هل الاخلاق تتقرر من داخل الانسان ام من خارجه؟
آراء جان جاك روسو
حاتم حميد محسن
2018-08-09 05:42
في بعض الجامعات، عادة ما يحصل بعض التصادم بين الطلاب الليبراليين والمحافظين. الطلاب الليبراليون اعتادوا على منع المحافظين من التحدث في الجامعة مستخدمين كل الوسائل بما في ذلك العنف.
احد التبريرات لدى الليبراليين لهذا السلوك يرتكز على الميول العاطفية. المسؤولون السياسيون المحافظون عادة يستخدمون عبارة "الحقائق التي لديّ لا تهتم بمشاعرك". ما يعنيه المسؤولون بهذه العبارة هي ان استعمال المرء للمشاعر والعواطف كأساس للسياسة والفعل هو اساس زائف. مشاعرنا يمكن ان تكون مضللة، عواطفنا قد تتغلب على عقلانيتنا، والحقيقة لا يهمها ما نشعر به.
التكرار في استخدام فكرة "المشاعر كحقائق" في الخطابات العامة قد يقود المرء للاعتقاد بها كموقف ايديولوجي رسمي. ورغم ان هذه الفكرة لم تُدرّس رسميا، لكن المطّلعين على الاصول الفلسفية والايديولوجية للّيبرالية يعتقدون ان هذه الفكرة اندغمت كأيديولوجية ضمن نسيج الليبرالية.
لكي نفهم متى تصبح المشاعر اساسا للحقائق يجب علينا الاطّلاع على افكار واعمال الفيلسوف الشهير جان جاك روسو. ايديولوجية روسو احتوت على الوضوح والدقة في فرضية اعتبار مشاعر الفرد كأساس للحقائق. نقطة الانطلاق الأكثر اهمية هي ايمان روسو بالصلاح او الخيرية الطبيعية للانسان ومن هذه الخيرية الطبيعية للانسان، تتبع جميع مقدمات روسو واستنتاجاته. أعلن روسو:
"المبدأ الاساسي في جميع الاخلاق، وهو المبدأ الذي فكرت به في جميع كتاباتي والذي طورته بكل وضوح هو ان الانسان كائن خيّر بطبعه، يحب العدالة والنظام، وانه لا يوجد شذوذ أصلي في قلبه، وان اول الحركات في الطبيعة هي دائما خيرة"(1).
الخير الطبيعي للإنسان هو أهم مساهمات روسو للايديولوجية الليبرالية. روسو، كما الليبراليون الذين ساروا خلفه اعتقد ان الانسان هو خيّر بطبعه، نقي ومتسامح، لكن المجتمع هو الذي يفسده. هو جادل بان الانسان خيّر بطبعه وان الناس يصبحون اشراراً فقط بواسطة تلك المؤسسات.(2). شرور العالم لا تأتي من داخلنا وانما تأتي من الخارج عبر المجتمع. لكي نخلق عالما أفضل يجب علينا إصلاح المجتمع. ان شهرة روسو تأتي من روايته الشهيرة Julie or the New Heloise (3). العنصر المثير للانتباه حول هذه الرواية هي ان الشخص الذي يقرأها اليوم لا يستطيع فهم اهميتها الثقافية بدون تعليق اكاديمي حولها. وكما ذكر الفيلسوف ارنست كاسرير Ernst cassirer"اليوم رواية Julie or the New Heloise ككل هي بعيدة عنا، نحن لا نستطيع ان نشعر بتأثير فوري للقوة التي تحركت بها حين هزت القرن الذي عاش فيه روسو". في هذه الرواية استبدل روسو مفاهيم القيود والعقلانية بفكرة المشاعر والعواطف كباعث رئيسي لسلوك الانسان.
وكما قال كاسرير عن الرواية،
"الشعور رُفع الآن فوق "الانطباع" الخانع و الاحساس المجرد... لم يعد يبدو كمقدرة خاصة للذات وانما كمصدر ملائم لها – كقوة اصلية للذات منها تنطلق و تنمو جميع القوى الاخرى".
اعتقد روسو ان المشاعر هي اصل الاخلاق. هو مجّد عواطفه كأساس اخلاقي شرعي وعادل. "روسو حدد مبدأ الخير الاخلاقي بالمشاعر الانسانية الايجابية".. اذا كانت مشاعره تشعر بالخير، عندئذ فالعمل خيّر، ويجب على المرء القيام به. يربط روسو الاخلاق بالتلقائية والعفوية الحرة. ان عقل المجتمع الخيّر لا يتهدد بالحوافز الاولى للانسان التي هي دائما خيرة. الخيرية الطبيعية للإنسان تجعل حوافزنا الاولى اخلاقية، ولذلك نحن يجب متابعتها، عواطفنا ورغباتنا هي بطبيعتها اخلاقية. في عالم روسو، "الاخلاق ذاتها تتطلب من الفرد الاستماع فقط الى قلبه والخضوع بلا جهد لأوامره الراهنة. نحن يجب علينا فقط الاستماع الى قلوبنا بسبب خيريتنا الطبيعية. عندما قال روسو "اولى حركات الطبيعة هي دائما خيرة"، هو يعني ان المرء "يتصرف فقط وفقا لحوافزه وعقله". ان الخيرية الطبيعية للانسان تعني اننا لاننطوي على الميول للشر. هذه الخيرية الطبيعية تجعل افعالنا رقيقة، بشرط اننا نرغب جيدا. وكما قال روسو "انا اهب نفسي الى انطباع اللحظة بدون مقاومة وحتى بدون تردد، لأني متأكد تماما ان قلبي يحب فقط ما هو خير".
حاليا، جرى التوسع في تطبيق معنى المشاعر كأساس للحقائق: الخيرية الطبيعية للانسان تعني ان جميع افعاله ومشاعره وحوافزه هي اخلاقية وعادلة، وهو لهذا يجب ان يتبعها. هذا عمليا يعني ان الشيء الوحيد الذي يهم هو الذي نشعر فيه بالخير في ما نعمل وان تكون نوايانا خالصة. نتائج شعور الفرد واعماله ليست مهمة جدا لروسو واتباعه.
اذا كان المرء ينوي جيدا لكنه لا يعمل جيدا، فان النتائج المؤذية ليست مهمة. يرى روسو" الشخص الشرير هو فقط منْ يريد الشر ويخطط له سلفا. الشخص الشرير وحده سيُعاقب ". اثناء فترات الجنون والفوضى، هناك لحظات من الأعمال المؤذية المقبولة طالما هي لم يُخطط لها سلفا. فقط الشخص الذي يرتكب عمدا عمل الشر سيكون مذنبا: "الانسان يُعاقب فقط على اخطاء رغبته وان الجهل الشديد لا يمكن اعتباره جريمة".. خيرية روسو الطبيعية قصد بها ان نواياه كانت دائما نبيلة، لا اهمية للنتائج. طالما ان خيريته الطبيعية هي المرشد له، فان ثقته الذاتية في افعاله بقيت آمنة: "لايمكن ابدا للفطرة الاخلاقية ان تخدعني". هذه الثقة في صلاحه الاخلاقي حفزت عقيدته بان الشيء اذا كان يجعله سعيدا او يشعر بالخير فهو خيّر. ونفس الشيء يصح على السلبية: اذا جعله الشيء يشعر سيئا فهو سيء. وكما يرى الدكتور كارول بلوم، ان روسو اوضح مرارا ان سعادته اعتمدت على اتحاده مع الخيرية ولذلك، فان اي شيء يجعله غير سعيد يجب ان يكون شرا وزائفا. فطرته اخبرته بانه اذا كان الشيء يجعله يشعر سيئا، فهو يفسد خيريته الطبيعية ولذلك هو غير اخلاقي. ويستمر الدكتور بلوم "مع هذا الاساس الثابت، هو يمكنه الحكم على قيمة الحقيقة في اي ادّعاء... بمعيار مباشر: هي اما تتناغم مع شعوره بالخير او انها تهدده. ثقة روسو في صلاحه الاخلاقي الطبيعي اثبت صحة عقيدته بان احساسه العاطفي هو المقرر الحقيقي للأخلاق.
خيرية روسو الطبيعية كانت هي بوصلته الاخلاقية. هذه البوصلة الاخلاقية وجّهتهُ داخليا نحو شعوره لغرض التقييمات الاخلاقية. هو لم يكن بحاجة للنظر الى الخارج بحثا عن مصدر للأخلاق:
"افعال الوعي ليست احكاما وانما هي مشاعر. ورغم ان جميع افكارنا تأتي من الخارج، لكن المشاعر التي تقيّمها هي في داخلنا، واننا من خلال هذه المشاعر وحدها نملك معرفة بملائمة او عدم ملائمة العلاقات بين انفسنا والاشياء التي يجب ان نبحث عنها او نتجنبها."
يدّعي روسو انه لم تعد هناك ضرورة لكي ينظر كل شخص لأسلافه او لمن يرشده على الاتجاه. من الآن فصاعدا نحتاج فقط النظر الى الداخل ونستشير مشاعرنا.
من بين النقاد الذين انتقدوا روسو علنا هو ادموند بورك Edmund Burke. اعتقد بورك ان ايديولوجية روسو كانت "شكلا آخرا للانسياق وراء مذهب المتعة hedonism".. يفهم بورك ان خط روسو من التفكير "مكّن مذهب المتعة الحديثة من اخفاء ذاته كعقيدة مشابهة للحركات الدينية... انها عرضت دينا شخصيا للخلاص الاجتماعي من خلال الشعور وحده".
"نحن يجب ان نكون بسطاء الى حد سذاجة الاطفال لكي نرى كل الناس فضلاء. الناس في الحياة العامة كما هم في حياتهم الخاصة، البعض خيّر، والبعض الاخر شرير. تمجيد البعض والحط من البعض الاخر هو اول اهداف السياسة الحقيقية (4). اعتقد بورك ان الناس صحيح قادرين على عمل الخير العظيم ولكن هم ايضا قادرون على ارتكاب الشر العظيم. هو أدرك اننا يجب ان نبقى حذرين من الشر المختبئ في عقول البشرية. بورك اعتقد ان التمجيد اللاملائم لعنصر الخيرية في الانسان وتجاهل الشر فيه يدعو الى نتائج خطيرة. "لا آمان هناك للناس الصادقين، ولكن عبر الاعتقاد بكل الشر المحتمل للناس الاشرار، وعبر التصرف بسرعة دون ابطاء واتخاذ القرارات والثبات على تلك العقيدة.
الاعتقاد بالخيرية الطبيعية للانسان يتجاهل امكانية الشر، تاركا الباب مفتوحا لأسوأ الاحتمالات. على عكس روسو، بورك لم يهتم كثيرا بنوايا الفرد وانما اهتم كثيرا بالنتائج: "اولئك الذين لديهم نوايا جيدة يجب ان يخشوا من التصرف السيء". النتائج هي كل ما هو مطلوب، لا يهم كم هي النوايا جيدة. اعتقد بورك ان الحكم على الفرد على اساس النوايا بدلا من النتائج هو في الحقيقة "اسلوب سخيف للحكم". يرى بورك ان الانسان يجب ان ينظر الى الخارج الى اسلافه كمصدر للسلوك والحكمة: " نحن نخشى من ان يُترك الناس يعيشون ويتاجرون بما لديهم من مخزون خاص للعقل، لأننا نشك بان المخزون لدى كل فرد هو صغير وان الافراد سيقومون بما هو افضل لينفعوا انفسهم من البنك العام ورأسمال الامم والأجيال".(5)
بورك يفهم بان التفكير الطبيعي للفرد لن يكون بنفس عمق حكمة الأسلاف التي تُركت له عبر العادات والتقاليد. هو اعتقد ان النظر نحو الداخل كما يشير روسو سوف يقود الى موتنا المفاجئ. بورك يؤمن ان العادات والتقاليد والقانون هي "اختيار مقصود وواعي للأجيال، انها دستور أحسن بعشرة الاف مرة من الخيار، دستور صُنع بظروف معينة، مناسبات، امزجة، ميول وعادات اخلاقية مدنية واجتماعية لأناس كشفوا عن ذواتهم عبر فترات زمنية طويلة.
اعتقد بورك ان عادات المجتمع وتقاليده هي تراكم لعدة اجيال ولذلك هي تحتوي على حكمة ظروف الانسان. "الفرد هو سخيف"، لا فرد يستطيع امتلاك كمية كافية من الحكمة ليستبدل العادات والوصفات والتقاليد.
ان افكار روسو اصبحت المصدر في اعتبار الشعور أساسا للحقائق الليبرالية المعاصرة. الرؤية الواقعية لبورك -المؤسس للفكر المحافظ الحديث- لكلا جانبي طبيعة الانسان تستمر كمرشد لفكر المحافظين الحالي. اذا كان كل من الليبراليين والمحافظين يؤمنون برؤى مختلفة عن طبيعة الانسان، فهم سوف يستمرون في الجدال حول افكار هذين الرجلين.