استنزاف القيم الإنسانية

د. جمانة جاسم الاسدي

2025-08-26 03:11

في عالمنا المعاصر، حيث تتسارع الأحداث وتتبدل موازين القوى السياسية والاقتصادية، تبدو القيم الإنسانية في حالة تآكل واحتقان مستمر، تعيش المجتمعات تحت ضغوط متزايدة من الحروب، النزاعات، الأزمات الاقتصادية، والتطور التكنولوجي السريع، ما أدى إلى حالة من استنزاف القيم الأخلاقية والإنسانية التي كانت تشكل القاعدة الصلبة للعلاقات بين الناس والدول.

استنزاف القيم الإنسانية هو فقدان تدريجي أو تحجيم لمبادئ مثل الرحمة والتعاطف، العدالة والمساواة، الصدق والأمانة، احترام الكرامة الإنسانية، والتسامح والاعتراف بالآخر، وهذا الاستنزاف يظهر على شكل زيادة في العنف، التمييز والعنصرية، الانتهاكات والمخالفات، وانعدام الثقة بين الأفراد والمجتمعات.

أسباب استنزاف القيم الإنسانية ترجع بالدرجة الاساس إلى الحروب والنزاعات المستمرة، خاصة الحروب المسلحة سواء بين الدول أو داخلها، تدفع الناس للتركيز على البقاء والصراع، ما يقلل من فرص ممارسة قيم الرحمة والإنسانية، وترجع إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية كالفقر، البطالة، وعدم المساواة تزرع بذور اليأس والقسوة في النفوس، فتتراجع قيم التعاون والتضامن، كما أن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي رغم فوائدها، إلا أن بعض جوانبها تسرّع انتشار الكراهية، الأخبار المزيفة، والتطرف الفكري، ما يضعف قيم الحوار والتفاهم، وأخيرًا الفساد وانهيار المؤسسات فعندما تضعف الثقة بالمؤسسات، وتنتشر الفساد، يشعر الناس بأن القيم الأخلاقية ليست سوى شعارات فارغة.

وكنتائج عن هذا الاستنزاف للقيم الإنسانية نجد زيادة العنف والجريمة بحيث تنتشر مشاعر العدائية وعدم التسامح، مما يرفع معدلات الجريمة والعنف الأسري والاجتماعي، وتآكل النسيج الاجتماعي لأنه يفقد المجتمع تماسكه، وتكثر النزاعات الداخلية بين أفراده ومجموعاته، وضعف مؤسسات الدولة فيصبح الحكم أقل قدرة على توفير العدالة والأمن، وتتراجع المشاركة المدنية، بالإضافة إلى تراجع مستوى التعاون الدولي فتتصاعد النزاعات بين الدول بسبب غياب روح التعاون والاحترام المتبادل.

لمواجهة استنزاف القيم الإنسانية نحن بحاجة إلى تعزيز التربية الأخلاقية والإنسانية بتنمية ثقافة التسامح والاحترام منذ الصغر في المدارس والبيوت، ودعم المؤسسات العادلة والشفافة لتعزيز ثقة الناس بالحكومات والقضاء، ومكافحة الفقر والبطالة لخلق بيئة اجتماعية مستقرة تشجع على التضامن والتعاون، وتنظيم وسائل التواصل الاجتماعي لمنع انتشار الكراهية والأخبار الزائفة وتعزيز الخطاب البناء، وتعزيز الحوار الثقافي والديني للتقريب بين الشعوب ومواجهة التعصب والتطرف.

ختامًا- إن استنزاف القيم الإنسانية هو تحدٍّ مركب يعكس حالة عدم التوازن في العالم اليوم، لكنه ليس مصيرًا محتمًا، فبالعزيمة والعمل المشترك يمكن استعادة هذه القيم لتكون قاعدة صلبة لعلاقات أكثر سلامًا وعدالة، ولعالم يقدر كرامة الإنسان ويعلي من شأنها.

د. جمانة جاسم الاسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، استاذة في جامعة كربلاء

ذات صلة

ممر خور عبد الله: اتفاق ملاحي أم تنازل حدودي؟‏مثلث الأزمات في العراق.. الإعلام، الشائعات والسياسةالديمقراطية اللؤلؤة التي يحظر التفريط بها وطنيًّاريمون آرون بين بين قذارة الحروب واستعصاء السلام بين الدولالذاكرة العربية والقضية الفلسطينية: تفكيك المواقف وتحرير السرد