القبضة التي تمسك بخناق الدولار تزداد إحكاما
بروجيكت سنديكيت
2020-10-01 04:10
بقلم: ستيفن روش
نيوهافين ــ دخل الدولار الأميركي الآن المراحل الأولى لما يبدو أشبه بهبوط حاد. فقد انخفض سعر صرف الدولار الفعلي الحقيقي بنحو 4.3% في الأشهر الأربعة المنتهية في أغسطس/آب. وكان الانحدار أكثر حدة عندما يُـقاس على مؤشرات أخرى، لكن سعر صرف الدولار الفعلي الحقيقي هو الأكثر أهمية للتجارة، والقدرة التنافسية، والتضخم، والسياسة النقدية.
من المؤكد أن التراجع الأخير يشكل ارتدادا جزئيا فقط عن الارتفاع المسجل من فبراير/شباط إلى إبريل/نيسان بما يقرب من 7%. أثناء تلك الفترة استفاد الدولار من الهروب إلى الأمان الذي استحثه "التوقف المفاجئ" الذي طرأ على الاقتصاد العالمي والأسواق المالية العالمية نتيجة الإغلاق بسبب جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). وحتى مع التصحيح المتواضع الأخير، يظل الدولار الأميركي العملة الرئيسية الأكثر مبالغة في تقدير قيمتها في العالم، حيث لا يزال سعر صرفه الفعلي الحقيقي أعلى بنحو 34% من أدنى مستوى بلغه في يوليو/تموز 2011.
ما زلت أتوقع أن ينخفض مؤشر الدولار العريض هذا بنسبة قد تصل إلى 35% بحلول نهاية عام 2021. ويعكس هذا ثلاثة اعتبارات: التدهور السريع في اختلالات الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة، وصعود اليورو والرنمينبي كبدائل قابلة للاستخدام، ونهاية تلك الهالة الخاصة المتمثلة في الاستثنائية الأميركية التي أعطت الدولار القدرة على الصمود طوال القسم الأعظم من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الآن، يؤدي العامل الأول ــ اختلالات التوازن المتصاعدة في أميركا ــ دوره حتى النهاية وبقوة في الزمن الفعلي. والواقع أن اقتران التآكل غير المسبوق الذي طرأ على المدخرات المحلية وعجز الحساب الجاري ــ مع اتصالهما من خلال الهويات المحاسبية ــ كان مذهلا في أقل تقدير.
هبط معدل الادخار الوطني الصافي، الذي يقيس مجموع الادخار المعدل تبعا للاستهلاك للشركات، والأسر، والقطاع الحكومي، إلى المنطقة السلبية ــ عند مستوى 1% بالسالب في الربع الثاني من عام 2020. لم يحدث أمر كهذا منذ الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009، عندما هبط صافي المدخرات الوطنية إلى المنطقة السلبية لتسعة أرباع متتالية، بمتوسط 1.7% بالسالب من الربع الثاني من عام 2008 إلى الربع الثاني من عام 2010.
لكن الجانب الأكثر أهمية في هذا التطور هو سرعة الانهيار. فبنسبة 1% بالسالب في الربع الثاني، هبط صافي معدل الادخار بنحو 3.9% كاملة من مستوى ما قبل كوفيد-19 في الربع الأول الذي بلغ 2.9%. وهذا أكبر انخفاض مسجل على الإطلاق في المدخرات المحلية منذ عام 1947.
الواقع أن ما أفضى إلى هذا الانهيار غير المسبوق في صافي المدخرات المحلية ليس سرا. فقد أشعلت جائحة كوفيد-19 شرارة زيادة مؤقتة في المدخرات الشخصية والتي تخطاها التوسع غير المسبوق في عجز الميزانية الفيدرالية. تضمن قانون مكافحة فيروس كورونا ودعم جهود الإغاثة وتعزيز الأمن الاقتصادي (CARES) شيكات إغاثة بقيمة 1200 دولار أميركي لأغلب الأميركيين، فضلا عن التوسع الحاد في إعانات التأمين ضد البطالة، وكل من الأمرين عمل على تعزيز معدل الادخار الشخصي إلى مستوى غير مسبوق بلغ 33.7% في إبريل/نيسان. وفي غياب عمليات الضخ لمرة واحدة هذه، سرعان ما تراجع معدل الادخار إلى مستوى ظل مرتفعا (17.8%) في يوليو/تموز ومن المنتظر أن يسجل هبوطا أشد حدة مع انتهاء صلاحية إعانات البطالة الموسعة مؤخرا.
عوض عن هذا زيادة قدرها 4.5 تريليون دولار أميركي على أساس سنوي في العجز الفيدرالي خلال الربع الثاني من عام 2020 (على أساس صافي الادخار)، لكي يصل إلى 5.7 تريليون دولار، مما أدى إلى إغراق الزيادة التي بلغت 3.1 تريليون دولار في صافي المدخرات الشخصية في ذات الفترة. ومع احتمال تراجع المدخرات الشخصية بشكل حاد في الأشهر المقبلة وانفجار عجز الموازنة الفيدرالية بنحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي الحالي، وفقا لمكتب الموازنة في الكونجرس، فإن الهبوط الحاد في صافي المدخرات المحلية في الربع الثاني من عام 2020، ليس أكثر من تلميح لما ينتظرنا.
هذا من شأنه أن يفضي إلى انهيار عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة. مع افتقارها إلى الادخار ورغبتها في الاستثمار والنمو، يتعين على الولايات المتحدة أن تستورد المدخرات الفائضة من الخارج وأن تدير عجزا خارجيا ضخما لاجتذاب رأس المال الأجنبي. ومرة أخرى، هذه ليست نظرية اقتصادية مقصورة على فئة بعينها ــ بل مجرد هوية محاسبية بسيطة لميزان المدفوعات.
الواقع أن صحة هذا الربط تأكدت من خلال الإصدار الأخير لإحصاءات المعاملات الدولية الأميركية للربع الثاني من عام 2020. وبما يعكس انخفاض المدخرات المحلية، اتسع عجز الحساب الجاري إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي ــ وهو الأسوأ منذ العجز الذي بلغ 4.3% في الربع الرابع من عام 2008 أثناء الأزمة المالية العالمية.
مثله كمثل انهيار الادخار، تتكشف ديناميكية الحساب الجاري بطريقة شرسة بذات القدر. فنسبة إلى عجز الحساب الجاري بنحو 2.1% في الفترة الأولى من عام 2020، كان الاتساع بمقدار 1.4 نقطة مئوية في الربع الثاني أكبر تدهور فصلي مسجل على الإطلاق (والذي يرجع إلى عام 1960).
في ظل احتمال اتجاه صافي معدل الادخار المحلي إلى أعماق غير مسبوقة تتراوح بين 5% إلى 10% بالسالب من الدخل الوطني، أتوقع تماما أن يكسر عجز الحساب الجاري رقمه القياسي السابق البالغ 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي المسجل في الربع الرابع من عام 2005. الواقع أن انهيار الادخار المحلي والحساب الجاري، المدفوع بالارتفاع الهائل في عجز الميزانية الفيدرالية هذا العام، يجب أن تتوالى فصولة بسرعة تقرب من سرعة الضوء.
وليست اختلالات الادخار والحساب الجاري المزعزعة للاستقرار بسرعة كبيرة هي فقط التي تفرض ضغوطا تدفع الدولار إلى الهبوط. إذ يشكل التحول في استراتيجية سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي مكونا جديدا ومهما في هذا المزيج. من خلال الانتقال إلى نهج يستهدف الآن متوسط التضخم، يبث بنك الاحتياطي الفيدرالي رسالة مهمة مفادها أن أسعار الفائدة صِـفر من المرجح أن تستمر لفترة أطول مما كان متوقعا في السابق، بصرف النظر عن أي تجاوزات مؤقتة لهدف استقرار الأسعار بنسبة 2%.
الواقع أن هذا التحيز الجديد تجاه التسهيلات النقدية يغلق فعليا الباب أمام خيار مهم ــ التعديلات التصاعدية لأسعار الفائدة ــ التي خففت لفترة طويلة من انخفاضات العملة في أغلب الاقتصادات. بحكم المعتاد، يفرض هذا قدرا أكبر من الضغوط على الدولار المتراجع باعتباره صمام التصريف للإفلات من اختلالات توازن الاقتصاد الكلي المتدهورة بسرعة في أميركا.
الأمر باختصار أن القبضة الخانقة تزداد إحكاما على الدولار الذي تظل قيمته مبالغا في تقديرها. والآن يتراجع الادخار المحلي على نحو غير مسبوق، ويسير على خطاه رصيد الحساب الجاري. ومن غير المتوقع أن يهرع بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي يركز بشكل أكبر على دعم أسواق الأسهم والسندات مقارنة باعتماده على التضخم، لإنقاذ الموقف. لقد بدأ انحدار الدولار للتو.