الاقتصاد التونسي: بين استنزاف العملة وفرص الاستثمار

إيهاب علي النواب

2018-09-06 05:00

يمر الاقتصاد التونسي في أزمة خانقة بدأت مع بدء قبوله لتعويم عملته المحلية استجابة لشروط صندوق النقد الدولي من أجل تمويل الحكومة التونسية لغوض الحصول على التمويل الكافي للقيام بالاصلاحات الاقتصادية، وفي ظل تفاقم العجز التجاري وتراجع المدخرات والاحتياطيات وكذلك قيمة الصادرات مقابل الارتفاع في أسعار المحروقات الذي يرى فيه البعض أنه لن يتوقف فأن الاقتصاد التونسي قد يتعرض لهزة عنيفة تصل لمستوى فقدان الثقة والذعر ولربما قد يدخل في موجة كساد خانقة قد تستمر لفترات طويلة من الزمن.

حيث أعلنت الحكومة التونسية رفع أسعار الوقود بنحو 4% ، من 1.925 دينار إلى 1.985 دينار تونسي لتكون المرة الرابعة التي ترفع فيها الأسعار في 2018 في محاولة لكبح عجز الموازنة والاستجابة لمطالب المقرضين الدوليين بإجراء إصلاحات، وغداة إقالة وزير الطاقة وأربعة مسؤولين كبار في الوزارة لشبهات فساد، وذكرت وزارة الصناعة في بيان إن سعر لتر البنزين سيرتفع من 1.925 دينار إلى 1.985 دينار تونسي، وأفاد مسؤولون إن مخصصات دعم الوقود المتوقعة هذا العام سترتفع من 1.5 مليار دينار إلى 4.3 مليار دينار مع ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، ويضغط صندوق النقد الدولي على تونس لخفض العجز في موازنتها وزيادة أسعار الوقود والكهرباء لتعويض الارتفاع في أسعار النفط ، وكان رئيس الحكومة يوسف الشاهد أقال وزير الطاقة والمدير العام للمحروقات ورئيس شركة الأنشطة البترولية والمدير العام للشؤون القانونية في الوزارة، لشبهات فساد.

وفي العام الماضي، بدأ الشاهد حملة ضد الفساد حيث تم توقيف بعض رجال الأعمال وعدد من المسؤولين من المستوى المتوسط، ولكن هذه هي المرة الأولى التي تشمل الإقالة بشبهة الفساد مسؤولين كبار، وبحسب هيئة مكافحة الفساد المستقلة، فإن الفساد يكلف الدولة خسارة مليارات الدولارات، ولا يزال مستشريا على نطاق واسع في كل قطاعات الدولة بما في ذلك الأمن والصفقات العمومية والصحة والجمارك، وتريد الحكومة تأجيل زيادة رواتب الموظفين في القطاع العام للسنة المقبلة حتى لو تم الاتفاق عليها هذا العام، وذكر المسؤول”بالنسبة للأجور، الوضع صعب والدولة ليس لديها موارد وهي ترى أن تنفيذ زيادات 2018 يجب أن يكون في 2019 لأن الوضع المالي الحالي لا يسمح بصرف أي زيادات هذا العام“، وتحت ضغط المقرضين تريد تونس خفض إجمالي الأجور إلى 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 هبوطا من حوالي 15% حاليا، وهو واحد من أعلى المعدلات في العالم على الرغم من أن رواتب الموظفين في تونس تعتبر هزيلة.

صندوق النقد الدولي يصرف شريحة بقيمة 257 مليون دولار من قرض لتونس

صرح البنك المركزي التونسي إن صندوق النقد الدولي وافق على دفع شريحة بقيمة 257 مليون دولار في إطار برنامج لإقراض لتونس مدته أربع سنوات، والبرنامج البالغ قيمته حوالي 2.8 مليار دولار والذي تم التوصل إليه في 2016، مرتبط بإصلاحات اقتصادية تهدف إلى الإبقاء على عجز الموازنة تحت السيطرة، وانزلقت تونس إلى كساد اقتصادي حاد في أعقاب الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في انتفاضة شعبية في 2011 .

لكن صندوق النقد بين إن الاستمرار في سياسة نقدية متشددة مع مرونة أكبر لسعر الصرف سيساعدان في احتواء التضخم وتحسين القدرة التنافسية وإعادة بناء الاحتياطيات الدولية، وتعارض النقابات العمالية ذات النفوذ بيع الشركات المملوكة للدولة التي تعاني خسائر، وتخفيضات أكبر في الانفاق على الخدمات العامة، والأهم من ذلك، ما إذا كانت تونس ستبيع سندات دولية بمليار دولار العام القادم أم لا، وهناك بعثة لصندوق النقد في تونس منذ نحو أسبوعين لمناقشة كيفية توفير مليار دينار (364.51 مليون دولار) هذا العام نظرا لارتفاع أسعار النفط أكثر مما كان متوقعا.

وكان الصندوق الذي مقره واشنطن غير متشدد في تقديم شرائح القروض إلى تونس، إقرارا منه بالتحول الديمقراطي الذي شهدته البلاد منذ 2011. وامتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على مراجعة قرض في وقت سابق هذا العام، ويباشر الصندوق حاليا مراجعة التقدم الاقتصادي المحقق كل ثلاثة أشهر، وأوقف الاتحاد العام التونسي للشغل ذو النفوذ خططا لبيع شركات حكومية مثل الخطوط التونسية التي يعمل بها ثمانية آلاف موظف لكنها أوقفت تشغيل طائرات لعدم قدرتها على شراء قطع الغيار.

ويبدو إن الخيار الوحيد أمام الحكومة في زيادة الضرائب وخفض الدعم على الوقود ومنتجات أخرى. ورفعت الحكومة أسعار الوقود ثلاث مرات هذا العام، لكن مصدرا قريبا من المحادثات بين إن صندوق النقد يريد تسريع الوتيرة إلى زيادات شبه شهرية ورفع أسعار الكهرباء، ومن المنتظر أن تغادر بعثة صندوق النقد البلاد. وبين مصدر مطلع إنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق في الأسابيع القليلة القادمة، فسيكون من الصعب على الصندوق إعداد مقترح لقرض جديد حتى الاجتماع القادم لمجلسه في نهاية سبتمبر أيلول، وفي غياب تقرير من صندوق النقد يُظهر إحراز تقدم، فربما تضطر تونس لبيع سندات دولية بمليار دولار للمساهمة في تغطية العجز.

من جهة أخرى صرح مسؤول حكومي ان تونس توصلت لاتفاق تمويل بقيمة 1.5 مليار دولار مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة بهدف تمويل واردات شركات في القطاع العام، وأضاف أن القرض الذي يقدم على ثلاث سنوات سيكون مخصصا لتمويل واردات سلعية لهذه الشركات، مثل البنزين والحبوب وسلع أخرى، يذكر أنه قد فشلت تسع حكومات في خفض عجز الميزانية ويحتاج البلد العربي الواقع في شمال أفريقيا إلى قروض خارجية بقيمة ثلاثة مليارات دولار هذا العام.

OCED: على تونس تحسين مناخ الاستثمار

أفادت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن على تونس أن تحسن مناخ الاستثمار لديها وتقلص التعقيدات الإدارية لكي تجذب مزيدا من الاستثمار وتخلق فرص العمل، وبينت المنظمة التي مقرها باريس في أول تقرير لها عن الاقتصاد التونسي إن تونس أحرزت تقدما على عدة أصعدة لكن اللوائح المعقدة والبيروقراطية ونقص الخدمات اللوجستية يعرقل الاستثمار الضروري لتعزيز القطاع الخاص، وذكر التقرير ”استثمارات الشركات تراجعت أكثر من 5 نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي منذ العام 2000 مما ينال من مكاسب الاقتصاد في الإنتاجية وخلق الوظائف والنمو والقدرة التنافسية.“

وأضافت منظمة التعاون الاقتصادي إن تنشيط الاستثمار يستلزم تقليص عدد التراخيص والتصاريح الضرورية للعمل في تونس وكذلك سيطرة الدولة على الأسعار في بعض القطاعات، وتوقعت نمو الاقتصاد 2.8% في 2018، بما ينسجم تقريبا مع تقديرات الحكومة، من جهة أخرى أبلغ وزير تونسي أن تونس تتوقع تسارع النمو الاقتصادي إلى 3.5% في 2019 من 2.9% متوقعة هذا العام بفضل تعافي قطاع السياحة ونمو القطاع الزراعي، وذكر وزير الإصلاحات توفيق الراجحي إن الحكومة تعتزم خفض عجز الميزانية إلى 3.9% من الناتج المحلي الإجمالي في العام القادم من 4.9% في توقعات 2018، وقد بدأ القطاع السياحي المهم يتعافى بعد ثلاث سنوات من هجمات قُتل فيها عشرات الأجانب، وبلغت إيراداته منذ بداية العام وحتى 20 أغسطس آب 2.3 مليار دينار (836 مليون دولار) بزيادة 48% على أساس سنوي.

تغيير الحكومة سيضر اقتصاد تونس ويهز ثقة شركائها

صرح رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد إن تغيير الحكومة سيكون له مخاطر على اقتصاد البلاد المنهك ويهز ثقة شركاء تونس ومقرضيها، رافضا دعوة من رئيس البلاد للتنحي وسط أزمة اقتصادية خانقة، ودعا الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي هذا الشهر رئيس الوزراء للاستقالة من منصبه إذا استمرت الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد، ليسحب بذلك دعمه للشاهد الذي دخل في صراع معلن مع نجل الرئيس، وطالب حافظ قائد السبسي المدير التنفيذي لحزب نداء تونس ونجل الرئيس، بتغيير الحكومة معللا ذلك بفشلها الاقتصادي. ويدعمه في ذلك اتحاد الشغل للنقابات العمالية الذي يتمتع بنفوذ قوي، بينما يرفض حزب النهضة الإسلامي تغيير رئيس الحكومة ويدعو إلى تعديل جزئي حفاظا على الاستقرار السياسي في مرحلة تحتاج فيها البلاد لإصلاحات اقتصادية جريئة يطالب بها المقرضون الدوليون.

واتهم الشاهد، الذي عينه السبسي في 2016، نجل الرئيس بتدمير حزب نداء تونس وبين إن الأزمة في الحزب أثرت على مؤسسات الدولة، وفي أول رد على مطالب التنحي صرح الشاهد إن الحديث عن تغيير الحكومة سيكون له مخاطر على الاقتصاد التونسي وعلى التزامات الدولة وأولوياتها، لكنه شدد على أنه منفتح على الخروج من الأزمة بما في ذلك الذهاب إلى البرلمان لنيل الثقة، وأضاف أن تغيير الحكومة سيهز ثقة شركاء تونس الدوليين، وأضاف الشاهد إن حكومته لها أولويات من بينها مفاوضات اجتماعية مع النقابات ومفاوضات مع صندوق النقد الدولي بالإضافة إلى الذهاب إلى السوق الدولية وإعداد قانون المالية للعام 2019، كما إن الحكومة تخطط لخفض العجز في ميزانيتها العام القادم إلى 3.9% من 4.9% هذا العام، مع توقعات بتحسن نسبي في المالية العامة بفضل زيادة في إيرادات السياحة، وأبلغ الشاهد أن البيانات الاقتصادية ستبدأ بالتحسن بحلول نهاية العام الحالي وأن حكومته تخطط لخفض العجز في الميزانية ”إلى 3.9 بالمئة فقط للمرة الأولى بعد ثورة 2011“، ويتعين على الشاهد أيضا أن يتغلب على مشكلة تهريب المهاجرين. وينقل مهربو المهاجرون عملياتهم على نحو متزايد إلى تونس منذ حملة شنها خفر السواحل في ليبيا المجاورة.

محافظ المركزي يتعهد "باجراءات استثنائية" والتضخم يصل لأعلى مستوى في 20 عاما

وافق البرلمان التونسي على تعيين مروان العباسي، المسؤول السابق بالبنك الدولي، محافظا جديدا للبنك المركزي بعد يوم من استقالة المحافظ السابق الشاذلي العياري، وتعهد العباسي ”بإجراءات استثنائية“ لمواجهة مؤشرات اقتصادية وصفها بأنها ”مخيفة“، ويتسلم العباسي المنصب في وقت تواجه فيه تونس تحديات اقتصادية عميقة، بما في ذلك ارتفاع العجز التجاري والتضخم وانخفاض قيمة الدينار التونسي إلى مستويات قياسية إضافة إلى ارتفاع مستمر في معدلات البطالة، وأوضح العباسي في كلمة سبقت التصويت ”الحقيقة أن المؤشرات الاقتصادية مخيفة.. لكني لا اؤمن أن هناك أزمة لا تحل.. وفي الفترة الحالية نعيش ظرفا خارقا للعادة ويتعين مواجهته باجراءات خارقة للعادة ويجب أن نقطع مع الحلول التقليدية ونتجه لحلول استثنائية“.

وجاء تحرك رئيس الوزراء يوسف الشاهد لإبدال المحافظ السابق الشاذلي العياري مع هبوط احتياطيات البلاد من العملة الأجنبية إلى مستويات تغطي الواردات لنحو 84 يوما فقط، وهو أدنى مستوى لها في 15 عاما، وبين محافظ البنك المركزي الجديد إن أولوياته ستكون مواجهة معدلات التضخم ووقف هبوط حاد في العملة المحلية، وأضاف إن الأولويات ستكون مواجهة نسب التضخم المقلقة التي قد تصل إلى 10% إذا لم نتحرك وكذلك تنامي العجز التجاري والعجز في الحساب الجاري إضافة إلى محاربة السوق الموازية لتقوية الدينار التونسي.

في ظل ذلك أفاد مكتب الإحصاء إن معدل التضخم السنوي في تونس ارتفع إلى 6.9% في يناير كانون الثاني، وهو أعلى مستوى في 20 عاما، من 6.4% في ديسمبر كانون الأول، ورفعت الحكومة أسعار بعض السلع وفرضت ضرائب جديدة في أول يناير كانون الثاني في إطار إجراءات تقشفية تهدف إلى خفض عجز الميزانية. وأثارت تلك الإجراءات احتجاجات عنيفة استمرت بضعة أيام قبل أن تنحسر، ورفع البنك المركزي سعر الفائدة الرئيسي من 4.75% إلى 5.00% في مايو أيار الماضي مع محاولته وقف هبوط في العملة المحلية (الدينار) التي سجلت مستويات تاريخية منخفضة مقابل اليورو والدولار الأمريكي، وذكرت مصادر مالية إن من المرجح أن يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة مجددا في الشهرين القادمين لكبح التضخم.

كما أظهرت بيانات البنك المركزي التونسي أن احتياطي البلاد من العملة الأجنبية واصل هبوطه إلى مستويات حرجة لا تكفي إلا واردات 84 يوما للمرة الأولى منذ 2003، وكشفت البيانات أن الاحتياطي بلغ 11.887 مليار دينار (4.98 مليار دولار) في الخامس من فبراير شباط، بما يكفي لتلبية واردات 84 يوما مقارنة مع 101 يوم في الفترة نفسها من العام الماضي، ويذكر محللون إن هذا المستوى الحرج للاحتياطي يهدد قدرة البلد على تسديد ديونه واستيراد بعض المواد مثل الطاقة والأدوية والغذاء، ويأتي تآكل احتياطي تونس من العملة الأجنبية بسبب تنامي العجز التجاري وتراجع عائدات السياحة نسبيا مطلع العام الحالي.

ان في ظل هكذا ظروف قاهرة، يرى البعض ان ثمة لايزال امل في تدارك الأمر في تونس، فعلى الرغم من تراجع المدخرات والانحدار في قيمة العملة وكذلك التضخم الذي بدأ ينهش في قوة الدينار التونسي، الا إن أمام الحكومة حلول كثيرة، تبدأ من تعبئة المدخرات من جديد من خلال تشجيع الاستثمار المحلي عبر بوابة الاقراض، وكذلك تنشيط نافذة الاستثمار الاجنبي لسد النقص الحاصل في السلع سيما الاستهلاكية والاستثمارية وعبر القيام بسياسات نقدية تتسم بالمرونة والديناميكية، الا ان كل هذا هذا يجب أن يترافق مع ستراتيجية تتمثل الترشيد في الانفاق والاستهلاك قد يطول جني ثمارها في الوقت الحالي، وبالتالي لأبد من الصبر حتى تبدأ الاثار السيئة بالزوال، الا ان مايخشى منه هو أن تقع تونس في فخ أزمة الديون التي لن تكون قادرة على سدادها وبالتالي اضمحلال فرص نجاة الاقتصاد التونسي.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي