اللاسلطوية.. الدولة هي العدو
شبكة النبأ
2024-06-11 06:09
اللاسلطوية هي أيديولوجية اجتماعية وسياسية، وهي دائمًا ما تعاود الظهور - رغم تاريخٍ من الخيبة - في مظهر جديد أو في بلد جديد، مضيفةً فصلًا آخر إلى تاريخها، أو بُعدًا آخر إلى نطاقها.
كلمة anarchy مشتقة من الكلمة اليونانية anarkhia، التي تعني ضد السلطة أو دون حاكم، وقد استُخدمَتْ بمعنًى ازدرائي حتى عام ١٨٤٠، عندما استعملها بيير جوزيف برودون لوصف أيديولوجيته السياسية والاجتماعية. ادَّعى برودون أن التنظيم من دون سلطة أمر وارد، بل هو أمر مرغوب. ومع تطور الأفكار السياسية، يمكن النظر إلى اللاسلطوية باعتبارها التصور النهائي لكلٍّ من الليبرالية والاشتراكية، ويمكن أن ننسب الفروع المختلفة للفكر اللاسلطوي إلى أيٍّ من هاتين الأيديولوجيتين.
من الناحية التاريخية، نشأت اللاسلطوية؛ ليس فقط كتفسير للفجوة بين الأغنياء والفقراء في أي مجتمع، ولا كتفسير لسبب اضطرار الفقراء إلى الصراع من أجل نصيبهم من الملكية العامة، ولكن كإجابة متطرفة للسؤال «ما الخطأ الذي وقع؟» الذي أعقب النتيجة النهائية للثورة الفرنسية. فقد انتهت؛ ليس فقط بحكم إرهابي وظهور طبقة حاكمة حديثة الثراء، ولكن أيضًا بإمبراطور جديد محبوب - نابليون بونابرت - يختال في أرجاء مناطق فتوحاته.
كان اللاسلطويون وأسلافهم منتمين لا ريب إلى التيار اليساري بتأكيدهم على أن العمال والفلاحين - بعد انتهازهم الفرصة التي لاحت لهم لإنهاء قرون من الاستغلال والاستبداد - قد تعرَّضوا حتمًا للخيانة من الطبقة السياسية الجديدة، التي كانت أولويتها الأولى هي إعادة تأسيس دولة مركزية. وفي أعقاب كل انتفاضة ثورية - والتي غالبًا ما يدفع المواطنون العاديون ثمن نجاحها غاليًا - لا يتردد الحكام الجدد في اللجوء إلى العنف والترهيب والشرطة السرية والجيش النظامي لفرض هيمنتهم.
في نظر اللاسلطويين، الدولة نفسها هي العدو، وقد طبقوا التفسير نفسه مع نتيجة كل ثورة في القرنين التاسع عشر والعشرين. سبب هذا ليس فقط أن كل دولة تراقب المنشقِّين عنها وتُعاقبهم أحيانًا، بل لأن كل دولة تحمي امتيازات ذوي النفوذ.
كان الاتجاه السائد في الدعاية اللاسلطوية على مدار أكثر من قرن هو الشيوعية اللاسلطوية، والتي تنادي بأن ملكية الأرض والموارد الطبيعية وأدوات الإنتاج يجب أن تقع تحت السيطرة المشتركة للمجتمعات المحلية، والتي تتحد مع مجتمعات أخرى لأهداف متبادلة لا حصر لها. وهي تختلف عن اشتراكية الدولة في معارضتها لفكرة وجود أية سلطة مركزية. يفضل بعض اللاسلطويين التمييز بين الشيوعية اللاسلطوية واللاسلطوية الجمعية لكي يشددوا على الحرية المرغوب فيها بوضوح للفرد أو العائلة في امتلاك الموارد اللازمة للعيش، لكن دون أن يعنيَ هذا الحقَّ في امتلاك الموارد التي يحتاجها الآخرون.
تركز اللاسلطوية النقابية على العمال الصناعيين المنظمين الذين يستطيعون، من خلال «إضراب عام»، تجريد المُلاك من ممتلكاتهم؛ ومن ثَمَّ يحققون سيطرة عمالية على الصناعة والإدارة.
يوجد، ولا عجب في ذلك، تقاليد متعددة لما يسمى اللاسلطوية الفردية، أحدها مأخوذ من فكرة «الأنانية الواعية» للكاتب الألماني ماكس شتيرنر (١٨٠٦–١٨٥٦)، وآخر من مجموعة بارزة من شخصيات أمريكية تنتمي للقرن التاسع عشر ادَّعت أننا بدفاعنا عن استقلالنا الذاتي واتحادنا مع الآخرين من أجل مصالح مشتركة، فإننا بذلك نحقق الخير للجميع. اختلف هؤلاء المفكرون عن ليبراليي السوق الحرة في شكِّهم المطلق في الرأسمالية الأمريكية، وفي تشديدهم على أهمية المصلحة المشتركة. وفي نهاية القرن العشرين، جرى تبني كلمة «ليبرتاري» - التي استعملها فيما سبق الأشخاص المؤمنون بوجهة النظر هذه كبديل لكلمة «لاسلطوي» - بواسطة مجموعة جديدة من المفكرين الأمريكيين.
نشأت اللاسلطوية السلمية بسبب كلٍّ من فكرة معاداة النظام العسكري التي صاحبت رفض الدولة ورفض اعتمادها المطلق على القوات المسلحة، وبسبب الاقتناع بأن أي مجتمع إنساني أخلاقي يعتمد على العلاقات الطيبة الحرة بين أفراده.
تركز هذه التفريعات وغيرها في الفكر اللاسلطوي على جوانب مختلفة. ما يربطها جميعًا هو رفضها للسلطة الخارجية، سواء كانت من الدولة، أو رب العمل، أو الهرميات الإدارية والمؤسسات القائمة كالمدرسة والكنيسة. ينطبق الأمر عينه على أنواع الدعاية اللاسلطوية المختلفة التي ظهرت حديثًا، كاللاسلطوية الخضراء واللاسلطوية النسوية. وهؤلاء، الذين يؤمنون بأنَّ تحرُّر الحيوان مظهر من مظاهر تحرر الإنسان، يدَّعون أن اللاسلطوية هي الأيديولوجية الوحيدة المتماشية مع أهدافهم.
من المعتاد ربط الفكر اللاسلطوي بأربعة مفكرين ومؤلفين؛ الأول هو ويليام جودوين (١٧٥٦–١٨٣٦) الذي دافع في كتابه «تحقيقٌ في العدالة السياسية» - المنشور عام ١٧٩٣ - عن فكرة اللاسلطوية ضد الحكومة والقانون والملكية الخاصة ومؤسسات الدولة. كان جودوين متزوجًا من ماري ولستونكرافت ووالد ماري شيلي، وكان وريثًا لكلٍّ من الفكر الإنجليزي عن الانشقاقية المتطرفة وفلاسفة عصر التنوير الفرنسيين. وقد أكسبه كتابه شهرة فورية، سرعان ما انقلبت إلى عدائية وتجاهل في ظل المناخ السياسي الذي كان سائدًا في مطلع القرن التاسع عشر، ولكن ظل كتابه محل تداول سرًّا داخل الأوساط المتطرفة حتى أعيد اكتشافه على يد الحركة اللاسلطوية في تسعينيات القرن التاسع عشر.
ثاني هؤلاء الرواد هو بيير جوزيف برودون (١٨٠٩–١٨٦٥)، أحد دعاة اللاسلطوية الفرنسيين الذي كان أول من وصف نفسه باللاسلطوي. اشتُهر برودون في عام ١٨٤٠ بفضل مقاله الذي أعلن فيه أن «الملكية سرقة»، ولكنه ادَّعى أيضًا أن «الملكية حرية». لم يجد برودون تعارضًا بين هذين الشعارين؛ إذ رأى أنه من الواضح أن الشعار الأول مرتبط بصاحب الأرض وصاحب رأس المال اللذَين تأتي ملكيتهما من الانتزاع أو الاستغلال بمساندة الدولة وقوانين الملكية والشرطة والجيش، في حين أن الشعار الثانيَ متعلق بعائلة الفلاح أو الحِرفي مع حقهم الطبيعي الواضح في البيت، والأرض التي يزرعونها، وأدوات مهنتهم، ولكن دون امتلاك أو سيطرة على بيوت أو أرض أو سبل عيش الآخرين. تعرَّض برودون للانتقاد لكونه مجرد زائر لعالم المزارعين الفلاحين وصغار الحِرفيين في المجتمعات المحلية، ولكن كان رده جاهزًا بوضع مبادئ الفيدرالية الناجحة.
ثالث نجوم اللاسلطوية الكلاسيكيين هو الثائر الروسي ميخائيل باكونين (١٨١٤–١٨٧٦) الذي استحق شهرته بفضل مجادلاته مع ماركس في «الأممية الأولى» في سبعينيات القرن التاسع عشر؛ حيث تنبأ بدقة استثنائية، في نظر من جاءوا بعده، بنتيجة الديكتاتوريات الماركسية في القرن العشرين. وقد قال: «الحرية دون اشتراكية هي امتياز وظلم في الآنِ عينه، لكن اشتراكية دون حرية هي عبودية ووحشية.» واسترسالاته في تناول هذه الفكرة مستشهَد بها في كتب لا حصر لها نُشرت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، ومن بعده الأنظمة السياسية التي قامت في الدول التابعة له. كان من ملاحظات باكونين خطاب يعود إلى عام ١٨٧٢ علَّق فيه قائلًا:
أعتقد أن السيد ماركس ثائر جاد للغاية إن لم يكن صادقًا للغاية، وأنه يؤيد بحقٍّ ثورة الشعب، وأتساءل: كيف يستطيع تجاهل حقيقة أن تأسيس ديكتاتورية عالمية - جمعيةً كانت أو فرديةً - تغرس بذور الثورات في العالم، لتحكم وتسيطر على النشاط التمردي للشعوب في جميع الدول - كما الآلة التي يمكن السيطرة عليها - ستكفي في حد ذاتها لقتل الثورة وتشويه كل الحركات الشعبية وتعجيزها …
آخر هؤلاء المفكرين المهمين كان بدوره روسيًّا من أصول أرستقراطية، وهو بيتر كروبوتكين (١٨٤٢–١٩٢١). استمد كروبوتكين سمعته الأصلية من عمله كجغرافي، وسعى من خلال سلسلة طويلة من الكتب والكتيبات إلى إكساب اللاسلطوية أساسًا علميًّا. كان كتاب «الاستيلاء على الخبز» (١٨٩٢) دليله الإرشادي للتنظيم الذاتي في مجتمع ما بعد الثورة. أما كتاب «المساعدة المتبادلة» (١٩٠٢)، فقد ألَّفه لمواجهة تلك التفسيرات الداروينية الخاطئة التي دافعت عن الرأسمالية التنافسية؛ فأثبت من خلال ملاحظة المجتمعَين الحيواني والإنساني أن المنافسة بين الأجناس أقل أهمية من التعاون كمتطلب أساسي للبقاء.
كان كتاب «الحقول والمصانع وورش العمل» هو أطروحة كروبوتكين عن أنسنة العمل، من خلال الدمج بين الزراعة والصناعة، بين المجهود الذهني والمجهود البدني، بين التعليم العقلي والتعليم اليدوي. وباعتباره أكثر المؤلفين انتشارًا على المستوى العالمي من بين جميع المؤلفين اللاسلطويين، فقد ربط اللاسلطوية بالأفكار اللاحقة عن الإيكولوجيا الاجتماعية وبالتجارب اليومية.
قد يعترض بعض اللاسلطويين على ربط اللاسلطوية بكُتَّابها الأكثر شهرة. وسيشيرون إلى أنه في كل مكان بالعالم نشأت فيه الأفكار اللاسلطوية، يوجد ناشط محلي حاول تدبير وسيلة للوصول إلى منابر الصحافة، واعيًا بتيار اللاسلطوية الخفي في كل انتفاضة للمضطهدين على مدار التاريخ، وجعبته مليئة بأفكار عن تطبيق الحلول اللاسلطوية على المشكلات والمعضلات المحلية. كما سيَلفتون الانتباه إلى الطريقة التي يمكن بها رصد الطموحات اللاسلطوية في ثورات العبيد في العالم القديم، وانتفاضات الفلاحين في القرون الوسطى، وأهداف جماعة الحفارين في الثورة الإنجليزية في أربعينيات القرن السابع عشر، والثورات الفرنسية في عامَي ١٧٨٩ و١٨٤٨، وكومونة باريس في عام ١٨٧١. وفي القرن العشرين، لعبت اللاسلطوية دورًا في الثورة المكسيكية عام ١٩١١، والثورة الروسية عام ١٩١٧، والأبرز هي الثورة الإسبانية عقب الانتفاضة العسكرية التي عجَّلت باشتعال الحرب الأهلية في عام ١٩٣٦. أما الدور الذي لعبه اللاسلطويون في هذه المواقف الثورية فسنعرضه في الفصل القادم.
في جميع هذه الثورات، كان مصير اللاسلطويين هو مصير الخاسرين الشجعان. لكن اللاسلطويين لا يؤمنون بحتمية قيام ثورة نهائية ينجحون فيها حيث فشل جميع الآخرين ليدشنوا بعدها دولة فاضلة، بل أعلن اللاسلطوي الألماني جوستاف لانداور أن:
الدولة ليست كيانًا يمكن إسقاطه بثورة، ولكنها حالة - أو علاقة معينة بين البشر، أو شكل للسلوك الإنساني - يمكن أن نسقطها بعقد علاقات أخرى، وانتهاج سلوكيات مختلفة.
علاوةً على ذلك، حتى لو لم يغيِّر اللاسلطويون المجتمع بالطرق التي كانوا يأملون أنها ممكنة، فالأمر كذلك أيضًا بالنسبة إلى مناصري كل أيديولوجية اجتماعية أخرى خلال القرن الماضي، سواء كانت اشتراكية أو رأسمالية. لكنهم، مثلما أؤكد في الفصل الثامن، ساهموا في سلسلة طويلة من عمليات التحرير الصغيرة التي قضت على جانب كبير من الشقاء الإنساني.
في واقع الأمر، تتمتع اللاسلطوية بمرونة دائمة؛ فكل مجتمع في أوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وآسيا كان له إعلاميون وصحفيون ودوائر مؤيدين ونشطاء معتقلون وشهداء من اللاسلطويين. ومتى انهار نظام سياسي شمولي وقمعي، يَكُن اللاسلطويون موجودين، كأقلية تشجع إخوانها المواطنين على الاستفادة من تجارب الرعب التام والاستهتار من جانب الحكومة.
عاودت الصحافة اللاسلطوية الظهور في ألمانيا بعد هتلر، وفي إيطاليا بعد موسوليني، وفي إسبانيا بعد فرانكو، وفي البرتغال بعد سالازار، وفي الأرجنتين بعد الجنرالات، وفي روسيا بعد ٧٠ عامًا من القمع الوحشي. في نظر اللاسلطويين، هذه إشارة بأنه لا يمكن قمع الصورة المثلى لمجتمع ذاتي التنظيم قائم على التعاون الطوعي بدلًا من الإكراه؛ لأنها تمثِّل - حسب زعمهم - طموحًا إنسانيًّا عامًّا. يتضح هذا في الطريقة التي تبنَّى بها الناس من ثقافات غير أوروبية المفاهيم والأفكار اللاسلطوية الغربية وربطوها بتقاليد بلادهم ومفكريها.
دخلت الأفكار اللاسلطوية اليابان على يد كوتوكو شوسوي في السنوات الأولى من القرن العشرين. كان قد قرأ كتابات كروبوتكين في السجن خلال الحرب بين روسيا واليابان بين عامَي ١٩٠٤ و١٩٠٥، وعندما خرج زار كاليفورنيا وتواصل مع النقابيين اللاسلطويين المقاتلين من منظمة العمال الصناعيين في العالم، ثم عاد إلى اليابان لينشر صحيفة مناهضة للنزعة العسكرية اسمها «هايمن». ادَّعى كوتوكو أن ثَمَّةَ تيارًا لاسلطويًّا خفيًّا موجودًا على الدوام في الحياة اليابانية، مُستوحًى من البوذية والطاوية كلتيهما. وقد كان واحدًا من بين ١٢ لاسلطويًّا تم إعدامهم في عام ١٩١١ بتهمة التآمر ضد الإمبراطور ميجي. وعلى مدار النصف الأول من القرن العشرين، واصلت مجموعة من خلفائه دعايتهم واحتجاجاتهم العمالية ضد السيطرة العسكرية، وتمكنت الحكومة من قمعهم، ليعاودوا الظهور في مناخ مختلف بعد انقضاء ويلات الحرب العالمية الثانية.
ظهرت اللاسلطوية الصينية في نفس الوقت تقريبًا، بفضل تأثير الطلبة الذين سافروا إلى طوكيو أو إلى باريس. أما مَن سافروا إلى اليابان، فقد تأثروا بكوتوكو شوسوي، وقوَّوا الروابط مع تيار قائم منذ أمد بعيد في الحياة الصينية. وحسبما يشرح بيتر مارشال:
لم تؤيد اللاسلطوية الحديثة المشهد الريفي الطاوي وحسب، ولكنها كانت أيضًا صدًى لتوق الفلاح المتجذر في الثقافة الصينية إلى فترة رخاء ملؤها المساواة والاقتصاد المزدهر، والتي تجسدت في ثورات الفلاحين على مدار تاريخ الصين. كما أنها مست مفهومين تقليديين، هما: Ta-t’ung، العصر الذهبي الأسطوري الذي ساد فيه التناغم والمساواة الاجتماعية، وChing-t’ien، نظام الملكية المشتركة للأرض.
انجذب الشباب الصينيون الذين درسوا في باريس إلى كتابات باكونين وكروبوتكين، إضافةً إلى نظرية التطور لداروين، وقد رفضوا محاولات ربط اللاسلطوية بطاوية لاو تزو وبالتاريخ الزراعي. ومع نهاية حكم أسرة مانشو الحاكمة عام ١٩١١، ظن الفصيلان اللاسلطويان كلاهما أن فرصتهما قد حانت، ولكن في واقع الأمر كانت الأيديولوجية الثورية التي انتصرت تدريجيًّا في الفترة المتقلبة التي شهدتها الصين خلال القرن العشرين هي الماركسية اللينينية. وكما سنرى في الفصل الثاني، كانت الإجراءات التي فُرضت بالقوة على الصينيين محاكاة ديكتاتورية للطموحات اللاسلطوية.
كوريا، أيضًا، لها تاريخ لاسلطوي ارتبط خلال القرن التاسع عشر بالآمال المعقودة من أجل قيام شيوعية زراعية، ولكن بسبب ٣٥ عامًا من الاحتلال الياباني قاومه خلالها اللاسلطويون بكل شراسة، ضمن فصائل سياسية أخرى، قد اكتسبوا سمعة بأنهم وطنيون في وطن شماله يخضع لديكتاتورية ماركسية، بينما جنوبه نموذج للرأسمالية الأمريكية.
في الهند، كان تاريخ النصف الأول من القرن العشرين، والكفاح من أجل إنهاء الحكم البريطاني، متأثرَين بموهانداس كرمشاند غاندي، الذي أسس أيديولوجية فريدة للمقاومة السلمية والاشتراكية الزراعية بوحي من مجموعة من المصادر شبه اللاسلطوية وربطها بالتقاليد الهندية. فمن تولستوي طوَّر سياسته في المقاومة السلمية، ومن ثورو استلهم فلسفته في العصيان المدني، ومن قراءته المتعمقة لكروبوتكين استوحى خطته عن إنشاء كوميونات قروية مستقلة ولامركزية تربط الزراعة بالصناعة المحلية. وبعد الاستقلال، كرَّم خلفاؤه السياسيون ذكراه ولكنهم تجاهلوا أفكاره. وفي فترة لاحقة من القرن العشرين سعت حركة «سارفودايا» التي أطلقها فينوبا بهافي إلى شن ثورة سلمية على أساس الأرض، لرفض سياسات الحكومة المركزية.
في أفريقيا، قام إمباه وإيجاروي، مؤلفا دراسة عن فشل اشتراكية الدولة التي تفرضها الحكومات، بلفت الانتباه إلى:
مشكلة الصراعات الإثنية في القارة والتي تبدو مزمنة؛ والتهميش السياسي والاقتصادي المستمر لأفريقيا على المستوى العالمي؛ والشقاء الرهيب الذي يعاني منه نحو ٩٠٪ من سكان أفريقيا، وبالتأكيد الانهيار المتواصل للدولة القومية في أجزاء متفرقة من أفريقيا.
وذهبا إلى أن:
بالنظر إلى هذه المشكلات، فإن الرجوع إلى «العناصر اللاسلطوية» في الطائفية الأفريقية أمر لا مفر منه واقعيًّا. إن هدف المجتمع ذاتي الإدارة والمبني على الإرادة الحرة لأفراده والخالي من السيطرة الفاشستية والنظام العسكري هو هدف مغرٍ مثلما هو ممكن التحقيق على المدى الطويل.
قد يتساءل القارئ: ما دام بالإمكان رصد أفكار اللاسلطويين وطموحاتهم في أكثر من ثقافة حول العالم، فلماذا يُساء غالبًا فهم الفكرة أو تشويهها. الإجابة موجودة في فترة وجيزة للغاية من تاريخ اللاسلطوية.
كانت هناك فترة - منذ قرن مضى - آمنت فيها أقلية من اللاسلطويين، مثل الأقليات التابعة لعدة حركات سياسية أخرى، بأن اغتيال الملوك والأمراء ورؤساء الدول سيُعجِّل من الثورة الشعبية. ما يُؤسَف له أن الضحايا الذين استحقوا الموت أكثر من غيرهم، مثل موسوليني أو فرانكو أو هتلر أو ستالين، كانوا يتمتعون بحماية مكثفة، وبالنسبة إلى تغيير مسار التاريخ وتخليص العالم من الطغاة، لم يحقق اللاسلطويون نجاحًا أكبر مما حققه معظم القتلة السياسيين اللاحقين، إلا أن تراثهم أصبح موضوعًا لرسامي الكاريكاتير؛ حيث يصوِّرون اللاسلطوي شخصًا متدثرًا بعباءة وملتحيًا ويحمل قنبلة كروية ذات فتيل مشتعل، وقد مثَّل هذا بالتبعية عقبة أخرى أمام المناقشات الجادة للمناهج اللاسلطوية. في الوقت عينه، احتكرت الحكومات الإرهاب السياسي الحديث دون تمييز بين أحد، وأصبح موجهًا ضد المدنيين، أو سلاحًا نربطه جميعًا بالحركات الانفصالية الدينية أو القومية، وكلاهما بعيد كل البعد عن طموحات اللاسلطويين.
عند مدخل تعريف مصطلح «اللاسلطوية» الذي صاغه كروبوتكين عام ١٩٠٥ من أجل الطبعة الحادية عشرة للموسوعة البريطانية، بدأ بأن شرح أنها:
الاسم الذي نَصِف به مبدأً أو نظريةً حياتيةً وسلوكيةً يعيش في ظلها المجتمع دون حكومة؛ حيث يتحقق الانسجام في مثل هذا المجتمع، ليس بالخضوع للقانون، أو بالامتثال لأي سلطة، وإنما بالاتفاقات الحرة المعقودة بين الجماعات المتنوعة، إقليمية ومهنية، والتي تتم بحرية لصالح الإنتاج والاستهلاك، وكذلك لتلبية الطموحات والاحتياجات المتنوعة اللانهائية للإنسان المتحضر.
يحتوي هذا التعريف ضمنيًّا على حتمية التوصل إلى حل وسط، وهو جانب معتاد في السياسة يصعب على اللاسلطويين قبوله؛ تحديدًا لأن أيديولوجيتهم تعيق السبل المعتادة لإحداث تأثير سياسي.