الاقتصاد السياسي للعراق: الرؤية والمستقبل
د. مظهر محمد صالح
2018-07-10 05:40
1. المدخل
يمثل السوق بشكل دقيق واسطة تمتاز عن أي من أشكال التنسيق الاقتصادي الاخرى ذلك بتوفيره آصـرة اجتماعيـة مـلزمة للملكية الخاصة. فالسوق المتروك لنفسه يضل اعمى البصر اجتماعياً وبيئياً. وهـو ليس في وضـع يستطيع فيـه ان يهيئ السلع بوتيرة مناسبـة ليضعـها تحت التصرف العام. ولكي يستطيع السوق ان يفتـح بـذور وازهار فعاليته بإيجابية حقيقية، فإنـه بـحاجة الـى انظمـة وضوابـط وعـقوبـات كفـؤءة ترسمـها الدولـة لفـرض الانضـباط تؤازرها قوانين اكثر فعاليـة لانتظام الكيان الاقتصادي وبناء اسعار عادلة ومستقرة.
فمن وحي تلك الأسطر التي جاء بها برنامج هامبورغ للحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني للعام 2007 في أعلاه وجدنا من المناسب التصدي لمستقبل العلاقة بين الدولة والسوق في الإقتصاد العراقي والوقوف على طبيعة التحول من المركزية الريعية الى ديمقراطية السوق.
اذ مازالت الثروة النفطية هي المورد السيادي المالي الغالب الذي تصطف حوله قوة الدولة الإقتصادية والسياسية مركزياً سواء في دور عوائد النفط في تركيب الناتج المحلي الإجمالي الذي لايقل عن 45 – 55% من اجمالي الناتج المذكور أو في موارد الموازنة العامة الاتحادية التي تزيد على90%. لذلك وُسم النظام الاقتصادي في العراق (الذي مازال يحمل صفات الدولة الريعية وبميول وتوجهات إقتصاد السوق)، بنظام: الدولة – السوق لاكن دون تلازم حقيقي يذكر. فالتحقق في طبيعة الامن الإنساني (الذي لازم نظام الدولة – السوق) قد أعطى تعظيماً لدور الدولة في تشغيل وتوليد مايسمى بالدولة الكبيرة.
إذ تعاظمت أعداد المشتغلين في الوظائف الحكومية خلال السنوات العشر الأخيرة بنحو 4 مرات في حين تزايدت المعاشات من أجور ورواتب بنحو 7 مرات وأصبح الدخل الحكومي مسؤول عن توفير العيش لقرابة 20 مليون انسان باستثناء المتقاعدين والرعاية الاجتماعية وعلى وفق نظام الإعالة في العراق. بمعنى آخر ان اربعة ملايين موظف أو اكثر أصبحوا مسؤولين على إعاشة خمسة افراد (موظف واحد لكل اسرة) ليصبح الأمن الإنساني مغطى مباشرةً بنسبة 60% من سكان العراق عدا (الرعاية الإجتماعية والمعاشات التقاعدية). فتوزيع الدخل على منحنى لورنس في العراق يقدر بنحو 39% وهو أفضل من مجموعة كبيرة من البلدان ذات الأسواق الناشئة في آسيا وامريكا اللاتينية من حيث عدالة التوزيع. وهكذا وُلدّ من نظام (الدولة – السوق) صمام أمان في الامن الإنساني وهو نظام حصانة مجتمعية ذاتي يحمل الكثير من العدالة ولكن لايمكن اعمامه كنظام لبناء الحياة الاقتصادية واستدامتها طالما ظل التشغيل مقتصراً على الوظائف الحكومية أو الارتباط بها (بغض النظر عن كونها منتجة أو غير منتجة) كسياسة لتوزيع الدخل الوطني الريعي عبر موازنات الدولة وتوفير فرص العمل الحكومية دون تعظيم الإنتاج الحقيقي وتنويع مصادر الدخل الوطني الاخرى في النشاط الخاص وجمود برامج تنمية قوية وفاعلة موجهه نحو استدامة اقتصاد السوق.
2- اجتماعيات الاقتصاد السياسي في العراق ومشكلاته
ثمة تضاد بين نشوء السلطة الريعية الشديدة المركزية وبين السوق الوطني المولد للطبقة الوسطى والموفر للأمن الإنساني ومواجهة الفقر. وهما متغيران متضادان في رسم صياغة متسقة للنظام الاقتصادي للعراق. فالسلطة المركزية الريعية لاتسمح بطبيعتها بولادة السوق المستقل مما يعني موت الطبقة الوسطى المستقلة بموت السوق او تدهوره. وبناء على ذلك فالتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها صراعات الانظمة السابقة في إدارة الاقتصاد السياسي للعراق اقتصرت على طبقة وظيفية محدودة ومجموعات منتفعة مرتبطة بتلك الانظمة. ومع تدهور الريع النفطي او عوائد النفط بسبب الحروب والصراعات الماضية انحدرت الطبقة الوظيفية على سبيل المثال الى صفوف الطبقة الفقيرة لتشكل الطبقة الفقيرة خلال العقد التسعيني قرابة 80% من سكان العراق.
وهكذا فإن الاشكالية المركزية في تركيبة النظام السياسي أدت الى ولادة إشكالية اكبر في عجزها في حماية الطبقة الوظيفية نفسها والتي تدهور أمنها الإنساني بإهتزاز مقومات الأمن العام في البلاد ولم يستطيع النظام السابق على سبيل المثال من فصل رعايته لموظفيه الحكوميين عن مشكلاته الأمنية الواسعة ومن ثم فقدانه لنظام مستقر للرعاية الاجتماعية. وعلى الرغم من تواجد رأسمالية الدولة والتي تقابلها اليوم رأسمالية مالية ليبرالية ولاسيما بعد العام 2003، إلا ان سياسة التوظيف الحكومي الواسع كانت مصدة قوية لتوليد نظام مؤقت ذاتي وكبير للرعاية الاجتماعية.
فثمة تضاد مازال مستمراً بين نشوء السلطة الريعية المولدة للطبقة الوسطى الوظيفية والتي رافقها نظام رعاية وأمن اجتماعي وظيفي واسع النطاق، وبين تعطل السوق في توليد طبقة وسطى مكتملة مستقلة من خارج الحكومة تضمن النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام. وبهذا فقد العراق جزءاً من بوصلته الاقتصادية الذي انتهت بموجبه كلتا الرأسماليتين (رأسمالية الدولة والرأسمالية المالية الليبرالية) متباعدتين دون ان يتوافر فكر انمائي موحد او رؤية مشتركة في ادارة التنمية وايجاد رابطة موحدة للأمن الانساني الا من خلال الوظائف العامة. كما استمر النظام الاقتصادي بإيجاد معادلة غير مكتملة بين رأسمالية الدولة الريعية ونظام السوق الحر (كقوة ليبرالية خارج الحكومة) في وقت ظلت اجهزة الدولة تعامل الاخير كمقاول ومجهز وليس شريك واضح في صنع المستقبل الاقتصادي وعلى وفق مبدأ توازن المصالح وصناعة شراكة تنموية حقيقية وبناء على ماتقدم نجد من الاهمية بمكان التصدي الى: بنية الانموذج الريعي – الليبرالي في منطلقاته وتحولاته وعلى النحو الاتي:
استطاعت الدولة المتحولة في العام 2003 من توصيف اطار نظامها الاقتصادي الجديد كنظام (ريعي – ليبرالي) بديل عن النظام الاقتصادي الهش (الدولة – الامة) وهو النظام (الريعي – المركزي) القائم على التمركز الشديد للدولة الفردية في العراق، الامر الذي ظل يحدد التوجهات المقبلة للسياسة الاقتصادية، وتركيب ثوابتها ومتغيراتها واتجاهاتها المالية والنقدية والتجارية والتشغيلية كافة كقوة مستهلكة تخدم ليبرالية الاستهلاك في ميكانيكيات هشة من اطراف السوق العالمية دونما قدرة على توليد الانتاج وتنويع الاقتصاد الوطني وفق الهيكلية الاتية:
أ- الدولة – المكونات: مشتقات الانموذج الريعي – الليبرالي:
جاءت السياسة الاقتصادية منسجمة وحالة مأزق الليبرالية في بلادنا كواحدة من دول العالم الثالث المتحولة (بين الديمقراطية والعولمة من جهة) و(الدولة – الامة) من جهة اخرى معتمدة على قاعدة النظام الاقتصادي (الريعي – الليبرالي) كبديل (للنظام الريعي – المركزي للدولة الامة). وانتهت كلتا الرأسماليتين في العراق بعد عام 2003 (رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة) متابعدتين في اسس الاغتراب عن التنمية ولكن منسجمتين في الحركة والاتجاه وبأهداف مشتركة توافق مسارات العولمة والانفتاح نحو السوق الدولية من دون أن يتوافر فكر إنمائي موحد أو رؤية مشتركة تجمعهم في نطاق متجانس للتعبير عن السوق الوطنية أو حتى التطلع الى التنمية الشاملة بهدف متماسك وموحد خارج فرص الاستهلاك والربح والمضاربة وانتزاع الريع.
إذ ظل فائض الموارد المالية العالي نسبياً حتى العام 2014 (الذي أمسك به رأس مال الدولة الريعية) مولداً ظاهرة تسوغها على سبيل المثال معدلات البطالة الفعلية المتواصلة في سوق شبه حرة وبمرتبتين عشريتين طوال عقد من الزمن، وهو إجراء أوهَن اتصال رأسمالية الدولة برأسمالية السوق في نهج استثماري متسق وبناء المستقبل الاقتصادي الواعد للبلاد. كما إستمر أداء السوق (كمقاول منفذ للموازنة الاستثمارية خارج النشاط الريعي واستثماراته) ضعيفاً يعكس وهن الشراكة الرأسمالية في منهج التنمية والتقدم الاقتصادي. إذ أشرت القدرة التنفيذية للمشاريع الاستثمارية الحكومية الملتزمة من القطاع الخاص معدلات تنفيذ لم تتجاوز 27 بالمئة من التخصيصات الاستثمارية السنوية لغاية العام 2014 وهي المشاريع والنشاطات الاستثمارية التي تولى القطاع الخاص تنفيذها عن طريق المقاولة في الغالب، بل تدنت النسبة بين (صفر بالمئة الى 10 بالمئة) في تنفيذ مشاريع حيوية مثل مشاريع المياه والمجاري والبلديات للعام 2013 على سبيل المثال وعلى وفق تقرير لجنة الخدمات في مجلس النواب.
ويلحظ ان هذا الاخفاق ظل حبيس المدرسة الليبرالية الجديدة التي تنظر الى الدولة بوصفها كياناً استغلالياً نهاباً بالضرورة وتنظر بالوقت نفسه الى القطاع الخاص بكونه جهة ريعية (تسعى الى تحصيل الريع حتى بالتهرب الضريبي rent seekes)) وهي قوة انتهازية بطبيعتها. وعلى الرغم من تدخل الدولة في نطاق ضيق لتنظيم المناخ القانوني لعمل السوق الليبرالية وتحديد قنوات اتصال الدولة مع السوق وفق الانموذج الريعي – الليبرالي، الا ان الليبراليين العراقيين وفكرهم السائد ظل يدعوا الى الفصل التام بين الدولة والقطاع الخاص دون احداث شراكة حقيقية. وعلى الخلاف من ذلك اخذت سلطة الائتلاف المؤقت في عام 2003 برسم الحدود القانونية لاندماج الاقتصاد الوطني باقتصاد العولمة ومن ثم رسمت مسارات السياسة الاقتصادية في محاورها المختلفة على مبادئ تحرير السوق العراقية وتسهيل إندماجها بأسواق العالم او(عولمة العراق) دون خلق انسجام لسوق وطنية موحدة مؤتلفة مع الدولة وعلى النحو الاتي:
اولاً: تبنى العراق منذ العام 2003 سياسات انفتاحية واسعة لتأسيس قواعد اقتصادية وتشريعية مهمة تعمل وفق آليات نظام السوق. إذ ساعد جُلها على تحسين تجارة العراق الخارجية الاستهلاكية. فبعد حصار اقتصادي دام اكثر من عقد ونيف من الزمن (ادى الى تهميش العراق في خريطة النظام الاقتصادي العالمي وحرمانه من فرص الاستثمار والتقدم والتنمية والمعرفة والتكنلوجيا (التي كان ينبغي ان تعينه على مواجهة المستجدات والتطورات التنموية والهيكلية السريعة التي حصلت للسوق الدولية وتغير قدراتها التنافسية بشدة خلال العقود الثلاثة الماضية).
فقد ظل العراق يعاني من أرث انعزاله عن محيطه الدولي في خضم عالم اجتاحته تيارات اندماج شركاته وتحرير اسواقه وتكاملها ولاسيما المالية منها وسيادة المذهب الليبرالي الجديد الذي اقتضى تحولات اقتصادية واسعة في مجال المعلوماتية والخدمات المالية التي تنسجم واممية النشاط الانتاجي. وبالرغم من ذلك نجد على العكس اذ قُيدت البلاد من الاندماج الإنمائي بالدور الذي تؤديه الشركات المتعددة الجنسيات في ازدياد الميزة التنافسية للمنتجات التي بدأت تولدها اسواق العالم.
وفي خضم هذه التبدلات في الفضاء التجاري والمالي الدولي، استطاع العراق بالرغم من ذلك الانتقال الى مستويات مهمة في التحول الى اقتصاد السوق لكسر اثار عزلته عبر الانخراط في مساحة قوية من الليبرالية الاقتصادية التي تركزت في تحرير مجالات تجارة العراق الخارجية من السلع والخدمات وسبل تمويلها، وكذلك مجالات التكيف الحاصل في الخدمات المالية وتحسين بيئة الاستثمار الاجنبي من خلال تشريع قانوني المصارف والاستثمار وقانون البنك المركزي وتعديل قانون الشركات، بما يسمح للمصارف الاجنبية العمل في العراق ويسمح بانتقال رؤوس الاموال وعلى نحو يخدم انفتاح العراق على العالم في ظروف اقتصاد ريعي مركزي صعب المراس في تفهم ليبرالية السوق. وعلى الرغم من أن هذه التحولات ادت الى توفير فرص ايجابية واسس قانونية وتنظيمية واعدة لبيئة الاعمال العراقية، الا ان كل ذلك لايكفي لوضع العراق على مسار المنافسة الاقتصادية الدولية وتنويع الاقتصاد وتيار نهوضه الإنمائي الصائب.
ثانياً: وعلى الرغم مماتقدم مازال هناك اكثر من الفي نص من النصوص التشريعية المعرقلة للحرية الاقتصادية ونشاط السوق، تتولى الاوساط القانونية اليوم دراستها والتي يقضي الحال تعديلها لكي يتمكن العراق من الاندماج في التجارة والاستثمار الدولي وتهيئته على سبيل المثال للانضمام الى منظمة التجارة العالمية وفق شروط العضوية فيها، كي تحصل بلادنا على شرط الدولة الاكثر رعاية ومبدأ المعاملة الوطنية وغيرها. واللافت، فإن تحرير السوق الوطنية وتوجهات اندماجها في السوق العالمية افضت اعرافاً اقتصادية وتوجهات ليبرالية منفلتة نسبياً، عملت على تجميد اية تشريعات (حمائية) تراعي التنمية وحقوق المستهلك والمنتج الوطني، وهي حقوق أممية تمارسها البلدان المختلفة لضمان تقدم اقتصاداتها من مشكلات الاغراق التجاري وقمع التنمية فيها. فعلى سبيل المثال لم تُفعل قوانين (التعرفة الكمركية والتنافسية وحماية المنتج الوطني وحماية المستهلك) بصورة كافية اذ ظلت هذه القوانين على الرغم من تشريعها منذ سنوات حبراً على ورق، ذلك لقوة المذهب الليبرالي السائد الذي ربط المؤسسة التشريعية وقواعدها الديمقراطية والرقابية بمناخ العولمة السائب لتجاوز المأزق التاريخي الايديولوجي المنوه عنه انفاً.
ب- منحى السياسة الاقتصادية في عقدة (الدولة – المكونات)
ثمة اتجاهين في الفكر الليبرالي أحاطا السياسة الاقتصادية للدولة وصلتها بالسوق في العراق
الاتجاه الاول:
لم تلق فكرة (الدولة – المكونات) او المحاصصات ضمن حل مأزق الليبرالية الجديدة في موضوع الدولة الصغيرة (small state assumption) بل على العكس فإن دولة المكونات اسهمت في بقاء مفهوم الدولة الكبيرة. إذ تحاول المكونات والمحاصصات الضغط الانفاقي صوب ابراز سعة (المكون) مالياً ولاسيما من خلال تعظيم المصروفات الاستهلاكية او الموازنة التشغيلية ويتصرف (المكون) مالياً وكأنما هو سياق محتمل او بديل (للدولة – الامة). وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الاتجاه في طبيعته المتناقضة قد سهل الخروج من مأزق الليبرالية الجديدة ذلك طالما ان الاندماج في السوق العالمية او العولمة يرى في (الدولة – المكونات) بانها مجرد (فيدرالية ديمقراطية) تحرك على إدامة المسارات الكلية للنظام الاقتصادي السياسي العالمي وتعزز من مفهوم (الدولة – السوق) وإن تلك المكونات (المحاصصات) لايمكن ان تتحول فيما بينها الى بناء (الدولة – الامة) في ايجاد وطن موحد يتمتع بالرفاهية والحرية الاقتصادية.
كما ان مخاطر السياسة (للدولة – المكونات) هي مكرسة انفاقياً صوب الاستهلاك النهائي لا للتنمية وتوجهاتها الانتاجية، ولاتعظم سوى مبدأ خطير في الجغرافية السياسية الدولية وهو مايسمى (بالاحيائية الاقليمية (Bioregionalism والتي تعني ذوبان (الدولة – المكونات) بالاقاليم السياسية والاسواق الاقليمية لدول الجوار المماثلة لها او لمعتقداتها عبر الحدود، وهكذا يرى الفكر الليبرالي في موضوع (الاسواق المتحاصصة) كمحاولة مرحلية لنقل ديمقراطية (الدولة – المكونات) الى (فيدراليات ديمقراطية) ترتبط بأسواق العالم ولكن على نحو اقوى من الرابطة الوطنية المركزية التي تراها (الدولة – الامة) قبل بلوغ مفهوم (الدولة – السوق).
والامثلة على ذلك منها تحريم تداول منتجات دول الجوار بعضها البعض داخل الاسواق المحلية وضعف السياج الكمركي السيادي وهشاشة فاعليته وغيرها من الامثلة في مخاطر الاحيائية الاقليمية التي اهمها انتقال فائض رأس المال التمويلي (financial capitalism) وتراكماته الى معاقله في اسواق الاقليم الجغرافي المحيط بالعراق وحرمان البلد من فوائض مهمة للتنمية.
الاتجاه الثاني:
ان سيادة المستهلك والنزعة الى الاستهلاك هما متغيران اساسيان يوجهان غايات النظام الاقتصادي ونشاطاته كافة كما تريده المدرسة الليبرالية في الاقتصاد العراقي. وإن المستهلك هو اشبه بالمالك اليوم كما يزعم اصحاب تلك المدرسة. وأن غايات السياسة جلها أمست ذات ميول استهلاكية او مغذية للنزعة الاستهلاكية على اقل تقدير. ولاتلتقي السياسات الليبرالية مع السياسات التي تتجه نحو التشغيل المنتج والمباشر لقوة العمل وتعظيم الرفاهية من خلال كثافة التراكم الرأسمالي المادي والبشري ومن ثم بلوغ شيء من الامثلية في الانتاج الحقيقي وصولا الى الرفاهية الاستهلاكية.
وبهذا طبعت الموازنات الاتحادية وصممت السياسات المالية الاتحادية على مدار عقد كامل لتلبية رغبة (الدولة – المكونات) التي تفرض قيداً انفاقياً يقضي تعظيم الجانب التشغيلي او الاستهلاكي في الموازنة الى اقصى حدود ممكنة وحسب تدفق العوائد الريعية النفطية ولكن على حساب تعثر مزمن في الموازنة الاستثمارية تفرضه اشكالية دولة المكونات نفسها، مستثنين من ذلك ارتفاع كفاءة الاستثمار في القطاع الريعي النفطي وتميزه لوحده. الذي هو مصدر ادامة حياة الدولة – المكونات المشتقة من الانموذج الريعي – الليبرالي. وهكذا ارتفع عدد العاملين في (دولة – المكونات) من 800 الف موظف حكومي في نهاية 2003 الى قرابة 4 ملايين ونصف المليون موظف حكومي في مطلع العام 2017 وهو أمر على الرغم من تعارضه مع المدرسة الليبرالية التي تؤمن بمفهوم الدولة الصغيرة (الدولة – الأمة) ولكن في مفهوم (الدولة – المكونات) يوجد مايسوغه فكراً وعملاً. فأصبحت السياسة المالية في توجهاتها اشبه ما بشركة تأمين على الحياة تتولى ادارة (ثلاثة ملايين ونصف المليون) متقاعد حكومي مقابله 4,5 المليون موظف هم في الخدمة الحكومية حالياً يتقاضون رواتب يبلغ متوسطها السنوي يصل الى ضعف حصة الفرد في الناتج المحلي الاجمالي.
اما سوق العمل المنتجة التي باتت خالية من التنظيم والضمان الاجتماعي، ذلك لقوة ليبراليتها المنفلتة وعدم تجانسها تنظيمياً في توصيف قواعد العمل والحقوق، فإن عدد العاملين المنتمين اليها والذين يزيد عددهم على ستة ملايين عامل، فهم اليوم ضمن حركة النشاط الخاص السائب حالياً ولايوجد ضمان اجتماعي فعال الا (لمئة وخمسين الفا) من العاملين منهم فعلاً او ربما اقل. وهناك عدد مماثل من العمال المتقاعدين، وهم بنحو 29 الف عامل متقاعد يتلقون مرتباً شهرياً وفق قانون الضمان الاجتماعي وبمبالغ شهرية ضئيلة لاتتجاوز 175 دولار للعامل المتقاعد الواحد زيدت في المدة الاخيرة لتضعه فوق خط الفقر بقليل بنحو 350 دولار. علماً ان العمال المنتظمين وفق قانون العمل والضمان الاجتماعي والمشمولين بصناديق الضمان العمالية لايتجاوز عددهم 150 الف عامل من اصل اكثر من ستة ملايين ونصف عامل منتمين الى اقطاع الاهلي كما ذكرنا انفاً.
وبهذا حاولت (الدولة – المكونات) ممارسة وظيفة (الدولة – الامة) المجزءة مكوناتياً في صراع ذاتي مع الانموذج (الريعي – الليبرالي) والتحول نحو (الدولة – الامة) من ناحية السلوك الانفاقي الداخلي وتغير مسارات السياسة المالية وتوجيهها باستعمال وظائف المالية العامة التقليدية في مصفوفة وظائف ونشاطات شديدة الانفاق وتمتلك قوة ليبرالية مشتقة من مأزق الديمقراطية لدولة المكونات، الامر الذي جعل الانفاق السيادي – الاستهلاكي المكوناتي يسير نحو اقصاه في التبذير والصرف. فكل (مكون) يحاول التصرف على انه الدولة – الامة المعظمة للإنفاق التشغيلي إزاء المكون الآخر.
وعُد مثل هذا السلوك التبذيري كارثة جرت في معطياتها تحريف عائدات النفط وتخصيصها نحو ظاهرة الاستهلاك الحكومي (الانفاق التشغيلي) في سلم اولويات المالية العامة وبما ينسجم وبنية دولة – المكونات والسوق الليبرالية الملتحمتين كلتيهما بالعولمة واسواقها الخارجية. فبين العام 2004 والعام 2014 تم صرف مايزيد على النصف تريليون دولار على الانفاق الحكومي الاستهلاكي والحصيلة مؤسفة في نتائجها. كما انعكست التصرفات المالية (للدولة – المكونات) على توجهات السياستين النقدية والتجارية وهما يتلقيان المتغيرات السالبة التي تدفع بهما القوى الانفاقية المستهلكة للدولة – المكونات العاملة في اطار ما اصطلح على تسمية (بالمحاصصة السياسية) وهي نزعة اثنية او مناطقية تفكيكية تبذيرية السلوك، استهلاكية غير منتجة وتتصرف من منطق الدولة – الامة وهي تلبس ثوب الدولة – المكونات.
وهكذا أمست القدرة التشغيلية للموازنة الاتحادية مُتسعةً في بناءها الاستهلاكي غير المنتج وهو المسار الذي جعل (الدولة – المكونات) ترتبط بالسوق العالمية عن طريق قنوات التجارة والتبادل الدولي والمالي المتنوع في فرص التنمية والغارقة في الرفاهية الاستهلاكية.
وتأسيساً على ماتقدم، فقد اخذ الفكر الاستهلاكي والنزعة الاستهلاكية في العراق بناء اولوياتها على مستوى السوق في اطار (الدولة – المكونات) وبأيدلوجيا ليبرالية استهلاكية معادية في سلوكياتها في بناء اسس التنمية، وهو مولدة في الوقت نفسه لثقافة اقتصادية لاتأبه بأن يكون المنتج السلعي المستهلك في العراق مصدره اسواق آسيا ام الاناضول، طالما ظلت اسواق العولمة هي مظلة الانتاج – الاستهلاك الموجه نحو الداخل بأقل التكاليف الممكنة. وهذا هو ماتريده التيارات الليبرالية من اقامة (الفيدراليات – الديمقراطية) المعولمة أو تجديد (الدولة – المكونات) التي تتطلع الى تكريس ثقافة رفاهية الاستهلاك من خلال تغيير طراز الحياة وتبديل نمط المعيشة وعلى وفق نزعة مجتمعية تبذيرية شديدة الاستهلاك قليلة الانتاج.
3- الرؤية المستقبلية: العراق 2030
لم تظهر الآصرة الليبرالية – الريعية او الدولة – السوق وعلى مدى عقد من الزمن، الا انموذجاً فريدا يقوي الاندماج في السوق الاستهلاكية العالمية او الذوبان بالعولمة الاستهلاكية وعلى وفق شروط التحول السياسي الديمقراطي نحو اقتصاد السوق. وان تعظيم الانفاق غير المنتج لعوائد الثروة النفطية وضياع العوائد الريعية في نظام توزيعي – استهلاكي، قد اسس لاقتصاد لايقوى على الاستثمار والانتاج باستثناء موارد الثروة النفطية ويقوي في نفس الوقت الاستهلاك الذي تغذيه اسواق العولمة وتؤازره وفرة نسبية من التراكمات المالية الادخارية وهي شبه معطلة وتتسرب في نهاية المطاف من ايدي القطاع الخاص الى معاقل مالية خارجية، وتدفع بها حالة اللايقين والتردد في اتخاذ القرار الاقتصادي الاستثماري المحلي او صناعته.وبناء على ذلك، فقد اصبحت الديمقراطية السياسية – وتعظيم الاستهلاك وعلى وفق تدني فرص العمل المنتظمة المنتجة في نشاط السوق، عنوانا ً لفراغ التنمية وضياع مستقبل البلاد الاقتصادي كقوة منتجة خارج حدود ومحددات الريع النفطي. وعلى الرغم من ذلك لاتنفي الديمقراطية السياسية نظاما ًاقتصاديا ً بديلا ً يحل محل الانفلات الليبرالي الاستهلاكي ويعظم من آصرة الدولة – السوق (الانتاجية) الاجتماعية، وان شرط الضرورة الموضوعية في مثل ذلك التحول يقتضي ماياتي:-
اولاً: اجراء تحول ايديولوجي في بناء الاقتصاد السياسي للعراق من (دولة – السوق) الى (دولة – السوق / الاجتماعي) وهو مفهوم يتفوق على مفهوم الدولة – الامة نفسها.
فالمواطنة العراقية هي الاساس الموضوعي في تكوين الانتماء السياسي لمستقبل التنمية الاقتصادية المستدامة في العراق.
ثانيا ً: على الرغم من ان الانموذج الاقتصادي (للدولة – السوق / الاجتماعي) يعكس تمثيلاً قوياً لرأسمالية الدولة، لكنه يمتلك قوة الشراكة بين الدولة والسوق او خلق الدولة التعاونية او التشاركية في بلادنا التي مازالت الدولة تهيمن فيها على موارد البلاد الطبيعية الرئيسية وعوائدها المدرة للدخل السريع. فالتيارات الماركنتالية الحديثة التي تؤمن بدور الدولة الاقتصادية الجديدة في العالم (وعلى خلاف المذهب الليبرالي الاستهلاكي). مازالت تؤكد على سبيل المثال اولوية رعاية الدولة الاشرافية او الرقابية او التشاركية على الجانب الانتاجي في لعملية
الاقتصادية. فالاقتصاد السليم في نظرهم، يتطلب وجود بنية انتاجية سليمة ترتكز على بنية
تشغيل عالية لقوة العمل وبأجور كافية ورقابة او شراكة فاعلة للدولة. فالتجارة، وعلى وفق
المذهب الماركنتالي الحديث هي ليست استيرادات جاهزة تتدفق من اسواق العولمة، بل انه إنتاج شراكة يرفد اسواق العولمة بالمنتج الوطني العراقي اي تنويع النشاط الانتاجي المشترك أي الغالب. وان التجارب الاقتصادية التي خطها الانموذج الاقتصادي الياباني او الكوري وحتى الصيني قد وضعت على اسس بديلة ادت الدولة فيها دور المشارك والملازم للإنتاج.
وبهذا جسدت التجربة الصناعية الاسيوية دور الدولة الماركنتالية الجديدة وهي الرأسمالية الاعظم
انتاجا والاوسع ازدهارا كشريك للقطاع الخاص. وعليه فقد اشارت الموازنة الاتحادية للعام 2017 في المادة (14) صراحةً الى الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص.
ففلسفة الدولة الراهنة هي الشراكة اولاً ثم الخصخصة المضمونة بقطاع حماية الانسان ثانياً وهما المسار الراهن والقادم للتحول نحو اقتصاد السوق.فالاقتصاد العراقي في ظروفه الريعية الحالية والسير في البرنامج الاصلاحي الذي اعلن في اب 2015 من جانب الحكومة العراقية والمنهج الوزاري الحكومي في العام 2014، هو توجه يتماشى مع الدور الاقتصادي الجديد للدولة، ويسهل الشراكة والاندماج بين الدولة والنشاط الانتاجي الخاص. اذ ان هنالك نص واضح وصريح جاء في المادة 14 من قانون الموازنة الاتحادية للعام 2017 وكذلك المادة 15 من القانون نفسه للعام 2016 يؤكدان مبدأ الشراكة الاستثمارية بين القطاع العام والقطاع الخاص، وعلى وفق ايديولوجية او منهجية إقتصادية تتخطى المنهج الليبرالي الاستهلاكي السائد (الذي اذا ما استمر فسيسهم لامحاله في تصديع الجغرافية السياسية والاقتصادية للعراق) من خلال العمل الجاد على تبني ايديولوجيا النشاطات الخالقة للسوق ذات النمط المنتج المتمثل بأشاعة الشركات المساهمة او المساهمة المختلطة وتهيئة الانتقال الى نظام السوق الاجتماعي الموحد كبديل للنظام الريعي-الليبرالي (المستهلك) الحالي والتخلص من اقتصاد سوق الظل (الاقتصاد غير رسمي وغير المعرف امام الهيئات الضريبية) والذي مازال يهيمن على 70% من نشاط القطاع الخاص حالياً.
خـتـامـاً:
إن تشييد نظام ديمقراطي للاقتصاد السياسي للعراق يقترب من مفهوم (الدولة - السوق/ الاجتماعية) والذي أشار اليه مشروع خطة التنمية الوطنية للأعوام (2018 – 2022) سيقود لامحالة الى ولادة الظروف الموضوعية في بلوغ غايات نظام السوق الاجتماعي بأركانه الثلاثة:
الاول خلق السوق: اي توليد انماط من الملكية المؤسسية التي تقوم على نظام الشركات وتسهيل تسجيلها واجازتها عبر تبسيط الاجراءات كسياسة عامة تتجه نحو تحسين مناخ الاعمال.
والثاني: تمويل السوق: عبر توجيه موارد الريع النفطي وتحويلها الى طاقات اقراضية ميسرة لقوى السوق المنتج (صناديق الاقراض الممولة من المورد السيادي ومثال ذلك برنامج اقراض 5 ترليونات دينار الى القطاع الخاص من البنك المركزي العراقي).
والاخير: حماية السوق: بصندوق التقاعد الوطني الموحد للدولة والقطاع الخاص. وهكذا ستتولى الدولة ضمان وحماية التنافسية ومنع الاحتكار واشاعة دولة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال إشاعة كفاءة الانتاج وعدالة توزيع الدخول والثروات وهي البنية الفلسفية التي تؤازر ديمومة السوق الاجتماعي. وهذا مانعمل علية في بناء الاقتصاد الوطني المتنوع وعلى وفق استراتيجية تطوير القطاع الخاص حتى العام 2030.