في التصدي للارتباكات البنيوية
بروجيكت سنديكيت
2023-03-02 05:28
بقلم: مايكل سبنس
ميلانو ــ تُـفضي سياسات تطوير التجارة والتكنولوجيا على نحو شبه دائم تقريبا إلى عواقب مرتبطة بالتوزيع. لا يخلو الأمر من بعض الاستثناءات، حيث يؤدي تنفيذ سياسة ما إما إلى مكاسب أو عدم خسارة للجميع تقريبا، وهو ما يسميه أهل الاقتصاد "تحسن باريتو". لكن هذه الحالات نادرة نسبيا. قد يزعم بعض المراقبين أن نموذج النمو القائم على التصدير في البلدان النامية في المراحل المبكرة، والذي يجتذب العمالة الفائضة إلى التصنيع الحديث والقطاعات الحضرية يقترب من تلبية هذا المعيار. ولكن حتى هناك، لا تُـوَزَّع المكاسب بالتساوي، وتزداد فجوة التفاوت في الدخل اتساعا عادة.
التأثيرات المرتبطة بالتوزيع هي القاعدة، داخل البلدان وعبر الحدود الوطنية. تشهد البلدان النامية الناجحة تغيرات بنيوية كجزء من عملية النمو. والفوائد الطويلة الأجل المترتبة على التعرض للأسواق العالمية والاستثمار بالغة الضخامة، إلى الحد الذي يدفع عجلة النمو فضلا عن تعديلات بنيوية كبرى في ما يتصل بالوظائف، والمهارات، ورأس المال البشري. لكن بعض القطاعات تتأثر سلبا حتما.
لضمان عدم طغيان الفرص الاقتصادية والضغوط الجديدة على قدرة البلدان النامية ــ وخاصة قوة العمل ــ على التكيف، ينبغي لصناع السياسات أن يتحكموا في وتيرة وتسلسل عملية الانفتاح على التجارة، والاستثمار، وحساب رأس المال. على سبيل المثال، إذا تحول صافي خلق فرص العمل ــ الوظائف المنشأة مطروحا منها الوظائف المفقودة ــ في الاتجاه السالب، فربما يكون هذا راجعا إلى الانفتاح بسرعة أكبر مما ينبغي.
من الأهمية بمكان استكمال جهود معايرة وتيرة الانفتاح بقدر من إعادة التوزيع نحو الفئات أو القطاعات المتأثرة سلبا، ولكن ليس على حساب الاستثمار. لدعم إنشاء نمط شامل من التكيف البنيوي، وهو أمر بالغ الأهمية، يجب على الحكومة أن تستثمر بكثافة في توفير التعليم العالي الجودة الميسور التكلفة (المنخفض التكلفة أو المجاني) للشباب والتدريب للعمال الأكبر سنا.
كل هذا شديد الأهمية لضمان احتفاظ السياسات التي يقوم عليها نموذج النمو بالدعم الشعبي؛ بخلاف ذلك، من المرجح أن تعطل المعارضة السياسية استراتيجية النمو أو تجهضها.
لا تقتصر هذه التحديات على الاقتصادات النامية. إذ تخلف التجارة، والاستثمار، والتكنولوجيا تأثيرات كبيرة على البنية الاقتصادية، والأسعار النسبية، وتوزيع الدخل والثروة في كل مكان تقريبا. تزعم ورقة بحثية حديثة أن التجارة مع الصين لا تخلف تأثيرات سلبية مباشرة على تشغيل العمالة والأجور في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة فحسب، بل وتنتج أيضا تأثيرات سلبية على موردي المنتجات الوسيطة عند المنبع.
من المؤكد أن مؤلفي الورقة البحثية خلصوا إلى أن التجارة مع الصين تعود على الولايات المتحدة بفوائد صافية، لأن التأثير الإيجابي عند المصب ــ مجموعة واسعة من الصناعات التي تكتسب القدرة على الوصول إلى منتجات وسيطة أرخص ــ أكبر من التأثيرات السلبية المباشرة عند المنبع مجتمعة. مع ذلك، لا تزال التجارة بين الولايات المتحدة والصين تخلف عواقب توزيعية مهمة لأن التأثيرات السلبية أكثر تركزا حسب القطاع والجغرافيا، في حين تنتشر التأثيرات الإيجابية على نطاق واسع. وبوسعنا أن نقول إن هذا كان له تأثير كبير على المواقف الأميركية تجاه التجارة مع الصين ــ وبالتالي على السياسة التجارية الأميركية في عموم الأمر.
بطبيعة الحال، يحتدم الجدال حول التجارة مع الصين بشكل خاص في الولايات المتحدة، وخاصة بسبب ادعاءات انتهاك الصين لقواعد منظمة التجارة العالمية. لكن هذا ليس أكثر من تشتيت للانتباه. لا شك أن هناك حالات عديدة لإخفاق البلدان النامية في الامتثال الصارم لقواعد منظمة التجارة العالمية. لكن التأثيرات البنيوية والتوزيعية المترتبة على التجارة لا تعتمد على امتثال الدولة لقواعد منظمة التجار العالمية بقدر ما تعتمد على المرحلة التي تمر بها من التطور، وحجم التجارة، ومزاياها النسبية.
عكست شدة ما يسمى صدمة الصين في الولايات المتحدة سرعتها وحجمها. كان خطأ صناع السياسات متمثلا في تكريس قدر ضئيل من الاهتمام نسبيا لتعديل سرعة التحول أو دعم أولئك المتضررين بالتعديل البنيوي.
لكن الحديث عن إبطاء وتيرة التغير البنيوي أسهل من تنفيذ ذلك على أرض الواقع، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتحول الأخضر ــ وهذا محرك رئيسي آخر للتغير البنيوي اليوم. كانت عقود من التقاعس عن العمل تعني أن التخفيضات السريعة في الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي أصبحت الآن ضرورة ملحة. لكن هذا بدأ يخلق بالفعل ارتباكات كبرى، فضلا عن تداعيات توزيعية خطيرة. فمع نمو هذه التأثيرات، تتنامى أيضا المقاومة للمبادرات الضرورية.
تمثل التكنولوجيا المحرك الثالث للتحول البنيوي اليوم. كما وَثَّـقَ ديفيد أوتور وآخرون، حتى قبل الاختراقات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي، كانت التكنولوجيا الرقمية تعمل على إزالة الوظائف الروتينية (القابلة للتدوين) المتوسطة الدخل في الأساس من الاقتصاد، مما أدى إلى استقطاب الوظائف والدخل. ومن الممكن ملاحظة هذه الظاهرة في كل الاقتصادات المتقدمة.
ما يزيد التحدي تعقيدا في الولايات المتحدة أن نمو الإنتاجية انتقل إلى مسار مزدوج. كما ذكرت مؤخرا أنا وبيليندا أزينوي، عملت الاختراقات في مجال التعلم الآلي على تمكين الإنتاجية من النمو السريع في ما يسميه أهل التكنولوجيا "الطبقة الأساسية" (bits layer) في الاقتصاد ــ حيث تجري معالجة وتخزين المعلومات والوصول إليها، واستخدامها، وأين تحدث المعاملات وتتخذ القرارات.
ولكن في "طبقة الذرات" (atoms layer)، حيث يحدث النشاط الاقتصادي المادي، يكون نمو الإنتاجية مختلطا ــ أعلى في البيئات ذات البنية المنظمة مثل التصنيع واللوجستيات، والأدنى في أماكن أخرى، بما في ذلك قطاعات تشغيل العمالة الضخمة مثل الضيافة. إذا استمرت هذه الاتجاهات ــ وتقاعُس صناع السياسات ــ فسوف تستمر الفجوة في الإنتاجية والدخل في الاتساع.
في مقال نُـشِـر عام 2022 بعنوان "فخ تورينج" (The Turing Trap)، اقترح إريك برينجولفسون أن أجندة أبحاث الذكاء الاصطناعي تركز بشكل مفرط على الذكاء الاصطناعي الشبيه بذكاء البشر، وهو ما يحفزه اختبار تورينج الشهير: هل يستطيع شخص يتفاعل مع آلة تحديد ما إذا كانت آلة؟ من الواضح أن هذا المعيار أفضى إلى تقدم مذهل. لكن برينجولفسون يزعم أنه يجب أن يستكمل بأجندة تعزيز آلي جيدة التمويل وأكثر عدوانية. يجب أن يكون هدف تطوير المركبات شبه المستقلة مصحوبا بدَفـعَة نحو تعزيز إنتاجية مجموعة واسعة من وظائف قطاع الخدمات.