لا تستثقلوا مُربيكم
مصطفى ملا هذال
2020-12-24 09:39
لم تضع ام محسن التي غادرت عامها الـ 70 في حساباتها ان تجلس ذات يوم بعيدة عن أولادها الذين حملتهم في جوفها قبل راحتيها لسنين طوال، ولم تتوقع ان تسوقها الاقدار لتنتهي بها الأيام الى دار المسنين الذي يبعد عن محل سكناها بضع الكيلو مترات.
تسربت خيوط الشمس من نافذة الشباك، وحولت الوان شعرها البني الي ذهبي لامع، فتحت عينيها المنتفختين من البكاء، وجدت جسدها المثل بالهموم والمتاعب يرقد على سرير خشبي متهرء لا يقوى على حمل نفسه، لكنه اضطر خجلا من السيدة العجوز ان يرفض المكوث عليه لفترات طويلة.
صمتٌ خيّم على المكان، بينما أصوات احفادها ترن في مخيلتها ولم تتمكن من مفارقتها للحظة واحدة، فهي لا تزال تصوب بأنظارها صوب فتحة الباب، يحدوها الأمل بان يدخل عليها واحد من اسرار السعادة التي كانت تعيشها بوجود احد سلالتها، بعد ذلك تعبت عيونها من الترقب وفضلت الاستغفار.
حال ام محسن كان افضل بكثير قبل ان يفارق ولدها الحياة، على ايد العصابات الإرهابية التي لم تفرق بين صغير او كبير، رجل كان ام امرأة، الجميع سواسية وهم يتقاسمون الموت بإنصاف.
بعد ان خلى البيت من نفحات الرجولة التي كان ينثرها محسن عندما كان يتنفس الطلق، ما دفع بالزوجة ان تتبؤء مكانا معينا يساعدها على إدارة متطلبات المنزل وتوفير احتياجاته، فأصبحت هي الآمر الناهي في ذلك البيت الذي فقد المعيل وصاحب القول الفصل.
اشتدت المعاناة وازدادت بشكل غريب، وكاد لا يخلو يوم من المشادات الكلامية بين العمة وزوجة الابن الفقيد، اصبح البيت يعيش حالة من التوتر غير مسبوقة، ولم تمض الأيام كما كانت في السابق، فشعرت انها ضيف ثقيل في هذا البيت، لما تسمعه كلام مهين يطرق مسامعها بين حين وآخر.
بعد هذه الرحلة الطويلة والمتعبة قررت الحاجة ان تأخذ من الدار مأوى لها، لتنهي بذلك معاناتها المتراكمة، لكسب الراحة النفسية والجسدية الناجمة من انهاء بعض الاعمال التي كانت تؤديها نتيجة لتمنع زوجة الابن من القيام بها.
عدد من المسنين في العراق، لم يحصلوا على الرعاية اللازمة بعد فقدان أبنائهم، وفي بعض الأحيان تعامل معهم الأولاد بجحود منقطع النضير، في الوقت الذي هم بأمس الحاجة اليهم، كونهم لا يملكون في ذخيرتهم ما يعينهم على القيام بمهام الحياة اليومية.
في الفترات الأخيرة شهد العراق تنامي هذه الظاهرة، نشاهد الكثير منها على مواقع التواصل الاجتماعي والمحطات الاذاعية والتلفزيونية، اذ بات من الطبيعي التعرض للمشاهد الحزينة التي تحكي عن تخلي الأبناء عن آبائهم.
فقد فضل البعض المكوث بالطرقات بعد ان ضجت دور المسنين بالاعداد المهولة التي وصل اليها العراق، فلا نزال نجد في الطرقات من يفترش الأرض ويتناول الأطعمة الخالية تماما من ابسط شروط الصحة والتغذية، وهنا تجد الامراض ارض خصبة لتفشي الامراض والاوبئة بأختلافها.
وأعلنت وزارة الداخلية العراقية تسجيل (617) حالة اعتداء من الأبناء على الآباء خلال النصف الأول من العام الحالي 2020، كما أكدت منظمات مجتمع مدني أن المسنين هم الشريحة الأكثر تعرضًا للعنف داخل الأسرة، وتوقعت ارتفاع معدلات العنف تجاههم خلال فترة انتشار فيروس كورونا.
ولم تظهر هذه المشكلة بصورة فطرية بل لها أسبابها، اذ ترى الباحثة الاجتماعية ابتسام نعمة أن ازدياد المشاكل الاجتماعية غير الإنسانية، ومن بينها عقوق وهجران الوالدين، أو التخلي عنهما وتعنيفهما؛ تعود لعدة أسباب، أبرزها غياب الوازع الديني والأخلاقي، وغياب الإحساس بالمسؤولية، والظروف المعيشية الصعبة لدى الأبناء وانشغالهم بالعمل بعيدا عن رعاية الوالدين، أو قد يكون الاستقلال المالي للأبناء أحد الأسباب، فضلا عن انتشار المخدرات والخمور والتفكك الأسري بمسبباته الكثيرة.
وعلى الرغم من العراق من بين البلدان التي تحتضن اعداد كبيرة من منظمات المجتمع المدني، والفرق التطوعية والمنظمات الدولية، الا ان تبقى برامج دعم شريحة المسنين غير قادرة على إحداث التغيير المتوقع في أحوال كبار السن الذين يعانون بصورة موجعة من الم الاضطهاد والقسوة عند شيخوختهم.
فمن الصحيح ان تأخذ هذه المؤسسات دورها بشكل فعّال بالمجتمع، عبر وضعها لها برامج تنموية قادرة على تحسين الأوضاع المعيشية للكبار وتوفير الراحة لهم بعد، وتخفيف الحمل عنهم.
كما ويقع على الاسرة مهمة غاية في الأهمية، تتجسد بتفعيل المنظومة القيمية السائدة في المجتمع ونبذ الأفكار التي تقلل من مكانة الوالدين ونكرانها بصورة تامة، وهذا النكران يعد خلل أصاب البناء الاسري الذي وصت به الشريعة السماوية وحثت عليها الاحاديث المقدسة.
ويبقى الشيء الأهم من ذلك هو العمل على تفعيل نشاط الفعاليات المجتمعية ذات التواصل المباشر مع شريحة المسنين، اذ يعمل هذا الاهتمام على تخفيف معاناتهم وتحسين حياتهم، سواء كانوا داخل بيوتهم أو داخل الدور الحكومية.
وفي ختام مشوارنا الكتابي لهذا اليوم نود التأكيد على أهمية الاهتمام بالجوانب التربوية، وزرع روح الرعاية الابوية في نفوس الأجيال الواعدة، ليتسنى لنا الوصول الى مجتمع قريب الى حد ما من المثالية والتكامل، يُحترم فيه الكبير ويُساند الضعيف.