فائزون وخاسرون في التحول الرقمي الطارئ على نماذج العمل
بروجيكت سنديكيت
2021-03-03 08:25
بقلم: مايكل سبنس
ميلانو ــ ربما لم يحظ أي جانب من جوانب الثورة الرقمية بذلك القدر من الاهتمام الذي حظي به تأثير التشغيل الآلي (الأتمتة) على الوظائف، والعمل، وتشغيل العمالة، والدخل. وبوسعنا أن نجد على الأقل سببا واحدا وجيها للغاية وراء هذا الاهتمام ــ لكنه في الأرجح ليس السبب الذي يستشهد به أغلب الناس.
إن استخدام الآلات لزيادة الإنتاجية ليس بالأمر الجديد. وبقدر ما تُـعَـد أي أداة نستعين بها آلة، فإن البشر كانوا يصنعون الآلات طوال القسم الأعظم من تاريخنا القصير على هذا الكوكب. ولكن منذ الثورة الصناعية الأولى ــ عندما أنتجت الطاقة البخارية والميكنة زيادة ضخمة ومستمرة في الإنتاجية ــ اكتسبت هذه العملية سرعة بالغة.
لم يرحب الجميع بهذا التحول. فقد خشي كثيرون أن يؤدي انخفاض الطلب على العمالة البشرية إلى بطالة مرتفعة بشكل دائم. لكن هذا لم يحدث. وبدلا من ذلك، أدى ارتفاع الإنتاجية والدخول إلى تعزيز الطلب، وبالتالي النشاط الاقتصادي. وبمرور الوقت، تكيفت أسواق العمل في ما يتصل بالمهارات، وفي نهاية المطاف انخفضت ساعات العمل، مع تحول التوازن بين الدخل والترفيه.
رغم ذلك، بعد أن أفسحت الزيادة في العمالة البشرية المجال أمام الأتمتة ــ مع قيام الآلات بعدد متزايد من المهام بشكل مستقل في قطاعات المعلومات، والتحكم، والأقسام المرتبطة بالمعاملات من الاقتصاد ــ عادت المخاوف من خسائر الوظائف على نطاق واسع إلى التكاثر والانتشار مرة أخرى. فالآن، بدأت الوظائف الإدارية ووظائف العمال التي تنطوي على مهام روتينية في الأغلب ــ والتي يسهل تكويدها (تحويلها إلى رموز) ــ تختفي بمعدل متسارع، وخاصة منذ عام 2000. ولأن أغلب هذه الوظائف كانت تحتل منتصف جدول توزيع الدخل، فقد أفضت هذه العملية إلى تغذية استقطاب الوظائف والدخول.
لكن أسواق العمل قادرة على التكيف، كما حدث في القرن التاسع عشر. في البداية، قد يبحث العمال المزاحون عن عمل جديد في وظائف تتطلب مهارات يملكونها مسبقا. ولكن في مواجهة الفرص المحدودة، سرعان ما بدأ هؤلاء العمال السعي وراء وظائف تتطلب مهارات أقل (أو مهارات يمكن اكتسابها بسهولة)، بما في ذلك الوظائف بدوام جزئي في اقتصاد العمل المؤقت الذي ساعدت شبكة الإنترنت في تمكينه، حتى وإن كان هذا يعني قبول دخل أقل.
بمرور الوقت، يبدأ عدد متزايد من العمال الاستثمار في اكتساب المهارات المطلوبة في فئات الوظائف غير الروتينية الأعلى أجرا. وهي عملية تستغرق وقتا طويلا في عموم الأمر، وإن كانت تشهد تسارعا ملحوظا في بعض البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، من خلال مبادرات تشمل الحكومة، والشركات، والمؤسسات التعليمية.
ولكن حتى في ظل آليات الدعم المؤسسي، يظل الوصول إلى تنمية المهارات بعيدا عن الإنصاف عادة. ذلك أن من يملكون القدر الكافي من الوقت والموارد المالية هم فقط القادرون على القيام بالاستثمار المطلوب، وفي مجتمع يتسم بانعدام التكافؤ الشديد، يُـسـتَـبـعَـد العديد من العمال من هذه المجموعة. على هذه الخلفية، ربما ينبغي لنا أن نهدئ من مخاوفنا بشأن البطالة الدائمة الواسعة النطاق وأن ننتبه بشكل أكبر إلى اتساع فجوات التفاوت بين الناس وما يترتب على ذلك من تداعيات اجتماعية وسياسية.
من المؤكد أن التكيف التكنولوجي قد يقلل من حجم مشكلة اكتساب المهارات. ذلك أن الأسواق تكافئ الإبداعات والابتكارات التي تجعل المعدات والأنظمة الرقمية أسهل استخداما. على سبيل المثال، أصبحت واجهات التطبيق التي تعتمد على الرسومات، والتي تمكننا من التفاعل مع الأجهزة الإلكترونية عبر مؤشرات مرئية، منتشرة إلى الحد الذي أصبحنا معه نتعامل معها كأمر مسلم به. مع تطبيق مثل هذه الأساليب البديهية على العمليات التكنولوجية المتزايدة التعقيد، ستتضاءل الحاجة إلى إعادة التدريب ــ وبالتالي تأثير الثورة الرقمية على العملية التوزيعية.
وسوف يخلف التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي تأثيرا واضحا أيضا. حتى ما يقرب من عشر سنوات مضت، كانت الأتمتة تعتمد على تكويد المهام: حيث تُـبَـرمَـج الآلات بمجموعة من التعليمات التي تعيد إنتاج منطق اتخاذ القرار البشري. ولكن ماذا عن المهام التي لا يمكن تركيزها في سلسلة من الخطوات المنطقية المحددة سلفا؟ من فهم اللغة الطبيعية إلى التعرف على الأشياء بصريا، يندرج عدد كبير بدرجة مدهشة من الأنشطة ــ حتى تلك البسيطة ظاهريا ــ تحت هذه الفئة. وقد ساعد هذا في الإبقاء على العديد من الوظائف "في أمان" من الأتمتة، ولكن ليس لفترة أطول كثيرا، نظرا للتقدم الكبير في مجال التعلم الآلي.
ينطوي التعلم الآلي في الأساس على عملية شديدة التعقيد في التعرف على الأنماط. وباستخدام مجمعات ضخمة من البيانات وقوة الحوسبة الهائلة، تتعلم الآلات القيام بأشياء لا يمكننا صياغتها في رموز مشفرة. وهي تفعل هذا باستخدام أمثلة بدلا من المنطق القائم على القواعد. لقد فتح التقدم والتطور في مجال التعلم الآلي مناطق جديدة واسعة من الأتمتة: الروبوتات، والمركبات ذاتية القيادة، ومسح المؤلفات الطبية الفنية بحثا عن بنود أو مقالات رئيسية. وفي العديد من المجالات ــ مثل التعرف على الأنماط في علم الوراثة وعلوم الطب الحيوي ــ أصبحت الآلات قادرة على الحلول محل العاملين البشريين؛ ليس هذا وحسب، بل إن قدراتها في نواح معينة تفوق قدرات أي إنسان.
هذه الأخبار أفضل مما قد يبدو. صحيح أن عددا أكبر كثيرا من المهام والمهام الفرعية سيعاد تخصيصها للآلات، ولكن الغرض والمقصد النهائي للثورة الرقمية لابد أن يكون تحويل أتمتة العمل إلى زيادة رقمية. وعندما تؤدي الآلات مهام لا يستطيع البشر القيام بها، فإن الزيادة هي ما نحصل عليه بالتحديد.
على الرغم من استحالة الجزم على وجه اليقين في هذه المرحلة المبكرة، فهناك سبب وجيه يحملنا على الاعتقاد بأن تكاليف الانتقال في هذه الجولة الجديدة من الارتباكات المرتبطة بالعمل ستكون موزعة على نطاق أعرض عبر طيف الدخل مقارنة بالجولة الأولى. فعند الطرف الأدنى من طيف الدخل على مستوى العالم، سيؤدي التقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوتات إلى إرباك وتعطيل التصنيع الذي يحتاج إلى عمالة كثيفة، وإزاحته في نهاية المطاف ــ وبالتالي نماذج التنمية التي تعتمد عليه. وعند الطرف الأعلى، ستخلف القدرات القائمة على التعلم الآلي تأثيرا ضخما على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، فضلا عن الخدمات المهنية المتطورة.
مع ذلك، تظل الحقيقة المؤكدة هي أننا نتعامل مع تحولات شديدة التعقيد، وليس مسألة توازنات: ولا يجوز لنا أن نتوقع التكيف الطبيعي من قِـبَـل العمال وأسواق العمل لتحقيق نتائج عادلة، وخاصة في ظل الفوارق الضخمة في موارد الأسر كنقطة بداية. لهذا السبب يجب على صناع السياسات (بالمشاركة مع الشركات والعمالة والمدارس) التركيز على التدابير الكفيلة بالحد من التفاوت في الدخل والثروة، بما في ذلك ضمان الوصول الواسع النطاق إلى الخدمات الاجتماعية العالية الجودة مثل التعليم والتدريب على المهارات. في غياب هذا النوع من التدخل، ينشأ خطر حقيقي يتمثل في تسبب التحول الرقمي الطارئ على نماذج العمل في تخلف عدد كبير من الناس عن الركب، مع كل ما قد يترتب على ذلك من عواقب سلبية بعيدة الأمد على التماسك الاجتماعي.