الأبعاد الفلسفية للنظريات الاقتصادية
حاتم حميد محسن
2021-08-01 04:35
تهتم فلسفة الاقتصاد بالقضايا المفاهيمية والمنهجية والأخلاقية التي تبرز ضمن الحقل العلمي للاقتصاد. التركيز الاساسي هو على قضايا المنهجية والابستيمولوجي – الطرق، المفاهيم، والنظريات التي من خلالها يحاول الاقتصاديون الوصول للمعرفة حول العمليات الاقتصادية.
فلسفة الاقتصاد تهتم ايضا بالطرق التي تشترك بها القيم الاخلاقية في التفكير الاقتصادي – قيم الرفاهية الانسانية، العدالة الاجتماعية، والمقايضات بين الافضليات التي تتطلبها الخيارات الاقتصادية. التفكير الاقتصادي له انعكاسات على العدالة والرفاهية الانسانية، وما هو اكثر اهمية، هو ان التفكير الاقتصادي عادة ما يضع افتراضات أخلاقية هامة مع انها غير واضحة لكن فلاسفة الاقتصاد وجدوا انها تستحق التمحيص.
اخيرا، تهتم فلسفة الاقتصاد بالافتراضات الاجتماعية الواقعية التي يتخذها الاقتصاديون. الفلاسفة وجّهوا انتباههم الى المؤسسات والهياكل التي يحدث من خلالها التغيير والفعالية الاقتصادية. ما هو السوق؟ هل هناك مؤسسات بديلة يمكن ان تجري بها الفعالية الاقتصادية الحديثة؟ ما هي المتغيرات المؤسسية التي توجد ضمن الاطار العام لإقتصاد السوق؟ ما هي بعض الادوار التي يمكن ان تلعبها الدولة ضمن التنمية الاقتصادية لكي تعزز الفاعلية والمساواة والرفاهية الانسانية والانتاجية والنمو؟
ان أبعاد فلسفة الاقتصاد التي تقع ضمن فلسفة العلوم لها علاقة بموقع التحليل الاقتصادي كمجموعة من المعارف التجريبية. الأسئلة الأساسية تتضمن: حول ماذا تتركز المعرفة الاقتصادية؟ ما نوع المعرفة التي يقدمها حقل الاقتصاد؟ كيف يرتبط بالعلوم الاجتماعية الاخرى وبالمعرفة المتضمنة في تلك الحقول؟ كيف يمكن تبرير او تقييم المعرفة الاقتصادية؟ هل النظرية الاقتصادية تزعم تقديم نظريات مجردة لعمليات اجتماعية واقعية – آلياتها، الديناميات والمؤسسات؟ ما طبيعة التوضيحات الاقتصادية؟ ما هي العلاقة بين النماذج الرياضية المجردة والنظريات من جهة، والحقيقة التجريبية للمؤسسات والسلوك الاقتصادي، من جهة اخرى؟ ما طبيعة المفاهيم والنظريات التي تُصاغ بها العقائد الاقتصادية؟ هل هناك نمطية منتظمة تشبه القانون بين الظواهر الاقتصادية؟ ما اهمية التنبؤات في الاقتصاد؟
الدور الفكري لفلسفة الاقتصاد
الفلاسفة ليسوا باحثين تجريبيين، وبشكل عام هم ليسوا بناة لنظرية شكلية. لذا ما هو الدور البنّاء الذي تلعبه الفلسفة في الاقتصاد؟ هناك عدة أدوار:
1- الفلاسفة لديهم القدرة الجيدة لفحص الخصائص المنطقية والعقلانية للحقل التجريبي. كيف ترتبط الادّعاءات النظرية في الحقل بالدليل التجريبي؟ ما الدور الذي تلعبه السمات البرجماتية للنظريات مثل البساطة، سهولة الحساب، وما شابه في التقويم العقلاني للنظرية؟ كيف تساعد الافتراضات المسبقة للبحث في بناء التقدم الواعد لنظريات وفرضيات الحقل؟
2- الفلاسفة مهيئون جيدا للنظر في الموضوعات ذات العلاقة مع المفاهيم والنظريات التي يوظفها الاقتصاديون – على سبيل المثال، العقلانية الاقتصادية(1)، توازن ناش(2)، المنافسة التامة(3)، تكاليف الاجراءات(4)، تباين المعلومات (5). الفلاسفة يمكن ان يقدموا تحليلا مفيدا لقوة وضعف هذه المفاهيم والنظريات – وبهذا يساعدون الاقتصاديين الممارسين في صقل وتوضيح اكثر للاسس النظرية لحقلهم. في هذا الدور، يعمل الفيلسوف كموضّح مفاهيمي للحقل، يعمل في شراكة مع الممارسين لخلق نظريات اقتصادية اكثر وضوحا ونجاحا.
حتى الآن نحن وصفنا موقف الفيلسوف كمساعد للاقتصادي. ولكن في الحقيقة، لم يكن الخط بين النقد وتكوين النظرية حادا جدا. اقتصاديون مثل امارتي سين وفلاسفة مثل دانيال هوسمان اظهروا ان هناك امكانية لعبور بنّاء جدا للحدود بين الفلسفة والاقتصاد، وان الخبرة الفلسفية يمكن ان تؤدي الى تقدم هام بشأن المشاكل النظرية والتجريبية الهامة ضمن حقل الاقتصاد. ان المحتويات التراكمية لمجلة الاقتصاد والفلسفة توفر دليلا واضحا على الانشغال المنتج عندما تلتقي الفلسفة مع الاقتصاد.
ولكي ينجز فيلسوف الاقتصاد هذه الأهداف، فهو عليه مسؤولية موازية لتلك المسؤولية لدى فيلسوف البايولوجي او فيلسوف الفيزياء: هو يجب ان ينجز فهما مهنيا ودقيقا للحقل كما هو موجود حاليا. ان العمل الأكثر قيمة في فلسفة أي علم ينطلق من اساس الخبرة الهامة لدى الفيلسوف حول أحسن تطبيق، وحول النقاشات المعاصرة، والتحديات المستقبلية للحقل. فقط من خلال هذ الاطّلاع سوف ينجح الفيلسوف في إثارة موضوعات تتعامل حقا مع القضايا الهامة للمهنة.
اسئلة هامة في فلسفة الاقتصاد
لننظر الآن في نماذج من اسئلة فلسفية حول الاقتصاد كمجموعة منظّمة من المعرفة. هذه الاسئلة ليست على سبيل الحصر، لكنها تفيد القارئ في الاطّلاع على أنواع الأسئلة التي يثيرها الفلاسفة في حقل الاقتصاد.
هل هناك قوانين في الاقتصاد؟
كان مفهوم قانون الطبيعة مركزيا في فهمنا للعلوم الطبيعية. القوة الفكرية للفيزياء الكلاسيكية مشتقة من حقيقة انها قادرة على تطوير ادّعاءات في القوانين الفيزيائية التي كانت قوانين بسيطة وعالمية – قوانين الجاذبية وحركة الكواكب، البصريات، الكهرباء والمغناطيسية وغيرها. هل هذه سمة ضرورية للعلم التجريبي الناجح؟ وهل يحوز الاقتصاد على مثل هذه القوانين؟ العديد من المؤلفين يوافقون على كلا النقطتين (كينكيد 1996) و (روزنبيرغ 1976).
غير ان عدة نقاط برزت في النقاشات الاخيرة للعلوم الاجتماعية التي تقود للشك بمركزية القوانين في العلوم الاجتماعية – بما فيها الاقتصاد. اولا، هناك فرق هام بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الاجتماعية يجب ان يجعلنا نشك بوجود قوانين قوية للطبيعة تصف الظاهرة الاجتماعية. ثانيا، من الواضح ان هناك انتظامية ضمن حقل الاقتصاد التجريبي – الاستهلاك عادة يزداد عندما تهبط الاسعار، التجارة تزيد عندما تهبط كلفة النقل، وفيات الاطفال عادة تقل عندما تخصص الدولة المزيد من الموارد للصحة العامة. لكن هذه هي مجرد انتظامية تجريبية رتيبة.
هل هناك قوانين اقتصادية قوية لها قوة قوانين ماكسويل في الانتشار الكهرومغناطيسي؟ لاشيء في النظرية الاقتصادية الحالية يوفر سببا للاعتقاد ان هناك مثل هذه القوانين. الافتراضات الاساسية للنظرية الاقتصادية من الواضح لا تقع في صنف قوانين الطبيعة. وكما سنرى أدناه، ان افتراض العقلانية الاقتصادية لايشكل تعميما عالميا حول سلوك الفرد. هنا، وكما في المجالات الاخرى للعلوم الاجتماعية، من المبرر جدا البحث عن آليات سببية بدلا من قوانين اجتماعية.
هل افتراضات الاقتصاد واقعية؟
هل النظريات والفرضيات الاقتصادية تساعد في وصف الهياكل والآليات الاقتصادية غير المشاهدة؟ ملتن فريدمن مهّد للجواب على هذا السؤال عبر الجدال بالتفسير الآداتي للافتراضات الاقتصادية (فريدمن، 1953). وفق رؤية فريدمن، فان قيمة النظرية هي تماما يُعبّر عنها بمقدرتها للتنبؤ بالظاهرة المشاهدة، النظرية هي وسيلة للتنبؤ. الآداتية، عموما واجهت نقدا قويا من فلاسفة العلوم (ليبلن، 1984). أحسن توضيح للنظرية هو في امتلاك تنبؤات موثوقة حول نطاق من الظواهر وان الآليات التي تفترضها هي في الحقيقة صحيحة. لذا فهو عجز في النظرية عندما تكون الآليات التي تفترضها غير مقنعة او زائفة. والنظرية الاقتصادية ستكون عاجزة كثيرا لو استنتجنا ان مقدماتها غير منسجمة بعمق مع العمليات الاساسية الواقعية التي تشكل الاقتصاد الناجح. مقابل هذا الاطار الأداتي يضع دانيال هسمن Daniel Hausman اتجاه واقعي للنظرية الاقتصادية (هسمن، 1992). وفق هذا الاتجاه، يكون هدف الاقتصادي هو الوصول لإفتراضات صادقة تقريبا. (كما سنرى ادناه، هذا المبدأ المنهجي يقترح ان الاقتصاديين يجب ان يوجّهوا انتباها كبيرا للمؤسسات الاقتصادية وتحليلات الاقتصاد المقارن والتاريخ الاقتصادي).
هل النظريات الاقتصادية قابلة للاختبار او ممكن تفنيدها؟
قبل ان نسأل ما اذا كانت النظرية قابلة للاختبار، يجب ان يكون لدينا توصيف واضح لمحتواها التجريبي. هذا يتطلب منا ان نسأل السؤال، ماذا اريد للنظرية ان تصف، تتنبأ او توضح؟ النظرية يكون لها محتوى تجريبي لو هي تعمل ادّعاءات حول العمليات السببية المؤطرة لمجال الظاهرة وتلك الادّعاءات لها تأثيرات للحالات المشاهدة في العالم. في ظل هذه الظروف سيكون من الممكن لنا ان نؤدي تجارب (نرتب العالم بطريقة معينة، نلاحظ المحصلة، ونقارن مع المحصلة المتنبأ بها للنظرية)، المشاهدات التي تحت السيطرة (تُجمع قبل وبعد الحالات وتُقارن المحصلة مع تنبؤات النظرية)، مشاهدات متدرجة على مراحل منفصلة (فحص عناصر العملية لكي نقيّم ما اذا كانت العمليات السببية المفترضة تحدث حقا)، وهكذا. من خلال هذه الجهود نستطيع جلب الدليل التجريبي المرتبط بمهمة تقييم حقيقة الافتراضات. لذا فان السؤال الذي امامنا هو: هل النظرية الاقتصادية تحتوي على افتراضات هامة حول الأعمال السببية للعالم الاقتصادي التي قُصد بها ان تمتلك تأثيرات على الحالات المستقبلية المشاهدة للعالم؟ وهل نحن قادرين على أداء ملاحظات لحالات العالم التي تؤكد او تنفي النظرية(هاندس، 1992)؟. من حيث المبدأ، من الواضح ان الجواب لهذا السؤال هو بالايجاب.
لننظر في نطاق من النظريات لعملية اقتصادية معينة – نمو اقتصادي، تجارة، بطالة، الاجور، التمييز – مثل هذه النظريات لها نتائج تنبؤية، وليس من الصعب وصف الملاحظات التي يجب التأكد منها لإختبار هذه النظريات. الصعوبة الإبستمية تأتي لاحقا: معظم نظريات الظاهرة المعقدة هي في الحقيقة يمكن تكذيبها – بدون ان تكون بالضرورة خاطئة تماما في وصفها للعمليات الاساسية. لذا كيف نميز بين النظريات القابلة للتكذيب لتحديد تلك الأكثر احتمالا من الأقل احتمالا (لاكاتوس، 1974)؟
هل النظريات الاقتصادية مجرد انظمة رياضية شكلية بدون ملائمة تجريبية؟
الكسندر روزنبيرج يدافع عن الرؤية الشكلية للنظرية الاقتصادية، كونه استنتج بان الاقتصاديين لم ينجحوا في انتاج نظريات تجريبية او توضيحات لظاهرة تجريبية واقعية (روزنبيرغ، 1992، فصل 8). روزنبيرغ يشبّه الاقتصاد الجزئي بهندسة اقليدس بدلا من الفيزياء الكلاسيكية او البايولوجيا التطورية. النظرية هي مجموعة من مقولات او مبادئ مجردة غير تجريبية، وان ممارسة عمل الاقتصاد هي واحدة من اشتقاق فرضيات من هذه المبادئ. هل هذه طريقة مقنعة لفهم البرنامج الفكري للاقتصاد؟ ليس كذلك. المهمة الفكرية لحقل الاقتصاد – والتي لا تتحقق دائما بنجاح – هي توفير اساس علمي اجتماعي لفهم وتوضيح والتنبؤ بالظاهرة الاقتصادية.
لماذا يؤثر سعر الفائدة على حجم الاستثمار؟ لماذا يرتبط التضخم والبطالة مع بعضهما؟ لماذا يكون النمو الاقتصادي اكثر سرعة في سياق نوع واحد من المؤسسات دون اخرى؟ ما هي الروابط السببية التي تضمن الارتباطات بين المتغيرات الاقتصادية؟ هذه انواع من الاسئلة التي من مسؤولية الاقتصاديين الاجابة عليها. وان الاتجاه نحو التنظير الاقتصادي الذي يفترض ان الحقل هو شكلي خالص سوف لن يساعد في إلقاء الضوء على هذه الآليات الاقتصادية الواقعية وان كانت غير مشاهدة. على هذا الخط من التفكير، الرياضياتية المستمرة في الاقتصاد يجب ان تُفهم كوسيلة لغاية وليست غاية في ذاتها. الآلية الرياضية او الشكلية للاقتصاد هي ذات قيمة فكرية فقط بمقدار ما تساهم بفهم أفضل او واقعي، للعمليات الاقتصادية التجريبية، والأسباب، والانظمة.
ماهي مكانة مفهوم العقلانية الاقتصادية؟
ان مفهوم العقلانية الاقتصادية هو أساسي ضمن النظرية الاقتصادية، وخاصة ضمن الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. الاهتمام الخاص لفلاسفة الاقتصاد كان تزويد إختبار نقدي لنظرية العقلانية الاقتصادية. الفلاسفة اثاروا سلسلة من القضايا الهامة المتعلقة بنظرية العقلانية الاقتصادية. وبالنظر اليها مجتمعة، هذه الانتقادات قادت الى تعزيز هام في فهمنا لمفهوم العقلانية. اولا، الفلاسفة خصصوا المزيد من الانتباه للفجوة بين نظرية المنفعة ونظرية التفضيل الفردي. ثانيا، هم رفضوا افتراض الأنوية او المصلحة الذاتية العقلانية التي افتُرضت سلفا في النظرية الخالصة (سين، 1987)، (اندرسون، 2000). ثالثا، الفلاسفة وآخرون اشاروا الى ان الفاعلين السايكولوجيين الواقعيين يفكرون بطرق تتناقض مع النظرية الخالصة للعقلانية الاقتصادية (سيمون، 1983)، (كاهنمن، 1982). رابعا، فلاسفة وآخرون خصصوا اهتماما كبيرا للافتراضات المتعلقة بنظرية المباراة. اخيرا، بعض الفلاسفة باشروا دراسة خصائص العقلانية الاقتصادية في افراد واقعيين من خلال التجربة (Schmidtz، 1991). فمثلا، روبرت اكسيلرود استخدم ظروف تجريبية لفحص الكيفية التي يتعامل بها المفكرون المنطقيون الواقعيون مع مأزق السجناء، هو وجد ان الاشخاص التجريبيين باستمرار قادرين على انجاز التعاون بدلا من اللامبالاة(اكسيلرود، 1984). النتائج لهذا البحث تقترح ان المفكرين المنطقيين يتصرفون بإدراك – ولكن بشكل مختلف عن مبادئ نظرية العقلانية الاقتصادية الخالصة.
ما دور القيم الاخلاقية في الاقتصاد؟
الاقتصاديون عادة يصفون علمهم كمتحرر من القيمة – كتحليل تقني لمتطلبات العقلانية في تخصيص الموارد بدلا من مجموعة معينة من التزامات القيمة او السياسة. في هذا التفسير، يرغب الاقتصادي ان يُقارن مع المهندس المدني بدلا من صانع سياسة نقل: هو يمكن ان يخبرنا كيف يبني جسرا ثابتا، ولكن ليس اين ومتى ولماذا. المواطنون وصناع السياسة هم الذين يضعون الأحكام حول المطلوب بشأن الصالح العام لكي يقرروا ما اذا كان طريق معين او جسر مرغوب اجتماعيا، التقني التخصصي هو الذي يجهز التصميم ويضع تقدير للتكاليف. هذا الوصف لحقل الاقتصاد يفشل في عدة مجالات هامة. النظرية الاقتصادية تحتوي على مجموعة متقاربة من الافتراضات الهامة المسبقة حول طبيعة الصالح – فردي او اجتماعي – التي تؤثر مباشرة في التوصيات السياسية التي تدعمها النظرية الاقتصادية. فمثلا، افتراض الأنوية العقلانية غير منسجم مع العديد من قيم الجماعية، الافتراض بان المساواة تخضع للفاعلية هو غير منسجم مع فلسفة المساواة السياسية، وافتراض ان عدد من السلع تشكل رفاهية الفرد هو غير منسجم مع التصور الأرسطي للحياة الانسانية الجيدة (Nussbaum، 2000). لذا فان مقدمات وافتراضات الاقتصاد متداخلة بقوة مع الافتراضات المعيارية حول الحياة الانسانية الجيدة والمجتمع الجيد. هذا ليس عجزاً، ولكن يجب الاعتراف به لكي نستطيع الاعتراف بعمل الافتراضات غير واضحة القيمة، وانه بالتأكيد يبطل افتراض العلم الاجتماعي المتحرر من القيمة. عموما، يبدو من الإنصاف القول ان الافتراضات الاخلاقية التي يفترضها مسبقا الاقتصاديون الكلاسيك الجدد تقع مجتمعة ضمن عائلة المُثل المعيارية التي تمجد الفردية واللامساواة وممارسة الحد الادنى للسياسة العامة.
هل العدالة التوزيعية موضوع للاقتصاديين؟
حالما يتم الاعتراف بان الاقتصاد له محتوى أخلاقي، يصبح واضحا اننا نحتاج لفحص هذه المقدمات الاخلاقية بالتفصيل، ونقدم نقدا عندما نجدها دون التوقعات. وبالذات، الاقتصاد مجبر لمواجهة قضايا العدالة التوزيعية بوضوح اكبر مما هو عليه حتى الان. اقتصاد السوق ينطوي على درجة من اللامساواة من مختلف الانواع: لامساواة في المحصلات (ثروة ودخل)، لامساواة في الفرص، لامساواة في السلطة والنفوذ، لامساواة في مستويات الرفاهية (صحة، تعليم، سنوات الحياة). ما نوع اللامساواة المقبولة أخلاقيا في المجتمع العادل؟ ما حجم اللامساواة التي يمكن ان توجد قبل ان تخلق فرقا بين المواطنين ولدرجة تُضعف من كرامتهم الانسانية وتبطئ الظروف المسبقة للديمقراطية؟ طوال الثلاثين سنة الماضية قدّم الفلاسفة مساهمات هامة لفهمنا لقضايا العدالة التوزيعية والمكانة الأخلاقية لـ الاّمساواة:(رولز 2001)، (نوزك، 1974)، (الستر، 1992).
هل هناك اساس للنقاشات العقلانية حول المؤسسات الاقتصادية؟
ما نوع العالم الاجتماعي الذي تفترضه النظرية الاقتصادية مسبقا؟ في دراسة هذا النوع من السؤال، ينتقل الفلاسفة الى نقاشات هامة حول طبيعة الظاهرة الميدانية قيد الدراسة. النقاش يقع في ظل عنوان من النقد، كونه يركز على النقاط المعتمة التي يمكن اكتشافها ضمن الحقل المرئي للتنظير الاقتصادي. الاقتصاديون يضعون افتراضات حول المؤسسات التي تشكل اطارا للاجراءات الاقتصادية، وان هذه الافتراضات هي احيانا غير مرنة وغير واقعية. ولذلك يجدر بالفلاسفة توجيه انتباههم للنواقص في الافتراضات المؤسسية الاجتماعية التي يضعها الاقتصاديون عادة. المؤسسية الجديدة في العلوم الاجتماعية أبدت اهتماما كبيرا بمؤسسات معينة تحدث فيها الفعالية الاجتماعية (برنتون و ني، 1998). المؤسسات ذات اهمية كبيرة، لذا فان المزيد من التفكير الدقيق عن المؤسسات الاقتصادية لإقتصاد سوق معين قد يقود الى فهم أفضل للظاهرة التي نشهدها. فمثلا، دمج تكاليف الاجراءات وتباين المعلومات بين البائع والمشتري غيّر بشكل كبير فهمنا لمؤسسات السوق. أحد مجالات النقد الفلسفي يأتي من مستوى التجريد في نظريات اقتصادية عادية. الكثير من التفاصيل التجريبية ربما تغيّر كثيرا من الاستدلالات التي نصل اليها عن عمل المؤسسات. المنافسة غير التامة في السوق ربما هي القاعدة بدلا من الاستثناء- لذا من المهم دمج بعض من هذه الخصائص التجريبية في نظرياتنا عن المؤسسات الاقتصادية.
هل هناك مؤسسات اقتصادية بديلة يمكن ان تعمل في الاقتصاد الحديث؟
الفعالية الاقتصادية في المجتمع الحديث تتطلب مؤسسات تعرّف الادارة الناجحة والتمتع بالموارد واستخدام وادارة العمالة، وادارة المشاريع. الاقتصاد الكلاسيكي الجديد يفترض سلفا الملكية الخاصة لرأس المال، وعمال أحرار ليس لديهم ملكية، ودول لها أقل نفوذ اقتصادي. هل هناك مؤسسات اخرى من خلالها يمكن ان تدار الفعالية الاقتصادية ضمن المجتمع المنتج والحديث (الستر و موني، 1989)؟ فمثلا ما هو المنطق الاقتصادي لتعاون العمال؟ كيف يمكن استخدام المعاش التقاعدي للعامل المُتحكم فيه لتعزيز المساواة الديمقراطية؟ هل هناك الكثير يمكن تعلّمه من تجربة الاقتصاد الاشتراكي، وملكية الدولة، او سيطرة العمال على العمليات الصناعية؟ هل المؤسسات البديلة ممكنة؟ هل هي فعالة؟
ماذا يمكن ان نتعلم من تحليلات الاقتصاد المقارن؟
اجريت التنمية الاقتصادية في طرق مختلفة في مختلف الدول والاقاليم منذ ظهور التكنلوجيات الحديثة والمؤسسات الاقتصادية. مؤسسات السوق تطورت بشكل مختلف في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. الاقتصادات الجمعية اتّبعت مسارات مؤسسية مختلفة في يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي والصين. ماذا يمكن ان نتعلم عن العمليات الاقتصادية والديناميكيات من خلال دراسة ومقارنة الاقتصادات القومية في تفاصيل هامة؟ فمثلا، ماذا يمكن ان تعلّمنا التجارب المختلفة للصين والهند منذ عام 1945 عن المسارات البديلة للتنمية الاقتصادية (Dr ze&Sen، 1989)؟ هل هذا النوع من بحث الاقتصاد المقارن يوفر اساسا لما بعد الحرب الباردة في تحليل الاقتصاد السياسي للتنمية؟ عندما يأتي الاقتصاديون لمواجهة التحدي الفكري في تهيئة وصف سببي واقعي للأنظمة الاقتصادية، هم سيكونون قادرين للوصول الى رؤى هامة جديدة من خلال تحليلات الاقتصاد المقارن.
ما مدى الملائمة الفكرية لتاريخ الرأسمالية الصناعية الغربية للنظرية الاقتصادية؟
ان إعادة فحص تاريخ الرأسمالية الاوربية يشير الى ان هناك مسارات ممكنة اخرى للتنمية الاقتصادية الى جانب التصنيع الواسع والتخصص في الانتاج (سابيل و زيتلن، 1997). التصنيع الواسع والعمالة غير الماهرة جسّدا بديلا واحدا هاما، لكن هناك خيارات اخرى ممكنة تاريخيا. وكما يرى سابيل و زيتلن، ان نظاما ممكنا آخرا للانتاج الصناعي يستلزم عمالة عالية المهارة، وانتاج مرن، ووسائل وعمليات انتاج مرنة (سابيل، 1985). مرة اخرى، يُعتبر العامل الاخلاقي في حقل الاقتصاد هام جدا. من الممكن الوصول الى نظريات اقتصادية مقنعة تجريبيا عندما ننظر في نطاق من مؤسسات يحدث فيها النمو الاقتصادي والفعالية الاقتصادية.
استنتاج
فلسفة الاقتصاد تُفهم باعتبارها كمصدر للنقد القوي والدقيق لعلم الاقتصاد. انها تثير اسئلة حول ابستيمولجيا هذا الفرع من العلوم الاجتماعية – اسئلة حول بناء النظرية، تأكيد النظرية، كفاية التوضيح، وما شابه. انها تستجوب الافتراضات الضمنية المعيارية التي يحتوي عليها الاقتصاد. انها تثير بعض الأسئلة الأخلاقية التي يُجبر الاقتصاد على مواجهتها – لكنه نادرا ما يفعل. انها تقترح اتجاه أوسع واكثر تنوعا للتنظير الاقتصادي – يدمج المزيد من الدراسة للمؤسسات الاقتصادية، ويخصص المزيد من الاهتمام للتاريخ الاقتصادي. الاقتصاد سيكون علم اجتماعي اكثر نجاحا عندما يحتضن الدور الذي لعبه في القرن التاسع عشر كعلم اجتماعي مؤثر – وهي المساحة من التحقيق الاجتماعي التي كانت مهتمة بنفس القدر بالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية التي شكّلت الاقتصاد الحديث - ويركّز على المضامين الاخلاقية للظاهرة الاجتماعية قيد الدراسة، ويرغب في دراسة مختلف النماذج النظرية من أجل تحقيق فهم علمي للعمليات الاقتصادية والمؤسسات والمحصلات.