في الثقافة الاجتماعية العراقية: نظرية حديثة لفهم المصطلح

منقذ داغر

2022-11-03 05:57

نقصد بالثقافة الاجتماعية مجموعة القيم الفردية والمعايير الاجتماعية والافكار والعادات والتقاليد واساليب الحياة والتفكير والسلوك والآداب والفنون التي تميز مجموعة ما او مجتمع معين وتعطيها الاحساس بهويتها المجتمعية وشخصيتها المميزة، وهي تتغير تبعاً للتفاعل مع البيئة التاريخية والجغرافي والاقتصادية والمادية التي تتواجد فيها تلك الثقافة.

تطور الثقافة

هناك نظريات كثيرة حاولت تفسير نشوء وتطور الثقافة الاجتماعية للمجتمعات المختلفة. تعد نظرية التصلب (التشدد) - التراخي الثقافي من أحدث هذه النظريات وسنسميها اختصارا نظرية (صر). طبقاً لنظرية التصلب والرخاوة الثقافية Tight-Loose Cultures (TL) فأن مجتمعات العالم تتوزع على مدى طيف واسع Spectrum ما بين مجتمعات شديدة التصلب حيث تكون فيها المعايير الاجتماعية Social Norms (العادات والتقاليد والأعراف…الخ) كثيرة وتتم معاقبة (اجتماعيا) كل من ينتهكها بقوة ودون تسامح، ومجتمعات ذات ثقافة اجتماعية شديدة التراخي حيث المعايير الاجتماعية قليلة ويمكن الافلات منها دون أن يترتب على ذلك عقوبات اجتماعية.

هذه الأنماط من التصلب الثقافي تطورت عبر عملية تاريخية طويلة جرى خلالها التفاعل بين تلك المجتمعات وبيئاتها الآيكولوجية والاقتصادية والسياسية والأمنية. وكلما زاد مستوى التهديدات البيئية للمجتمع (أوبئة، كوارث طبيعية، حروب، تهديدات أمنية.. الخ) كلما احتاجت تلك المجتمعات الى تطوير معايير اجتماعية تضمن الاستجابة السريعة والحاسمة لضمان قدرتها على مواجهة تلك التهديدات وعبورها بأقل الخسائر كما هو الحال مع كثير من دول شرق آسيا كاليابان والصين ودول الشرق الأوسط، فضلا عن بعض الدول الأوربية كروسيا والمانيا. لذلك فأن السلطة القوية، والمركزية الحاسمة، والقيادة القوية كلها من سمات المجتمعات الصلبة Tight societies !

تستند نظرية (صر) الى نفس منطق وفلسفة ابن خلدون. فهي أيضاً لا تؤمن بالمنطق الارسطي القائم على عدم اجتماع النقيضين (الحسن والقبيح) في شيء واحد، وعدم تغير الاشياء الحقيقية وعدم وجود الوسط بين الشيء ونقيضه.

فطبقا لهذه النظرية فان سلوك وثقافة الجماعات الانسانية تنشأ من تفاعل حاجات هذه الجماعات مع بيئتها وتفاعل افراد الجماعة مع بعضهم البعض. بذلك فأن الثقافة الاجتماعية ليست ثابتة وانما تتغير طبقا لهذا التفاعل المستمر.

وبما أن الثقافة الاجتماعية هي نتيجة تفاعل الجماعة مع بيئتها، فلا توجد ثقافة جيدة وأخرى سيئة، كما لا توجد ثقافة اجتماعية متطورة وأخرى متخلفة بل توجد ثقافة ملائمة أو غير ملائمة للبيئة التي تتواجد فيها.

وإذا فهمنا الظروف الذي نشأت فيها وتفاعلت معها الجماعة فسنعرف حينذاك انه لا يوجد سلوك جيد أو سيء وإنما سلوك ملائم أو غير ملائم للثقافة الاجتماعية. من جهة ثانية فلكل ثقافة اجتماعية مهما كانت، اوجه ايجابية أو عملية وفي ذات الوقت اوجه سلبية اخرى.

بمعنى ان السلوكيات او المعايير الاجتماعية او حتى الثقافة الاجتماعية التي قد تبدو لنا متخلفة أو سلبية قد تكون مفيدة وايجابية للجماعة نفسها. وأن الحكم يجب ان لا يكون وفق مقياس مطلق وانما وفقاً للظرف الذي نشأت فيه تلك الثقافة.

ثالثا، هذا السلوك لا يمكن تصنيفه الى طرفين نقيضين أحدهما أسود والآخر أبيض. ان هذه الفلسفة تعطي لهذه النظرية ميزة كبرى تحل كثير من مشاكلنا الاجتماعية المعاصرة، وتغير كثيراَ من أسلوب النقد وجلد الذات الذي تعود الكثيرون عليه حين يصفون الثقافة الاجتماعية العراقية. أن هذه النظرية تعلمنا ببساطة، أن ما تنتقدوه بشدة في ثقافتنا أنما هو نتاج طبيعي لظروف مر بها العراقيون وجعلتهم يتبنون هذا النمط السلوكي دون سواه.

اجتماع النقيضين

ان ثنائية الاحكام والتفكير هي من مخلفات المنطق الارسطي القائم على عدم اجتماع النقيضين. أن واحدة من أكبر المشاكل التي نواجهها (كباحثين) في حياتنا اليومية هي الطلب اللحوح والمتكرر من الكثيرين-بضمنهم اولادنا- عن رأينا في موضوع معين.

وحينما تبدأ بشرح ان هذا الموضوع يحتمل الصواب والخطأ، وأن فيه الايجاب والسلب يقولون لك: لا نريد كثير من التفلسف بل نريد اجابة واحدة: هل هذا الشيء صح أم خطأ؟ هذا المنطق الثنائي والتبسيطي بدأ يسود في الحياة السياسية ايضاً حيث يريد الناس ان يعرفوا ان هذا الحزب جيد أم سيء؟ أو هذه الدولة معنا أو ضدنا؟ أو هذا القانون مفيد أو غير مفيد؟ أنها محنة تشابه محنة المعتزلة اثناء العهد العباسي الذين لم يقبلوا أي اجابة سوى القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ وبناءً عليه يتم الحكم بقتل المجيب أو الابقاء على حياته.

وعلى الرغم من أن منطق نظرية (صر) يؤمن بوجود طرفين للثقافة الاجتماعية (التصلب واللين)، الا انه لا يمكن تصنيف كل الثقافات الاجتماعية بأنها أما متصلبة تماماً أو رخوة تماماً. فكثير من الثقافات قد تكون رخوة لكنها تحمل معايير اجتماعية متصلبة والعكس صحيح.

لا بل ان أي سلوك اجتماعي، ونتيجة تفاعله وتأثره بالظروف الاجتماعية، يمكن ان يتحرك ويتموضع طبقا لحاجة الجماعة على مدرج متصل بين طرفي اللين والتصلب. لقد كانت تجربة الشعوب مع جائحة كورونا التي اجتاحت العالم في 2020-2021 وما زالت آثارها عالقة للآن، أفضل اختبار وتجسيد لهذه النظرية حيث تحولت كثير من الدول رخوة الثقافة كنيوزلندا وأشبانيا الى دول شديدة التصلب بعدما أدركت آثار تبني سياسة رخوة في التعامل مع الوباء. السؤال الآن أين يقع المجتمع العراقي على مدرّج التصلب-الرخاوة حسب نظرية (صر)؟ هذا ما ستتم الاجابة عنه في الحلقة القادمة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي