محاكاة أمريكا للصين تتطلب وضع قواعد جديدة

بروجيكت سنديكيت

2024-02-14 09:19

بقلم: داني رودريك

كامبريدج- يرى الكثيرون أن التوترات بين الولايات المتحدة والصين نتيجة حتمية للخلافات الصارخة بين البلدين. إذ يُعد اقتصاد السوق في الولايات المتحدة رأسماليا على نحو كامل، في حين تُحكِم الحكومة الصينية قبضتها على الاقتصاد. ومع أن الولايات المتحدة تعاني من نقائص، إلا أنها دولة ديمقراطية، في حين أن الصين قائمة على نظام الحزب الواحد الذي لا يتحمل أي تحدٍ سياسي. ومع أن الولايات المتحدة تظل الدولة الأقوى في العالم، فإن قوة الصين الاقتصادية والجيوسياسية المتنامية تهدد الهيمنة الأميركية.

ومع أن كل هذه المعلومات صحيحة، إلا أن العديد من الصراعات بين الولايات المتحدة والصين تنبع من القواسم المشتركة المتزايدة بينهما. فقد تراجعت أميركا نسبيا مما زاد من شعورها بعدم الأمان، فانتهجت سياسات اقتصادية وسياسات أمنية وطنية تذكرنا باستراتيجية الصين التي دامت لعقود من الزمن، والتي كانت تتمثل في إعطاء الأولوية لقوة الاقتصاد الوطني والتجديد على حساب متطلبات الاقتصاد العالمي "الليبرالي" المنفتح. ومن المفارقات هنا أنه بينما الولايات المتحدة تحاكي الاستراتيجيات التي استفادت منها الصين جيدا، بدأت التوترات في العلاقات الثنائية تتضاعف.

ومع أن الصين تحولت نحو الأسواق بعد عام 1978 وحررت اقتصادها بدرجة كبيرة، إلا أن سياسات الحزب الشيوعي الصيني أظهرت أكثر من مجرد السعي نحو تحقيق النمو الاقتصادي. لقد كانت جزءًا من مشروع وطني للتجديد يهدف إلى إعادة تأسيس الصين لتحويلها إلى قوة كبرى. لذا، شاركت الصين في لعبة العولمة وفقاً لقواعدها الخاصة، فعملت على حماية صناعاتها الخاصة والترويج لها، في حين كانت تستفيد من الأسواق الخارجية. ولم تخجل الدولة قط من التدخل لدعم ما اعتبرته صناعات استراتيجية (سواء من وجهة نظر تجارية أو أمنية وطنية).

وذات مرة، سمعت أحد صانعي السياسات الصينيين يتحدث عن هذه الاستراتيجية قائلا بأنها تشبه "فتح النافذة لكن مع وضع ستار عليها". إذ سيحصل الاقتصاد الصيني على الهواء النقي -التكنولوجيات الخارجية، والقدرة على الوصول إلى الأسواق العالمية، والمدخلات الحيوية- ولكنه سوف يمنع دخول العناصر الضارة مثل تدفقات رأس المال القصيرة الأجل المزعزعة للاستقرار، أو المنافسة المفرطة التي قد تضر بقدراته الصناعية الناشئة، أو القيود المفروضة على قدرات الحكومة الصينية على إدارة السياسة الصناعية.

لقد كان النمو الاقتصادي الهائل الذي حققته الصين في النهاية نعمة عظيمة للاقتصاد العالمي؛ حيث أدى إلى خلق سوق كبرى لشركات ومستثمري من بلدان أخرى. وفضلا على ذلك، ساهمت سياساتها الصناعية الخضراء إلى حد بعيد في التحول العالمي إلى الطاقة المنخفضة الكربون، عن طريق خفض أسعار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

ومن الطبيعي أن تشتكي دول أخرى من ممارسات الصين التدخلية والتجارية. وأكثرها تأثيرا التوسع السريع للصادرات الصينية- أو ما يسمى بـ"صدمة الصين"ـ الذي أدى أحدث دمارا اقتصاديا واجتماعيا في مجتمعات التصنيع المتضررة بشدة، والمناطق المتخلفة في الاقتصادات الغربية، مما خلق، في نهاية المطاف، أرضا خصبة لصعود الشعبويين الاستبداديين اليمينيين، مثل دونالد ترامب. ولكن ما دامت سياسات الاقتصادات المتقدمة تقوم على منطق استهلاكي وأصولية السوق، فإن هذه التأثيرات لم تتسبب في ضغوط هائلة على العلاقات مع الصين.

وعلى النقيض من ذلك، رأت العديد من النخب الفكرية والسياسية أن النهج الغربي والصيني في التعامل مع الاقتصاد متكاملان ويدعم كل منهما الآخر. إذ صاغ المؤرخان نيال فيرغسون، وموريتز شولاريك مصطلح ("Chinamerica" تشايناميريكا) لوصف العلاقة التكافلية الواضحة التي بموجبها تدعم الصين صناعاتها، وتستمتع الدول الغربية بالسلع المنخفضة السعر التي ترسلها لها الصين. وطوال الفترة التي ظل فيها هذا المفهوم سائدا في الدول الغربية، لم يحظ عمال ومجتمعات هذه البلدان الذين تضرروا منه بالدعم أو بالتعاطف؛ بل طُلب منهم إعادة التدريب والانتقال إلى مناطق ذات فرص أفضل.

ولكن الوضع لم يكن مستداما، وأصبحت المشاكل التي يفرضها اختفاء الوظائف الجيدة، واتساع الفوارق الإقليمية، وزيادة الاعتماد الأجنبي على الصناعات ذات الأهمية الاستراتيجية أكبر من أن نتجاهلها. وبدأ صانعو السياسات في الولايات المتحدة يولون المزيد من الاهتمام للجانب الإنتاجي من الاقتصاد، أولا في ظل إدارة ترامب، وبمنهجية أكبر في عهد جو بايدن، الذي اعتمدت إدارته مجموعة مختلفة من الأولويات التي تفضل الطبقة المتوسطة، ومرونة سلسلة التوريد، والاستثمار الأخضر.

وترتكز الاستراتيجية الجديدة على سياسات صناعية لا تختلف كثيرا عن تلك التي طالما مارستها الصين. وتحظى التكنولوجيات الجديدة وأنشطة التصنيع المتقدمة بالدعم، شأنها في ذلك شأن التكنولوجيات المتجددة والصناعات النظيفة. ويحظى الموردون المحليون والمنتوج المحلي بالتشجيع، في حين يعاني المنتجون الأجانب من التمييز. وتخضع استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة لتدقيق شديد. وبموجب مبدأ "سياج مرتفع حول ساحة صغيرة"، تسعى الولايات المتحدة إلى تقييد قدرة الصين على الوصول إلى التكنولوجيات التي تعتبر بالغة الأهمية للأمن القومي.

وإذا نجحت هذه السياسات في إنتاج مجتمع أميركي يتمتع بقدر أكبر من الازدهار والتماسك والأمان، فإن باقي مجتمعات العالم سوف تستفيد منها أيضاً- تماماً كما أفادت السياسات الصناعية الصينية الشركاء التجاريين عن طريق توسيع نطاق السوق الصينية، وخفض أسعار مصادر الطاقة المتجددة. إذن، هذا يعني أن هذه السياسات والأولويات الجديدة لا تستلزم صراعا متزايد العمق بين الولايات المتحدة والصين؛ ولكنها تتطلب مجموعة جديدة من القواعد التي تحكم العلاقة بينهما.

ومن الجيد أن يبدأ الجانبان بالابتعاد عن النفاق والاعتراف بالتشابه بين أساليبهما. فالولايات المتحدة لازالت تنتقد الصين بدعوى أنها تنتهج سياسات تجارية وحمائية وتنتهك قواعد النظام الدولي "الليبرالي"، في حين يتهم صانعو السياسات في الصين الولايات المتحدة بتخليها عن مبادئ العولمة وشن حرب اقتصادية على الصين. ويبدو أن أياً من الجانبين لا يدرك هذه المفارقة: فقد وضعت الصين ستارا على نافذتها المفتوحة؛ وتضع الولايات المتحدة سياجا عاليا حول ساحة صغيرة.

وتتلخص الخطوة المهمة الثانية في السعي إلى تحقيق قدر أكبر من النزاهة والتواصل على نحو أفضل فيما يتعلق بأهداف السياسات. وفي اقتصاد عالمي مترابط، لابد أن تؤثر العديد من السياسات التي تستهدف الرفاه الاقتصادي الوطني، والأولويات الاجتماعية والبيئية المحلية، سلباً على الآخرين. وعندما تنخرط البلدان في سياسات صناعية لإصلاح إخفاقات كبيرة في السوق، يتعين على شركائها التجاريين أن يكونوا متساهلين ومتفهمين. ولابد من تمييز مثل هذه التدابير عن تلك التي تهدف صراحة إلى إفقار الجار (بمعنى أنها تولد فوائد على المستوى المحلي تحديدا لأنها تلحق الضرر بالآخرين).

ثالثا، من الضروري ضمان حسن توجيه سياسات الأمن القومي التقييدية نحو الأهداف المحددة. وتصف الولايات المتحدة ضوابط التصدير بأنها تدابير "مصممة بعناية" تستهدف "شريحة ضيقة" من التكنولوجيات المتقدمة التي تثير مخاوف "واضحة" تتعلق بالأمن القومي. إن هذه القيود التي أُعلن عنها ذاتيا تستحق الثناء، ولكن هناك تساؤلات عما إذا كانت السياسة الفعلية المتعلقة بأشباه الموصلات تناسب هذا الوصف، وعن الشكل الذي قد تبدو عليه التدابير الإضافية. وفضلا على ذلك، غالبا ما تُعَرف الولايات المتحدة أمنها القومي بمصطلحات شاملة على نحو مبالغ فيه.

وسوف تستمر الولايات المتحدة في وضع مخاوفها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتلك المتعلقة بالأمن القومي في المقام الأول، ولن تتخلى الصين عن نموذجها الاقتصادي الذي تقوده الدولة. فالتعاون لن يكون هو النظام السائد اليوم. ولكن الأمر قد يصبح أسهل بعض الشيء إذا أدرك كل من البلدين أن سياساتهما لا تختلف كثيرا ولا تضر بالضرورة الجانب الآخر.

* داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بكلية جون إف كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، ورئيس الرابطة الاقتصادية الدولية ومؤلف كتاب (حديث صريح عن التجارة: أفكار لاقتصاد عالمي عاقل)
https://www.project-syndicate.org

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا