المجوسي، فجاء إليه فقال: أين العلوية؟

فقال: عندي.

 فقال: أريدها.

 فقال: ما لك إلى هذا سبيل.

 قال: هذه ألف دينار خذها وسلمهن إليَّ.

 قال: لا والله ولا مائة ألف دينار.

 فلمَّا ألح عليه قال لـه: المنام الذي رأيته أنت رأيته أيضًا أنا، والقصر الذي رأيته لي خلق، وأنت تدل عليَّ بإسلامك، والله ما نمت ولا أحد في داري إلَّا وأسلمنا كلُّنا على يد العلوية، وعادت بركاتها علينا ورأيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وقال لي: القصر لك ولأهلك بما فعلت مع العلوية"(15).

العلامة الرَّابعة: اليد المعطية.

اليد المعطية هي اليد التي تبذل في سبيل الله (تبارك وتعالى)، وتنفق في إحياء شعائر الإسلام، فهي علامة على السَّخاء الذي يرفع الدَّرجة ويضاعف الأجر عند الله (عزَّ وجلَّ). وقد شبَّه القرآن الكريم هذا العطاء بمشهدٍ رائع، إذ قال (سبحانه): (مثل الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (16).

وإذا عدنا إلى كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) نجد فيها حكمة ناصعة في التَّصرُّف مع متاع الدُّنيا وزخرفها، إذ يقول: إِذَا جادت الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَجِدَّ بِهَا* عَلَى النَّاسِ طُرّاً قَبْلَ أَنْ تتفلتْ

فَلَا الْجُودِ يفنيها إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ* وَلَا الْبُخْلِ يُبْقِيهَا إِذَا مَا تَوَلَّتْ (17).

إنَّ الدرس العميق هنا أنَّ التَّعامل مع الله (جلَّ وعلا) لا يحمل في طيَّاته أي خسارة؛ بل هو ربحٌ محض، فكلُّ نفقة في سبيله (تعالى)، وكل خير يُبذل للناس بصدق وإخلاص، إنَّما يعود على صاحبه بالبركة في دنياه والنَّعيم في آخرته. وهكذا يتربى الإنسان على الإيثار والسَّخاء، ويترسَّخ في قلبه اليقين بأنَّ الله (سبحانه) حافظٌ لكل عملٍ صالح، ومضاعفٌ له، وأنَّ العطاء هو السَّبيل الأجمل لضمان الرِّزق والنَّفع الحقيقي.

عطاء الإمام الحسين (عليه السلام)

"قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَ عَنْ أَكْرَمِ النَّاسِ بِهَا. فَدُلَّ عَلَى الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَهُ مُصَلِّياً، فَوَقَفَ بِإِزَائِهِ وَأَنْشَأَ:

لَمْ يَخِبِ الْآنَ مَنْ رَجَاكَ وَمَنْ* حَرَّكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الْحَلَقَةَ

أَنْتَ جَوَادٌ وَأَنْتَ مُعْتَمَدٌ* أَبُوكَ قَدْ كَانَ قَاتِلَ الْفَسَقَةِ 

لَوْ لَا الَّذِي كَانَ مِنْ أَوَائِلِكُمْ* كَانَتْ عَلَيْنَا الْجَحِيمُ مُنْطَبِقَةً

قَالَ: فَسَلَّمَ الْحُسَيْنُ (عليه السلام)، وَقَالَ: يَا قَنْبَرُ هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْحِجَازِ؟

 قَالَ: نَعَمْ. أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ.

 فَقَالَ: هَاتِهَا قَدْ جَاءَ مِنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنَّا، ثُمَّ نَزَعَ بُرْدَيْهِ وَلَفَّ الدَّنَانِيرِ فِيهِمَا وَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ شَقِّ الْبَابِ حَيَاءً مِنَ الْأَعْرَابِيِّ وَأَنْشَأَ:

خُذْهَا فَإِنِّي إِلَيْكَ مُعْتَذِرٌ* وَاعْلَمْ بِأَنِّي عَلَيْكَ ذُو شَفَقَةٍ

لَوْ كَانَ فِي سَيْرِنَا الْغَدَاةَ عَصًا* أَمْسَتْ سَمَانَا عَلَيْكَ مُنْدَفِقَةً

لَكِنَّ رَيْبَ الزَّمَانِ ذُو غِيَرٍ* وَالْكَفُّ مِنِّي قَلِيلَةُ النَّفَقَةِ

قَالَ فَأَخَذَهَا الْأَعْرَابِيُّ، وَبَكَى، فَقَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ اسْتَقْلَلْتَ مَا أَعْطَيْنَاكَ؟

 قَالَ: لَا، وَلَكِنْ كَيْفَ يَأْكُلُ التُّرَابُ جُودَكَ" (18).

وهكذا يرسم لنا الإمام الحسين (عليه السلام) صورة جميلة للعطاء في سبيل الله (تعالى)؛ فهو عطاء لا يحدّه حساب ولا يقيِّده تصنيف؛ هو فيض نابع من قلبٍ مخلص لا يلتفت إلَّا إلى وجه الله (سبحانه).

 ثمَّ إنَّ المنفق الحقّ هو من يوسِّع عطاياه على الجميع من دون أن يقول: "هذا يستحقّ وذاك لا يستحقّ"؛ لأنَّ القيمة الحقيقيَّة للإنفاق تكمن في إخلاص النيَّة، والنيَّة الخالصة هي التي تُثمِر وتعود على صاحبها بالبركة في الدُّنيا والآخرة. كما بيَّن الإمام الصادق (عليه السلام): "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُخْتَمَ بِخَيْرٍ عَمَلُكَ حَتَّى تُقْبَضَ وَأَنْتَ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَعَظِّمْ لِلَّهِ حَقَّهُ أَنْ تَبْذُلَ نَعْمَاءَهُ فِي مَعَاصِيهِ وَأَنْ تَغْتَرَّ بِحِلْمِهِ عَنْكَ، وَأَكْرِمْ كُلَّ مَنْ وَجَدْتَهُ يَذْكُرُنَا أَوْ يَنْتَحِلُ مَوَدَّتَنَا ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْكَ صَادِقاً كَانَ أَوْ كَاذِباً إِنَّمَا لَكَ نِيَّتُكَ وَعَلَيْهِ كَذِبُهُ" (19).

وهذا الحديث يعلِّمنا أنَّ النيَّة هي معيار الأثر، وأنَّ الإنفاق في سبيل الله (تعالى) يجب أن يكون خالصًا لله (سبحانه)، بعيدًا عن توقع المكافأة من النَّاس أو الانخداع بمظاهرهم؛ فالقصد السَّليم وحده هو الذي ينفع، وأمَّا من يزيف القول أو يدَّعي الفضائل فلا يضر إلَّا نفسه.

إنَّ هذه العلامات الأربع -الوجه المنبسط، واللسان اللطيف، والقلب الرَّحيم، واليد المعطية- تشكِّل خارطة عمليَّة للإيمان الحقيقي؛ حيث تتحوَّل المفاهيم العقديَّة إلى سلوكيات ملموسة يختبر بها الإنسان عمق صلته بالله (سبحانه) وصدق علاقته بالخلق. فكلُّ ابتسامة صادقة، وكلُّ كلمة طيِّبة، وكلُّ شعور بالرَّحمة، وكلُّ فعل عطاء خالص، هو جسر بين الدُّنيا والآخرة، ومقياس لمكانة المؤمن عند الله (تبارك وتعالى). ومن اتَّخذ هذه العلامات منهجًا لحياته، عاش تجربة إيمانيَّة متكاملة، تركت أثرها في نفسه والآخرين، لتصبح حياته شهادة على أنَّ الإيمان الحقيقي هو ممارسة مستمرة للفضائل، وليست مجرَّد شعور أو اعتقاد نظري. فليكن كلُّ يوم فرصة لنشر النُّور في القلب واللسان واليد، حتَّى يلقى الإنسان ربَّه (سبحانه) وقلبه عامر بالطَّمأنينة، وقد تزيَّن بثمرات إيمانه وتوَّجته أعماله الصَّالحة.

................................................

الهوامش:

1. سورة المؤمنون، الآيات:1ـ 7.

2. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام): ج٢، ص410.

3. العين: ج7، ص217، مادة (بسط).

4. الكافي (دار الحديث):ج٣، ص٤٨٢.

5. التمحيص: ص174.

6. الخصال: ص169.

7. المصدر نفسه: ص317. 

8. بحار الأنوار: ج68، ص311.

9. رحلة الشتاء والصيف: ص97.

10. الأخلاق والآداب الإسلاميَّة: ص38.

11. سورة ابراهيم/ الآيات:24-26.

12. ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: ص347، مادة (رحم)؛ مجمع البحرين: ص497، مادة (رحم).

13. غرر الحكم ودرر الكلم: ص535.

14. كنز العمال: الخبر44154.

15. ينظر: بحار الأنوار: ج93، ص230-231.

16. سورة البقرة/ الآيات:261-262.

17. مناقب (ابن شهر آشوب): ج4، ص66.

18. المصدر نفسه: ج4، ص65.

19. عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج3، ص7.

ذات صلة

هل الانتخابات القادمة نزيهة؟مركز آدم ناقش.. حماية حقوق الإنسان من مخاطر المشاريع الإنشائيةفي المراهقة: لا جدال ولا فَرْضمحرقة القرن: غزة جرح في ضمير العالم.. الدم الذي لا يُرىالثقافة مزهرة من بغداد إلى بغداد