النفط والاقتصاد العراقي بين التقلبات العالمية والمستقبل المجهول

أحمد عبد صالح عطية

2024-09-23 07:46

يحتل النفط في الوقت الحاضر مكانة مهمة محلياً وعالمياً نظراً لاعتماد الاقتصاد الوطني والعالمي عليه بشكل كبير جداً.

 وبحكم التوجهات العالمية نحو بدائل النفط بالتزامن مع استمرار الاعتماد على النفط وطنياً الى جانب عدم بناء اقتصاد حقيقي مستدام مما سيجعل الاقتصاد العراقي في موقف لا يُحسد عليه.

 حيث يشكل النفط العمود الفقري للاقتصاد العراقي إذ يعتمد بشكل كبير على إيراداته لتمويل الموازنة العامة، ومع ذلك تؤدي تقلبات أسعار النفط العالمية إلى زعزعة استقرار الاقتصاد مما يخلق تحديات كبيرة تتعلق بالبطالة، والاستقرار النقدي، والدين العام.

 إذ في ظل غياب التنويع الاقتصادي يواجه العراق مستقبلاً مجهولاً مع تفاقم الاعتماد على النفط مما يهدد قدرته على تحقيق استدامة اقتصادية طويلة الأمد.

يُعَدُّ النفط الخام عصب الاقتصاد العراقي حيث يعتمد العراق بشكل كبير على صادراته النفطية لتمويل الموازنة العامة وتغطية النفقات الحكومية، بما في ذلك دفع الرواتب وتمويل المشاريع التنموية والبنية التحتية، إذ يعد مصدرا رئيسيا للإيرادات الحكومية والتي تشكل أكثر من 90% من الإيرادات العامة في العراق ما يجعله المصدر الأساسي لتغطية الإنفاق الحكومي إذ بدون هذه الإيرادات سيواجه العراق صعوبة كبيرة في تمويل المشاريع الخدمية والتنموية والبرامج الاجتماعية.

 كما أنه مصدر لتمويل الخدمات العامة إذ تعتمد الحكومة العراقية على إيرادات النفط في تمويل مجموعة واسعة من الخدمات العامة مثل (التعليم، الصحة، الأمن، والبنية التحتية... وغيرها) وبالتالي فأن أي تقلبات في أسعار النفط تؤثر بشكل مباشرة على قدرة الحكومة على تقديم هذه الخدمات.

 كذلك يعد النفط الخام مصدراً مهماً لتكوين الاحتياطيات الأجنبية إذ بفضل صادرات النفط الخام تمكن العراق من تكوين احتياطيات نقدية أجنبية تعزز من استقراره المالي وتساعد في الحفاظ على استقرار سعر صرف الدينار العراقي الا أن انخفاض أسعار النفط يهدد هذه الاحتياطيات، مما قد يؤدي إلى ضغوط على العملة المحلية.

اضافة لذلك، انه يساهم في تحقيق التوازن في التجارة الدولية إذ أن صادرات النفط تمثل النسبة الكبرى من عائدات العراق من العملة الأجنبية ما يساعد في تحقيق التوازن بين الواردات والصادرات وبدون النفط ستتدهور القدرة على تمويل الواردات وهو ما قد يؤثر سلباً على الاقتصاد الداخلي.

 فضلاً عن أهميته في تقديم الدعم للقطاع العام إذ أن إيرادات النفط تموّل الغالبية العظمى من مشاريع البنية التحتية الكبيرة مثل (بناء الطرق، الجسور، والمدن الجديدة) هذا يدفع عجلة النمو الاقتصادي في قطاعات أخرى مثل الإنشاءات والخدمات.

 كما يسهم في مجال التوظيف وتوفير فرص العمل إذ أن أكثر من نصف القوة العاملة في العراق تعمل في القطاع العام الذي يعتمد بشكل كبير على الإيرادات النفطية لدفع الرواتب وبالتالي فأن أي انخفاض في أسعار النفط قد يؤدي إلى تراجع القدرة الحكومية على التوظيف ودفع الرواتب مما يزيد من معدلات البطالة والفقر. 

كذلك يعتبر النفط عاملاً حاسماً في تمويل برامج الرعاية الاجتماعية التي تستفيد منها شريحة واسعة من السكان مثل تقديم الدعم للفقراء وتوفير المواد الأساسية بأسعار مدعومة وأي تقلب في الإيرادات النفطية يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية بسبب ضعف قدرة الحكومة على تقديم هذه الخدمات.

 ويسهم ايضاً في تحقيق الاستقرار السياسي إذ أن الإيرادات النفطية تلعب دوراً مهماً في تمويل الأمن والدفاع مما يساهم في الحفاظ على استقرار البلاد في ظل الأزمات الأمنية المستمرة في العراق يمثل النفط مصدراً حيوياً لتمويل العمليات الأمنية والعسكرية.

أسباب تراجع أسعار النفط العالمية:

إن انخفاض أسعار النفط يمثل ظاهرة معقدة تتأثر بعدة عوامل متشابكة بعضها اقتصادي والبعض الآخر جيوسياسي وتقني سنقوم بتفصيل الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى انخفاض أسعار النفط وتوضيح كيفية تفاعل هذه العوامل لتؤثر على الأسواق العالمية وكالآتي:

- زيادة الإنتاج العالمي بفعل تأثير العرض والطلب، حيث أن أسعار النفط تعتمد على التوازن بين العرض والطلب فعندما يرتفع إنتاج النفط دون أن يقابله زيادة مماثلة في الطلب فإن السوق يشهد فائضًا في المعروض يؤدي هذا الفائض إلى انخفاض الأسعار حيث تصبح الشركات المنتجة مضطرة لتخفيض الأسعار لتفادي تكدس النفط غير المباع.

- التغيرات في الطلب العالمي، فالتغيرات في الطلب العالمي على النفط الخام تؤدي إلى التباطؤ الاقتصادي إذ عندما يشهد الاقتصاد العالمي تباطؤًا في النمو يتراجع الطلب على الطاقة بما في ذلك النفط القطاعات الصناعية والنقل والبناء تعتمد بشكل كبير على النفط، وعندما ينخفض النشاط الاقتصادي في هذه القطاعات، ينخفض الطلب على النفط ومن أمثلة ذلك: الصين باعتبارها أكبر مستهلك للطاقة في العالم تؤثر أي تقلبات اقتصادية في الصين بشكل مباشر على الطلب العالمي للنفط في حالة تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني ينخفض الطلب مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار.

- كذلك الركود الاقتصادي، إذ أن حالات الركود في الاقتصادات الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة تؤدي إلى تراجع الطلب على النفط، مما ينعكس على الأسعار العالمية.

- كذلك فإن للتغيرات في أنماط استهلاك الطاقة أثر كبير على انخفاض اسعار النفط من خلال استخدام الطاقة بكفاءة إذ أن تقدم التكنولوجيا جعل العديد من الصناعات والمستهلكين أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة على سبيل المثال، السيارات الكهربائية والسيارات التي تعمل بكفاءة عالية تقلل من الاعتماد على النفط فضلاً عن تغير سلوك المستهلكين إلى التوجه نحو العمل عن بُعد وتقليل السفر نتيجة للأوبئة أو تغيرات في العادات الاستهلاكية يقلل من الطلب على الوقود النفطي.

- التطورات الجيوسياسية، للتطورات الجيوسياسية أثر في انخفاض أسعار النفط العالمية إذ أن النزاعات الإقليمية والدولية كالعقوبات المفروضة على دول منتجة للنفط مثل إيران وفنزويلا يمكن أن تؤدي إلى تغييرات في الإنتاج العالمي في بعض الحالات إذ تؤدي العقوبات إلى تقليص العرض ولكن في حالات أخرى قد تسعى الدول المحاصرة لزيادة الإنتاج بطريقة غير رسمية لتعويض خسائرها، مما يسبب اضطرابًا في السوق.

- التوترات العسكرية، كالنزاعات في مناطق إنتاج النفط الرئيسية مثل الشرق الأوسط تؤدي عادة إلى زيادة في أسعار النفط نتيجة المخاوف من تعطل الإنتاج ولكن عندما تستقر هذه الأوضاع أو تحل النزاعات يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدفق كميات إضافية من النفط في السوق مما يخفض الأسعار، وكذلك التغيرات في السياسة الدولية للطاقة فاتخإذ قرارات دولية مثل انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقات مناخية أو قرارات دولية حول تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري يمكن أن تؤثر على الطلب والعرض، على سبيل المثال القرارات الأمريكية بزيادة إنتاج النفط أو فرض قيود على الواردات من دول أخرى يمكن أن تساهم في تغير الأسعار.

- سياسات الطاقة البديلة، فالتحول إلى الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية والرياح التي لجأت اليها الدول المتقدمة وخاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تستثمر بكثافة في الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح، هذا التحول يقلل من الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للطاقة وبالتالي يقل الطلب عليه تدريجيًا، فضلاً عن السياسات البيئية أي الاتجاه نحو الحد من انبعاثات الكربون وتبني سياسات بيئية صارمة يضع ضغوطاً على صناعة النفط حيث تحاول الحكومات والمستهلكون التحول نحو بدائل أقل تلويثًا وأكثر استدامة، وكذلك الانتشار المتزايد وخاصة في الدول المتقدمة لوسائل النقل البديل فالانتشار المتزايد للسيارات الكهربائية والابتكارات في هذا القطاع يقلل من استهلاك النفط في قطاع النقل وهو أحد أكبر القطاعات استهلاكاً للوقود النفطي مع تزايد استثمارات الشركات الكبرى مثل "تسلا" و"جنرال موتورز" في السيارات الكهربائية يتوقع أن يستمر تراجع الطلب على النفط من هذا القطاع.

وما يهمنا هنا التركيز على الآثار التي يتركها انخفاض أسعار النفط على الاقتصاد العراقي وخاصة في ظل عدم التنويع الاقتصادي...

- العجز في الموازنة العامة للدولة، حيث يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى تراجع الإيرادات الحكومية وخاصة النفطية إذ يعتمد العراق على النفط لتأمين أكثر من 90% من إيراداته العامة وعند انخفاض أسعار النفط تنخفض الإيرادات النفطية مما يؤدي إلى زيادة العجز المالي، فضلاً عن الضغط على الإنفاق العام إذ يؤدي العجز إلى تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة والمشاريع التنموية والرواتب وهو ما يؤثر سلبًا على القدرة الشرائية والاقتصادية العامة.

- تقلبات سعر الصرف، يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى انخفاض الطلب على الدينار العراقي بسبب انخفاض الإيرادات من النفط (العملة الصعبة) ما يسبب تراجعًا في قيمته مقابل الدولار والعملات الأجنبية الاخرى، فضلاً عن ارتفاع تكلفة الواردات إذ مع ضعف الدينار ترتفع تكلفة استيراد السلع مما يؤدي إلى زيادة التضخم وارتفاع أسعار المنتجات الأساسية.

- زيادة معدل البطالة، يعتمد عدد كبير من العراقيين على المشاريع الحكومية والإنفاق العام كمصدر اساسي للدخل إذ مع انخفاض الإيرادات النفطية تتقلص فرص العمل في القطاع العام والمشاريع الممولة حكوميًا ما يزيد من معدلات البطالة.

- تفاقم الدين العام الحكومي، أن زيادة الاقتراض (الداخلي والخارجي) نتيجة لانخفاض إيرادات النفط وتفاقم العجز المالي تضطر الحكومة إلى اللجوء للاقتراض المحلي والدولي لتمويل نفقاتها مما يزيد من مستويات الدين العام هذا يؤدي إلى تحميل الدولة أعباء إضافية تتعلق بخدمة الدين والفوائد المرتفعة، فضلاً عن الضغوط المستقبلية إذ كلما زاد الدين العام زادت القيود على قدرة الحكومة على الاستثمار في البنية التحتية والمشاريع التنموية مما يحد من إمكانيات النمو المستقبلي.

- ارتفاع معدل التضخم، أن انخفاض قيمة العملة وزيادة تكلفة الواردات مع تراجع الدعم الحكومي للسلع الأساسية بسبب العجز المالي يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات في الأسواق مما يرفع معدلات التضخم.

- عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، يؤدي التراجع في مستوى الخدمات العامة وارتفاع معدلات البطالة والتضخم إلى تفاقم الغضب الشعبي مما يزيد من احتمالية الاحتجاجات الشعبية (التظاهرات) وعدم الاستقرار السياسي، فضلاً عن تفاقم الفساد إذ في ظل الأزمات المالية قد تتزايد حالات الفساد وسوء إدارة الأموال العامة بسبب الضغوط المالية مما يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي.

حلول واجراءات 

 ولمواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه الاقتصاد العراقي والمتمثلة بتقلبات أسعار النفط العالمية والتي تؤثر بشكل مباشر على الإيرادات الحكومية والاستقرار الاقتصادي، مع الاعتماد الكبير على النفط كمصدر رئيسي للدخل إذ يشكل انخفاض أسعاره خطرًا كبيرًا على التوازن المالي والاقتصادي، لذلك يصبح من الضروري التفكير في حلول وإجراءات فعالة لمواجهة هذا التحدي وضمان استدامة الاقتصاد العراقي في المستقبل أي العمل على:

اولاً: العمل على تنويع الاقتصاد، من خلال التركيز على الاستثمار في القطاعات غير النفطية مثل قطاعات (الزراعة، الصناعة، السياحة، والطاقة المتجددة) لتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات العامة.

ثانياً: إصلاح النظام الضريبي، وتوسيع القاعدة الضريبية لتعزيز تحصيل الضرائب من قطاعات الاقتصاد غير النفطي وزيادة الالتزام الضريبي عبر تحسين إدارة النظام الضريبي ومكافحة التهرب الضريبي.

ثالثاً: تحسين البنية التحتية، من خلال توجيه الموارد المتاحة نحو تحسين البنية التحتية الأساسية مثل (النقل، الكهرباء، المياه، والتعليم والصحة) مما يعزز البيئة الاستثمارية ويشجع على النمو الاقتصادي المستدام.

رابعاً: مكافحة الفساد المالي والاداري وتعزيز الحوكمة أن تحسين الشفافية والإدارة من خلال تطبيق أنظمة رقابة فعالة لمكافحة الفساد وتحسين كفاءة إدارة الموارد العامة يساهم في توجيه الأموال نحو مشاريع تنموية حقيقية.

خامساً: تعزيز الاستثمار في التعليم والتدريب من خلال تطوير رأس المال البشري فالاستثمار في التعليم والتدريب المهني لتأهيل العمالة وتطوير مهاراتهم بما يتماشى مع احتياجات السوق الحديثة يساهم في تنويع الاقتصاد وزيادة الإنتاجية والعمل على توجيه التعليم نحو القطاعات الناشئة وتطوير برامج تعليمية تستهدف القطاعات الناشئة مثل التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، والصناعة التحويلية.

سادساً: العمل على إصلاح السياسة النقدية لتثبيت سعر صرف الدينار العراقي من خلال تحسين الاحتياطات النقدية وإدارة السياسات النقدية بطريقة تحافظ على استقرار العملة وتحد من التضخم.

سابعاً: التحول إلى الطاقة المتجددة من خلال تعزيز الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية، الرياح، الطاقة المائية) لتقليل الاعتماد على النفط وتوفير مصادر دخل جديدة ومستدامة.

ثامناً: إدارة الدين العام (الداخلي والخارجي) بكفاءة كون أن إدارة الديون العامة بشكل فعال من خلال إعادة هيكلة الديون وتوجيه التمويل نحو المشاريع التنموية تساهم في تحقيق النمو الاقتصادي وكذلك تقليل الاقتراض غير الضروري وتحديد أولويات الاقتراض والابتعاد عن الديون التي لا تسهم في تنمية القطاعات الاقتصادية المستدامة.

تاسعاً: تعزيز الاستقرار السياسي في العراق لضمان استقرار الأوضاع السياسية من خلال إدارة الأزمات بشكل فعال والعمل على تقليل التوترات الداخلية التي قد تعيق النمو الاقتصادي ودعم الحوار الوطني الذي يهدف إلى تحقيق توافق بين القوى السياسية والمجتمعية بما يساهم في استقرار البيئة الاقتصادية والسياسية.

عاشراً: تنفيذ إصلاحات هيكلية طويلة الأمد أن تنفيذ إصلاحات هيكلية في القطاعات الحكومية مثل القضاء، الاقتصاد، والإدارة العامة لتحسين كفاءة الأداء وزيادة الإنتاجية وتحقيق الاستدامة المالية من خلال تطبيق سياسات مالية مستدامة تضمن تحقيق توازن بين الإيرادات والنفقات وتحافظ على الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل.

خلاصة القول، لابد من التركيز على الإصلاحات الاقتصادية والسياسات المستدامة لضمان مستقبل اقتصادي أكثر استقراراً والدعوة إلى ضرورة التنويع وضرورة استثمار الإيرادات النفطية في تطوير قطاعات أخرى لتجنب الأزمات المستقبلية، وبالتالي إذا ما اراد العراق التغلب على هذه التحديات ومواجهة تقلبات اسعار النفط قبل فوات الأوان وحلول الكارثة.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2024

www.fcdrs.com

ذات صلة

دعْ الغضب وابنِ الحياةالاقتصاد العراقي.. آثار الماضي وتحديات المستقبلالحرب تخرج من مربع الإسناد إلى الحساب المفتوحالديمقراطية المستقرةانتخابات دار لقمان