العواقب الاقتصادية المترتبة على عدم اليقين العالمي
بروجيكت سنديكيت
2019-03-28 04:25
مايكل سبينس
بكين ــ يمر الاقتصاد العالمي بحالة من الضعف، وهو ما يرجع إلى حد كبير إلى شعور عميق واسع النطاق بعدم اليقين. وتُعَد "الحرب التجارية" الصينية الأميركية الجارية أحد المصادر الرئيسية لعدم اليقين.
كما أوضح لورنس جيه. لاو من جامعة ستانفورد فإن المشكلة ليست أن تبادل فرض التعريفات الجمركية خلف تأثيرا ضخما بشكل خاص، ربما باستثناء قطاعات اقتصادية أميركية وصينية بعينها. بل تسبب هذا الصراع في إلقاء ظلال من الشك على مستقبل التواصل الاقتصادي العالمي، الأمر الذي أدى بدوره إلى انخفاض الاستثمار والاستهلاك في الصين والولايات المتحدة، وبين شركائهما التجاريين.
علاوة على ذلك، عملت الدولة الصينية على توسيع دورها في الاقتصاد. فقد عادت الشركات المملوكة للدولة مرة أخرى إلى كونها الشركات المفضلة بين الشباب الباحثين عن عمل وفي أعين القطاع المصرفي المملوك للدولة إلى حد كبير، حتى برغم أن العديد من الشركات المملوكة للدولة تحتاج إلى إعادة الهيكلة وليس الإبقاء عليها طافية بالكاد. في الوقت ذاته، تواجه شركات عديدة في القطاع الخاص ندرة الائتمان وتكاليفه الباهظة، وتبدو حالات الإفلاس في ارتفاع. وقد أثبتت التدخلات السياسية الدورية لمعالجة أوجه عدم التماثل القائمة منذ أمد بعيد بين القطاعين العام والخاص أنها غير كافية.
وفي الولايات المتحدة، يشهد الاقتصاد حالة من التراجع بعد التحفيز المالي الموافق للدورة الاقتصادية التي كان من المحتم أن يخلف تأثيرات سلبية معتدلة. حتى وقت قريب للغاية، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي حريصا على إحكام السياسة النقدية، مع تأخر تأثيرات أسعار الفائدة الأعلى، ربما بفِعل التخفيضات الضريبية التي أقرتها إدارة ترمب في ديسمبر/كانون أول 2017.
من ناحية أخرى، يشير تقرير حديث صادر عن مجلس العلاقات الخارجية إلى أن الوظائف في التصنيع، والبناء، والتعدين أصبحت نادرة نسبيا، في حين يتزايد عدد فرص العمل المتاحة في مجموعة من الصناعات الخدمية الأعلى إنتاجية. بشكل أكثر عموما، كان نمو الإنتاجية يتجه نحو الانخفاض، على النحو الذي يقلل من آفاق النمو في الأمد البعيد. ويلاحظ تقرير صادر عن معهد ماكينزي العالمي أن هذا الاتجاه يرجع جزئيا إلى تأخر تنفيذ تكنولوجيات رقمية جديدة. يتمثل عامل آخر في عدم تطابق المهارات على نحو متزايد، الأمر الذي ساهم أيضا في تقييد حركة العمالة بين الوظائف العمالية التقليدية والخدمات.
كما تضيف التطورات السياسية إلى حالة عدم اليقين. ففي الولايات المتحدة، لا أحد يدري ما إذا كانت الانتخابات الرئاسية في عام 2020 لتسفر عن فترة رئاسية ثانية للرئيس الحالي دونالد ترمب أو إدارة ديمقراطية جديدة تحكم إما من الوسط أو أقصى اليسار. والآن أصبح نطاق السيناريوهات السياسية المحتملة ــ من تدابير مكافحة الاحتكار ضد المنصات الرقمية الكبرى إلى مخططات الرعاية الصحية الشاملة وتغييرات رئيسية في النظام الضريبي ــ أكثر اتساعا مما كان عليه طوال عقود من الزمن.
ولا يختلف الوضع في أوروبا كثيرا. فمع صعود القومية والشعبوية (من اليسار واليمين)، اكتسبت الأحزاب المناهضة للمؤسسة المزيد من الأرض أو استولت على السلطة في العديد من الدول. وفي ضوء هذه التطورات، يبدو من غير المرجح على نحو متزايد أن يقوم الاتحاد الأوروبي بإجراء الإصلاحات البنيوية المطلوبة بشدة. وما يزيد الطين بلة أن الزعيمين الوحيدين اللذين يمكنهما الدفع بمثل هذه التدابير، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تمكن منهما الضعف سياسيا، حيث أعلنت ميركل أن هذه الولاية ستكون الأخيرة لها، واضطر ماكرون إلى التعامل مع احتجاجات واسعة النطاق (وعنيفة في كثير من الحالات) منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
بقدوم شهر مايو/أيار، سوف تتجه كل الأنظار إلى انتخابات البرلمان الأوروبي، والتي قد تسفر عن تغيرات جذرية في القائمين على الأمر في المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية. وما يزيد الأمور تعقيدا أن المملكة المتحدة انزلقت إلى حفرة الخروج من الاتحاد الأوروبي، مما يضيف إلى مناخ عدم اليقين.
على الصعيد الاقتصادي، خلفت المشاكل الألمانية ــ التي ترجع إلى قطاعها الصناعي الضخم وتعرضها بشكل كبير للتطورات في الصين ــ تأثيرات غير مباشرة في مختلف أنحاء أوروبا. ولا تزال إيطاليا عالقة في فترة دامت عقدين من الزمن من النمو المنخفض، مع ارتفاع البطالة بين الشباب إلى مستوى لا يمكن احتماله (32%). والأسوأ من ذلك أن الحكومة الإيطالية اتخذت نهج المواجهة في التعامل مع الاتحاد الأوروبي بشأن القواعد المالية، لكنها تفتقر إلى خطة مقنعة لتحقيق النمو الطويل الأمد. ومع عودة الديون السيادية الإيطالية إلى الارتفاع باتجاه 140% من الناتج المحلي الإجمالي، لا يخلو الأمر من أسباب للقلق من تسبب ارتفاع العائدات على السندات الحكومية ــ كما حدث في الفترة 2010-2012 ــ في استفزاز أزمة مالية.
إذا حدث ذلك، فمن غير الواضح كيف قد يستجيب البنك المركزي الأوروبي. في كل الأحوال، سوف يضيف غياب النمو القوي إلى هشاشة القطاع المصرفي الإيطالي، حيث تميل القروض المتعثرة إلى الارتفاع مع رياح النمو المعاكسة. وهذا بدوره سوف يؤدي إلى ضائقة ائتمانية فضلا عن الأضرار التي ستلحق بالقطاعات التي لا تزال موفورة الصحة في الاقتصاد الإيطالي.
على نطاق أوسع، تأتي أوروبا متأخرة خلف قوى أخرى في ما يتصل بالإبداع وتبني التكنولوجيات الرقمية. لكن التكنولوجيات الرقمية ذاتها تساهم أيضا في تفاقم حالة عدم اليقين العالمي. وبقدر ما يتسم مدى تأثير المنصات الرقمية على العمليات السياسية بعدم الوضوح؛ هناك وفرة من الأدلة التي تشير إلى أنها تسببت في تضخيم خطوط الصدع الاجتماعية وجعلت التلاعب بالانتخابات الديمقراطية واستغلالها أسهل. وتحت خطوط الصدع هذه، تكمن اتجاهات اقتصادية قوية، وخاصة استقطاب سوق العمل والدخل الذي بات واضحا في مختلف الاقتصادات المتقدمة.
الواقع أن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة انتقالية كبرى، وذلك نظرا لظهور الاقتصادات الناشئة، وخاصة في آسيا، والتحول الرقمي لنماذج الأعمال وسلاسل العرض العالمية. تشكل الخدمات حصة متنامية من التجارة العالمية، ولا يزال البحث جاريا عن مصادر جديدة للميزة النسبية. تتسم مواقع الأسواق النهائية وتكوين سلاسل العرض بالتغير المستمر، أو ربما تنقلب بالكامل رأسا على عقب. وعلى الرغم من وضوح احتياج هياكل الحوكمة العالمية وقواعدها إلى إصلاح شامل، فإن المؤسسات الدولية القائمة تفتقر إلى القدرة على المضي قدما في مثل هذه التغييرات بمفردها، ولا يبدو أن حكومات القوى الاقتصادية الرائدة في العالم على قدر هذه المهمة.
الواقع أن هذه الاتجاهات الاقتصادية والسياسية المتنوعة مجتمعة قد تؤدي أو لا تؤدي إلى أزمة عالمية أخرى أو توقف مفاجئ. وفي أي من الحالين، سوف تدعم هذه الاتجاهات فترة مطولة من عدم اليقين الجذري. وفي ظل هذه الظروف، ربما يبدو الحذر أفضل سياسة تنتهجها الشركات، والمستثمرون، والمستهلكون، بل وحتى الحكومات. لكن الحذر ذاته ليس بلا تكاليف: فالشركات والدول التي تفشل في الاستثمار بالقدر الكافي في تكنولوجيات رقمية جديدة، على سبيل المثال، ربما يكون مصيرها الفشل والاستسلام. وطالما بقيت القواعد والمؤسسات التي تحكم الاقتصاد العالمي موضع شك، فمن المتوقع أن يستمر ضعف الأداء.