السبّ بين رجل الغابة ورجل الحضارة
محمد علي جواد تقي
2016-11-05 07:01
واجه رجلٌ من الأمويين، الامام السجّاد، عليه السلام، بالسبّ والشتم، ولم يسمع منه رداً، فكرر السب مرة ثانية وثالثة، فيما يلتزم الصمت إزائه، فظن الرجل أن الامام لم ينتبه اليه، فقال: إياك أعني...! فردّ عليه الإمام السجاد: وعنك أُغضي.
وفي واقعة مشابهة جرت مع الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، عندما واجهه رجلٌ من نفس الفئة، وأخذ يسبّ الامام الحسن وأبيه الامام علي، عليهما السلام، وبعد أن أكمل تهجمه العنيف، بادره الإمام بالقول: يا هذا...! أظنك غريبا؛ فإن كنت جائعاً أشبعانك، وإن عارياً كسوناك، وإن كنت فقيراً أغنيناك، وإن لم يكن لديك مسكن فان بيتنا يرحب بك.
عندما سمع ذلك الأموي هذا الكلام من الامام الحسن، عليه السلام، تغيّر في الحال، وقال للإمام: يا بن رسول الله، أتوب الى الله مما قلت لك، {والله أعلم حيث يجعل رسالته}، بمعنى أنه أقرّ بأن الامام ابن بنت رسول الله، وهو من الأئمة الأطهار.
وفي حديث مسجّل للإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- تحت عنوان: "السبّ وطريقة التعامل مع المخالفين"، يعزو سماحته التخلّف والتمزّق والاندثار الى شيوع ثقافة السب وتراجع ثقافة الأخلاق الحميدة، وأشار في طيات استشهاده بمثال ذلك الأموي مع الامام الحسن، عليه السلام، بأن الأمويين "إنما انقرضوا لأنهم أجلاف...".
وهذا يفسر التخلّف الذي يعاني منه المسلمون في العالم، ويضيف سماحته: "بأنه "بالتحلّي بالأخلاق الحميدة والسلوك الحسن والآداب الرفيعة تجذب العالم كله اليك.
وعليه؛ فان الانسان يجب أن يتحلّى بالاخلاق الحسنة – يضيف سماحته- من أصغر حلقة اجتماعية في البيت؛ مع أبنه ومع أخيه ومع أبيه ومع أمه، ثم مع جيرانه، وايضاً مع اصدقائه وزملائه، وجميع افراد المجتمع؛ الصغير منهم والكبير.
داؤنا فينا وما نشعرُ!
السبّ والطعن والقذف والتشهير وغيرها من ضروب الحرب الكلامية، إنما تصدر بواسطة أداة لطيفة وصغيرة في جسم الانسان، ألا وهي "اللسان"؛ هذه الجزء العضلي الكائن في الفم، له مهام حياتية ومصيرية، فهو يترجم شخصية الانسان ويعرفه للعالم الخارجي، فهو "مخبوء تحت لسانه"، ثم بامكانه التعبير عما يجول في فكره، وما يكنّه قلبه من مشاعر، والى جانب ذلك كله وغيره، يؤدي مهمة الرقيب الحسيب لجسم الانسان في أي مادة غذائية تدخل جوفه، مع ذلك يتحول الى هذا العضو الصغير الى أخطر عضو في جسم الانسان كله عندما ينحرف من مهمة البناء الى مهمة الهدم، الى درجة أن تتوجس جوارح الانسان، خيفة من أي حركة انفعالية تترك أثرها المباشر عليهم جميعاً، إن عاجلاً أم آجلاً.
وهذا ليس من الخيال الذهني بشيء، إنما هي حقيقة يؤكدها الامام السجاد، عليه السلام، حيث يقول: "ان لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كل صباح فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن ترتكتنا، ويقولون: الله الله فينا، ويناشدونه ويقولون: إنما نثاب ونعاقب بك".
وطالما حذرت النصوص الدينية من مهالك اللسان عندما يتحول فجأة الى أداة لمعارك كلامية ثم معارك دامية، او خلق فتن سوداء بين افراد المجتمع، بل وبين الشعوب والأمم، بيد أن المشكلة ليست في تجاهل هذه التحذيرات، إنما في الالتفاف عليها والتخفيف من حدتها باستسهال بعض أنواع الكلام الذي يتفوّه به الانسان، او ايجاد مبررات له، واحياناً يندفع البعض الى أبعد من ذلك، فيجد الأمر ضرورياً في معترك صراع على المال او المنصب او حول فكرة مثار نقاش.
لذا نجد البعض يتصور أن المهم؛ الغلبة والتفوق مهما كانت النتائج، فهو في البيت يتلفظ بما تمليه عليه نزعاته النفسية، فيتهجم على الطفل او الزوجة، او حتى بين افراد عائلته و اصدقائه، وليس بالضرورة ان يكون السبّ النمط الوحيد من مخارج الكلام، إنما هنالك الحدّة والغلظة والاستهزاء والاستخفاف والقدح وغيرها، وهي الاكثر شيوعاً في أوساطنا، وقد يخال هذا البعض أن كون له هالة من المَنَعة النفسية تقيه عيون وألسن الآخرين، بيد ان الآثار الحقيقية ما يكشفه الواقع الاجتماعي الذي ينعكس عليه هذا السلوك، فتكون النتيجة؛ النفرة والتباعد وعدم التفاعل فيما بين افراد المجتمع، فكلٌ يدّعي لنفسه الإمارة والسيادة...! ولا يجب ان يناقش او يُرد عليه.
هذه النتيجة حذر منها القرآن الكريم في الخطاب الموجه الى النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: {...ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم}، وهذا مصداق الواقع السيئ الذي تعيشه الامة، حيث التمزق والتخلف بسبب إطلاق الكلام غير المسؤول، واستسهال الحرب الكلامية الجارحة، مما تجعل كل فرد في المجتمع، وحتى داخل الاسرة الصغيرة يبحث عن زاوية صغيرة له يعيش فيها علّه يكتشف فيها شخصيته، وأن لا يتعرض للمزيد من الإهانة والإذلال، وهذا ما عناه سماحة الامام الشيرازي في تحذيره من أن الفجاجة والغلظة، رغم أنها صفة تعنى بالفرد، بيد أنها معولاً ينال من جسد شعب وأمة وحضارة، كما أستشهد بالدولة الأموية المعروفة بحنينها الى الجاهلية وعاداتها الصادمة للمشاعر الانسانية، فكان اندثارها السريع بيد الامويين انفسهم، إذ كانوا أهل سبّ وشتم بأقبح الالفاظ من أجل إلغاء الخصم وتكريس سطوتهم.
الغضب أقرب الطرق نحو ثقافة الغاب
ولن يندفع اللسان في معركة الكلام بالسبّ والقدح والقذف، إلا بقوة دفع عنيفة من عامل الغضب، الذي طالما بحثه علماء الاجتماع وعلماء الاخلاق، وحاولوا ايجاد كوابح له، لما ينطوي عليه من مضار على حياة الانسان بشكل عام، وهو ناتج عن استجابة نفسية لمشاعر الكراهية والبغض فيتلقى الدماغ الإيعازات السيئة وينقلها الى الدم فيحدث الغليان الشديد والانتشار في الاوردة والشرايين فتتوتر الاعصاب في الجسم وتظهر العلائم على الوجه سريعاً بالاحمرار والانقباض، ولن يكون المخرج – في بعض الاحيان- إلا بإطلاق العنان للّسان أن يطلق النار هنا وهناك للتخفيف من نار الغضب المشتعلة في داخل النفس.
ومن أبرز اسباب ركوب الانسان موجة الغضب، حسب رأي علماء الاجتماع، الشعور بالضعف والخوف من المهانة والاستخفاف الدائم أمام الآخرين، وهذا يفسّر بوضوح انفعال البعض لأبسط الامور وأتفهها، فيما هو يراها ذات اهمية وتمس شخصيته وكرامته، وهذا ما يخرجه سريعاً من الحالة الانسانية ليستحيل سبعاً ضارياً ينهش الطرف المقابل بسيل من الكلام الجارح.
وعندما نرى تظافر الاحاديث الشريفة من المعصومين، عليهم السلام، في نبث الغضب والتحذير من مخاطره، فنحن نرى الى جانبها السيرة العطرة المفعمة بالعفو والتسامح والحلم على أنها إحدى العلاجات المطروحة لنا لهذه الحالة المرضية، ولعل الحكايات التي يسجلها التاريخ بأحرف من نور عن مواقف الأئمة الاطهار، وقبلهم النبي الأكرم، مع المعارضين والمخالفين واستفزازاتهم، تكون لنا بمنزلة التجارب العملية تفيدنا في حياتنا اليومية، بأن نلجم الغضب بالحلم، ونعالج الموقف الغاضب بالعفو والتسامح.
مع العلم أن الغضب لا يترجم دائماً على حركات اللسان، إنما في أعمال أو اتخاذ قرارات مختلفة، فان علماء الاجتماع والاخلاق بحثوا في سبل عدّة لمعالجة هذه الحالة النفسية، ومنهم المرحوم العلامة الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه "النظام التربوي في الاسلام"، حيث يرصد تسع نقاط منها: "أن يضع أمامه فوائد الحلم وآثاره الجميلة من حسن السمعة وجميل الذكر، وأن يتصور أن الغضب دليل نقصان العقل ومرض نفسي يسبب السقوط من أعين الناس، وأن يضع نصب عينيه الامراض المترتبة على حدته وغضبه من انهيار الجهاز العصبي".
وكلما تمكّن الفرد والمجتمع من ترويض النفس وتهذيب الاخلاق وعلى أساسها صان اللسان من الزلل، كلما كان أقرب الى طريق النمو والتطور، لان "الكلم الطيب" لن يبقى في إطار المجاملات والاجواء الاجتماعية المحدودة، إنما ينعكس بقوة على الواقع الاجتماعي ويحكم الربط بينه وبين قيم السماء والسنن الإلهية، وهذا يبينه القرآن الكريم {اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، فالاثر البالغ لطيب الكلام يجعله نافذاً الى الأعالي، بينما يحتاج العمل الصالح أن يرفعه الله ويتقبله، وهل يتقدم شعب وأمة يشاع فيها الكلام القبيح والعمل الفاسد؟!.