وداعا للنقود

بروجيكت سنديكيت

2023-12-13 06:38

بقلم: ويليام إتش بويتر

نيويورك ــ صَـرَّحَ كل من البنك المركزي الأوروبي وبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بأنه لا يعتزم إلغاء النقود المادية إذا أصدر، أو عندما يصدر، عملة رقمية تابعة للبنك المركزي (CBDC). وتَـسوق ملخصات سياسية صادرة مؤخرا عن البنك المركزي الأوروبي ولجنة بريتون وودز الحجج ضد دفع فائدة (إيجابية أو سلبية) على العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية. ينبغي لصناع السياسات أن يعيدوا النظر في كلا الموقفين. فهناك من الأسباب الوجيهة ما يحملنا ليس فقط على دعم التعجيل بإصدار عملات رقمية تابعة للبنوك المركزية، بل وأيضا دفع الفائدة عليها وإلغاء النقود.

كانت الولايات المتحدة متخلفة في ما يتصل بالعملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي. وفقا لمتتبع العملات الرقمية للبنوك المركزية التابع للمجلس الأطلسي، فقد أُطلِـقَـت بالفعل عملات رقمية تابعة لبنوك مركزية بشكل كامل في 11 منطقة عملة، جميعها من الاقتصادات النامية واقتصادات الأسواق الناشئة، وتستكشف 100 دولة أخرى الفكرة. تبنت مناطق العملة هذه حجتين شائعتين لصالح العملة الرقمية التابعة للبنوك المركزية: فهي قادرة على تعزيز الشمول المالي وتحسين كفاءة المدفوعات والتسويات.

بطبيعة الحال، لا يخلو الأمر أيضا من منتقدين للعملة الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية. تتلخص إحدى الحجج التي تساق ضدها في أنها قد تتسبب في تهميش البنوك التجارية مع استبدال الأسر والشركات حيازاتها من العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية بودائع البنوك التجارية. ويتعاظم هذا الخطر إذا دفعت العملة الرقمية التي يصدرها البنك المركزي فائدة (كتلك على الودائع المصرفية).

ويتمثل مصدر آخر للقلق في أن البنك المركزي، باعتباره مصدر العملة الرقمية، قد يحصل على معلومات حساسة حول الشؤون المالية لحاملي العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي وقرارات الإنفاق الخاص التي يتخذونها. مصدر آخر للقلق يتمثل في أن العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية التي تعمل استنادا إلى آلية إجماع سلسلة الكتل لإثبات العمل ستكون كثيفة الاستهلاك للطاقة بدرجة غير عادية.

ولكن هناك حجة ثالثة لصالح العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية. فإذا (وفقط إذا) كانت العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي تحمل فائدة وكانت مصحوبة بإلغاء النقود المادية، فإنها بذلك تعزز فعالية السياسة النقدية من خلال إلغاء الحد الأدنى الفَـعّـال (ELB) لأسعار الفائدة الرسمية. كان الحد الأدنى الفَـعّـال، وهو أثر من بقايا العملة الورقية الصادرة عن البنك المركزي بأسعار فائدة اسمية صِـفرية، بمثابة قيد ملزم متكرر على السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة منذ الأزمة المالية خلال الفترة 2007-2009 وإلى أن بدأ صناع السياسات (في وقت متأخر) رفع أسعار الفائدة في أواخر عام 2021 وأوائل عام 2022.

ولأن البنوك المركزية كانت عاجزة عن تحديد أسعار الفائدة عند مستويات سلبية بدرجة كبيرة، فقد اضطرت إلى اللجوء إلى التيسير الكمي ــ تسييل توسعات ميزانياتها العمومية من خلال عمليات شراء ضخمة لأوراق مالية عامة وخاصة. لم يكن التيسير الكمي غير فعّال في تعزيز معدلات التضخم التي كانت دون المستوى المستهدف فحسب، بل ساهم أيضا في خلق فقاعات الأصول التي لا تزال تهدد الاستقرار المالي، وجعل من السهل للغاية على الحكومات المبذرة أن تدير عجزا مفرطا في الميزانية.

في مختلف الاقتصادات المتقدمة، يبدو أن البنوك المركزية راغبة في الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة بالقدر الكافي لفترة كافية لإعادة التضخم إلى النطاق المستهدف بنسبة 2٪ بحلول نهاية عام 2024. لكن انخفاض التضخم بالإضافة إلى انخفاض سعر الفائدة الحقيقي المحايد من شأنه أن يزيد من احتمالات عودة الحد الأدنى الـفَـعّال ليصبح مرة أخرى قيدا ملزما في حالة الصدمات الانكماشية وصدمات خفض التضخم في المستقبل.

الواقع أن أحدث تقديرات بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك لسعر الفائدة الحقيقي المتوافق مع التشغيل الكامل للعمالة والتضخم المستقر عند المستوى المستهدف ــ لا تكاد تتجاوز 0.5% في الولايات المتحدة. وهذا المستوى المنخفض يجعل التخلص من الحد الأدنى الفَـعّـال أمرا مرغوبا للغاية. وإذا انتهت الحال بمعدل التضخم أو تشغيل العمالة إلى الانخفاض إلى ما دون المستوى المستهدف بشكل ملموس، فسوف يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي قادرا على تحديد أسعار فائدة سلبية بشكل كبير، إذا لزم الأمر.

علاوة على ذلك، تفتقر حجة الاستقرار المالي التي تُـساق عادة ضد العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية التي تحمل فائدة إلى أي منطق حقيقي. فإذا قرر أصحاب الودائع المصرفية من القطاع الخاص التحول إلى عملات رقمية صادرة عن البنك المركزي، وإذا اعتُـبِـر اختفاء دور الوساطة الناتج عن ذلك أمرا غير مرغوب، فبوسع البنك المركزي أن يضع ودائع تعويضية لدى الوسطاء الماليين المتضررين. ومن الممكن بالطريقة ذاتها التعويض عن، وتحييد، عمليات تحويل الودائع المصرفية غير المؤمنة بدافع الخوف إلى عملات رقمية صادرة عن البنوك المركزية.

على نحو مماثل، في حين تعجز أي عملة رقمية صادرة عن البنك المركزي عن ضمان ذات القدر من الخصوصية الذي توفره الأموال النقدية المادية، فقد لا يكون ذلك أمرا بالغ السوء. ذلك أن ميزة تجهيل الهوية التي توفرها الأموال النقدية تجعلها خيارا مفضلاً للمنظمات الإجرامية والإرهابية في مختلف أنحاء العالم. علاوة على ذلك، ستعتمد المعلومات المتاحة للبنك المركزي (والحكومة) على تصميم وتنفيذ العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي.

من ناحية، قد نرى نموذجا مركزيا بالكامل، حيث تحتفظ البنوك التجارية، وغيرها من المؤسسات المالية، وكل الشركات والأسر بحسابات لدى البنك المركزي. ولكن قد ينشأ أيضا نظام من مستويين والذي بمقتضاه تحتفظ البنوك وغيرها من المؤسسات المالية المؤهلة بحسابات العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي بالجملة لدى البنك المركزي وتدير العملات الرقمية الصادرة عن البنك المركزي بالتجزئة لعامة الناس. سيكون حساب العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي بالتجزئة بمثابة حساب مصرفي تقليدي يضمنه البنك المركزي. ويقوم مديرو حسابات التجزئة بتمرير المعلومات المطلوبة فقط إلى السلطات المختصة للامتثال لقواعد مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

في الولايات المتحدة، قد يشمل هذا الامتثال لقانون السرية المصرفية. أو على الطرف الآخر، قد ينشأ نظام لامركزي بالكامل يقوم على دفتر الأستاذ الموزع، مثل عدد كبير من العملات الرقمية المشفرة والعملات المستقرة القائمة على تكنولوجيا سلسلة الكتل اليوم. وبرغم أن آليات الإجماع على إثبات العمل (التي تستخدمها البيتكوين) تستهلك الطاقة بكثافة ولا تتوسع بكفاءة، فإن سلاسل الكتل الخاصة بإثبات الملكية (كتلك التي تستخدمها عملة الإيثريوم منذ الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 2022) قد تكون قادرة على التغلب على هذه العقبات.

في كلتا الحالتين، تسمح تكنولوجيا سلسلة الكتل بإتاحة تاريخ المعاملات في المجال العام، في حين تظل هويات الأفراد خاصة (لهذا السبب تُـسـتَـخـدَم بعض العملات الرقمية المشفرة أيضا من قِـبَـل منظمات إجرامية وإرهابية). أخيرا، لن يؤثر دفع الفائدة على العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية سلبا على الشمول المالي أو كفاءة نظام المدفوعات والتسويات. ينبغي لصناع السياسات الذين يعارضون إلغاء النقود المادية وطرح عملة رقمية يصدرها البنك المركزي وتحمل فائدة أن يعيدوا النظر. فهذه هي اللحظة المناسبة للقيام بالأمرين معا ــ قبل أن يعود الحد الأدنى الفَـعّـال.

* ويليام إتش بويتر، كبير الاقتصاديين السابق في سيتي بنك والعضو السابق في لجنة السياسة النقدية لبنك إنجلترا، هو مستشار اقتصادي مستقل.
https://www.project-syndicate.org/

ذات صلة

التنمية المتوازنة في نصوص الإمام علي (ع)أهمية التعداد السكاني وأهدافهالموازنة في العراق.. الدور والحجم والاثرفرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدة