ماذا نقصد بالثقافة المتصلبة؟
منقذ داغر
2023-01-19 06:51
بقلم: منقذ داغر، ميشيل كيلفاند
بعد أن تم ايضاح سبب تخلينا عن مصطلح الشخصية العراقية، فقد تم اللجوء الى نظرية علمية جديدة لفهم المجتمع العراقي وسلوكه برزت خلال العقدين الأخيرين هي نظرية الثقافات الصلبة والرخوة Tight-Loose Cultures. يقصد بالثقافة الاجتماعية مجموعة القيم الفردية والمعايير الاجتماعية والافكار والعادات والتقاليد واساليب الحياة والتفكير والسلوك والآداب والفنون التي تميز مجموعة ما أو مجتمعاً معيناً وتعطيها الاحساس بهويتها المجتمعية وشخصيتها المميزة، وهي تتغير تبعاً للتفاعل مع البيئة التاريخية والجغرافية والاقتصادية والمادية التي تتواجد فيها تلك الثقافة. وبما إن الثقافة الاجتماعية هي نتيجة تفاعل الجماعة مع بيئتها، فلا توجد ثقافة جيدة وأخرى سيئة، كما لا توجد ثقافة اجتماعية متطورة وأخرى متخلفة بل توجد ثقافة ملائمة أو غير ملائمة للبيئة التي تتواجد فيها.
وإذا فهمنا الظروف الذي نشأت فيها وتفاعلت معها الجماعة فسنعرف حينذاك إنه لا يوجد سلوك جيد أو سيء وإنما سلوك ملائم أو غير ملائم للثقافة الاجتماعية. من جهة ثانية فلكل ثقافة اجتماعية مهما كانت، اوجه إيجابية أو عملية وفي الوقت ذاته اوجه سلبية اخرى.
بمعنى إن السلوكيات او المعايير الاجتماعية او حتى الثقافة الاجتماعية التي قد تبدو لنا متخلفة أو سلبية قد تكون مفيدة وإيجابية للجماعة نفسها، وإن الحكم يجب إن لا يكون وفق مقياس مطلق وإنما وفقاً للظرف الذي نشأت فيه تلك الثقافة.
ثالثا، هذا السلوك لا يمكن تصنيفه الى طرفين نقيضين أحدهما أسود والاخر أبيض. إن هذه الفلسفة تعطي لهذه النظرية ميزة كبرى تحل كثير من مشاكلنا الاجتماعية المعاصرة، أن هذه النظرية، شأنها شأن كل النظريات التي تبنت مدخل النشوء والتطور في دراسة المجتمعات تؤمن إن الثقافة الاجتماعية تتبع منهجاً تطورياً نتيجة التفاعل بين المجتمع وبيئته. لذلك فإن السمات التي يتميز بها أي مجتمع قد تكون متوارثة ومنقولة عبر أجيال تاريخية طويلة.
وخلال ذلك ونتيجة التفاعل المستمر بين ثقافة المجتمع وبيئته قد يحصل تغيير لتلك السمات وبالتالي لثقافة المجتمع. أي إن البيئة تؤثر في الارث الاجتماعي التاريخي . فحينما تعاني الجماعة من تهديدات بيئية مستمرة كالفيضانات والامراض والحروب وغضب الطبيعة، فإنها تبدأ بتطوير معايير اجتماعية وسلوكية صارمة تتيح لها ضبط الجماعة وتنسيق جهودها باتجاه التغلب على تلك الظروف أو مواجهتها.
هكذا نفهم لماذا تصنف الصين بانها ثقافة متصلبة مثلاً. فطوال تاريخ الصين الممتد لألاف السنين تعرضت لكثير من الاوبئة والحروب والاعاصير وسواها من الظروف التي كانت تهدد باستمرار استقرار المجتمع ومؤسساته. وفاقم من الموضوع الانفجار السكاني الهائل الذي طالما عانت منه الصين والذي أدى لزيادة كثافة السكان من جهة ومزيد من الضغط على الموارد الشحيحة أساساً بسبب الظروف البيئية من جهة أخرى.
هذا كله تطلب من المجتمع الصيني تطوير نمط ثقافي معين يمتاز بالانضباط الشديد والانصياع للمعايير المقابل ذلك فإن دول مثل نيوزيلندا وأمريكا والبرازيل امتازت بعوامل بيئية وتاريخية اقل تهديداً للمجتمع من جهة، وتمتعت بظروف اجتماعية واقتصادية وطبيعية ساعدتها على بناء ثقافة أكثر انفتاحاً تجاه المجتمعات والمجموعات الاخرى، بل نحو التغيير ايضاً.
هذه الثقافة الاجتماعية الرخوة لا تفتقد للمعايير السلوكية الاجتماعية، لكنها أكثر تسامحاً مع من ينتهكها او لا يلتزم بها. إن المجتمعات أو المجموعات الاكثر انفتاحاً وتفاعلاً مع المجتمعات أو المجموعات الاخرى نتيجة عوامل بيئية أو اقتصادية (مثل المدن التي تعيش على السياحة أو الموانئ والتجارة الخارجية) غالباً ما تكون ثقافتها الاجتماعية أكثر رخاوة لأنها تحتاج الى نمط من التفاعل المستمر مع مختلف الثقافات مما يجعل إمكانية تطبيق ذات المعايير التي تؤمن بها تلك الثقافة على المجتمعات الاخرى أكثر صعوبة اجتماعية بحيث إن أي انحراف عنها يؤدي الى معاقبة صاحب الانحراف اجتماعيا وربما مؤسسياً. في ظل هذا الفهم لنشوء وتطور الثقافة الاجتماعية، فهل طور العراقيون ثقافة صلبة أم رخوة، ولماذا؟