في ذكرى المولد النبوي... العالم الإسلامي يقاسي عصبيات الإرهاب؟

مصطفى قطبي

2015-01-05 11:28

تعيش الأمة الإسلامية نفحات الذكرى العطرة لمولد الرسول (ص)، وهي مناسبة تمثل فرصة لهذه الأمة التي تتكالب عليها الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها، أن تستذكر نهج صاحب المناسبة كخير نموذج يحتذى به على مر العصور والأزمان، فقد باتت منساقة وراء الأكلة المتآمرين عليها بعد أن نجحوا في الإيقاع بها في فخ الطائفية والمذهبية، لتشتيتها وتمزيقها وإضعافها، فغدا الدم العربي والإسلامي هو اللون الذي تروى به أرض العرب والمسلمين.

جاء عيد المولد النبوي الشريف هذا العام، ومعاناة العرب من بين المسلمين تتفاقم وتكبر وتتدحرج وتكبر وهي تتدحرج حتى بلغت درجة غير مسبوقة... وليس مبالغة القول إن الأرض العربية فتحت فاها لأعدائها ومكنتهم ليس من ابتلاع لسانها العربي فحسب، وإنما لينقلوا إليها فيروسات الطائفية وجراثيم المذهبية، وليزرعوا فيها بذور الشقاق والتعصب والعنف والإرهاب، عبر مشارط الديمقراطية، والحرية وحقن حقوق الإنسان، والدولة المدنية.

لقد صنعوا لكل بلد فخاً يكبر ويتسع أو يضيق حسب الحاجة... عرسال للبنان، والأنبار للعراق، وسيناء لمصر، والشعانبي لتونس، وفي سوريا عدد من الأفخاخ... هي تدريب على بؤرة لا يموت فيها الحدث، وقد يهدد دولة بكاملها كما جرى للعراق مثلا حين وظفت منطقة الأنبار في متاهة تدافعت فيها الأمور إلى حد تمدد داعش وصولا إلى العاصمة، لولا استفاقة عراقية أعادت ترتيب الأماكن، تبعتها استفاقة دولية تحاول أن تجعل من هذا التنظيم قميص عثمان قد تعلق عليه سلسلة أحداث مرتبطة به أو غير مرتبطة.

ففي الوقت الذي نجد فيه سوريا غارقة ومغرَقة في مستنقع الدم، ونجد العراق على جناحها الشرقي مهدداً باستمرار ما كان فيه قبل يومها وبتوالد ما يتوالد فيها من فتنة وبؤس، ونجد لبنان مهدداً بنار الفتنة المذهبية وما يتهدد سوريا منها يتهدده فالبيت واحد لكنه بغرفتين... في هذا الوقت نجد مصر تُجر نحو المستنقع العفن بقوة جذب شديدة، وتلعب في ملاعبها أقطار عربية وبلدان أجنبية، وفئات ذات أغراض وارتباطات ومآرب شتى... ونجدها مهددة ـ لا سمح الله ـ بأمر مقارب لذلك الذي يتم في سوريا، مع خلافات واختلافات في التحالفات والأهداف والوسائل والأدوات... ونلحظ اللاعبين العرب المعنيين في الساحة المصرية على هيئة مشجعي أهلي وزمالك، فإما مالك وإما هالك؟! وعلى جناح مصر العزيزة، وعند مفرقها الإفريقي لا تزال النار تحرق ليبيا التي تفككت أو كادت، ودم أبنائها ما انفك يسيل...

لن يكون بوسع أحد أن يحاجج في حالة التمزق التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي في وقتنا الراهن، والمحاولات المشبوهة لجر الإسلام إلى فتنة كبرى جديدة وجعله أداة أيديولوجية طيعة لخدمة المشاريع الاستعمارية والأطلسية لنخبة المحافظين الجدد، والأزمة الاقتصادية في الغرب، بعد أن كان الإسلام ورجالاته رواد مرحلة التحرر من التبعية للأجنبي والخلاص من الاستعمار.

لقد أصبحت الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر غثاء كغثاء السيل، لقد تمزّق شملها وتشتت صفها، وطمع فيها الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني وأصبحت قصعة مستباحة بعدما كانت تقود العالم، ورسولها الكريم (ص)، أرسله الله رحمة للعالمين وللناس أجمعين، بدليل قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

والآن نراها قد أصبحت ضعيفة لأن الفرقة قرينة للضعف والخذلان والضياع...

اليوم تطرح مشاريع مذهبية من النوع التفتيتي، فلقد نضبت تقريباً سلة التآمر الصهيوني على الأمة، وبقيت لعبة واحدة يدور رحاها على العقل الإسلامي: كيف نفتت المسلمين وكيف نجعلهم مجموعات متناحرة وعلى مدى سنوات طويلة، بل كيف نحولهم إلى قطعان تأتمر بأوامر إسرائيل، يحركهم ريموت كونترول صهيوني، يتزعمهم، يصنع لهم الهدف كي يحصد النتيجة... يقدم لهم حكمته الخاصة كونهم مسلمين من نوع الضحك على الذقون، يرفع أمام عقول جيلهم الصغير بتجربته وثقافته ما هي الأفكار التي تنشط فيهم توترهم.

فالتحالفات الجديدة شبه المعلنة بين بعض الدول العربية وإسرائيل تختفي خلفها الولايات المتحدة الأميركية وتباركها وتدعمها، وهي ليست في صالح العرب والمسلمين، ولا تساهم في حل ملفات عالقة منذ سنوات بين دول كثيرة تتشابك مصالحها وقواها في المنطقة أمنيًّا واقتصاديًّا... وهي ملفات يؤثر حلها إيجابيًّا على قضايا وعلاقات وملفات كثيرة، وعلى أمن المنطقة ومستقبل شعوبها ودولها، ومن تلك الملفات الملف النووي الإيراني الذي يجمع كثيرون على أنه سيفتح أفق تعاون جديد بين إيران والغرب، ومن شأنه أن يؤثر على حل الملف السوري وعلى أوضاع اقتصادية تهم الشعوب والدول.

من المعلن أن إسرائيل تعادي هذا التوجه لأنها أصلاً تعادي السلام والقيم وتعيش على الحروب والأزمات والعدوان والتمييز العنصري، وتقف موقفاً شديد العداوة من سوريا وقضية الشعب الفلسطيني الذي تبيده وتقضي على حقوقه رويداً رويداً، وتمارس ضده عنصرية يسكت على ممارستها العالم، بل ويضم إسرائيل إلى مجلس حقوق الإنسان!؟

لم يعد بعد هذا التحالف شبه السري الذي ينخرط فيه عرب وإسرائيليون ومسلمون في الاقتتال ضد عرب ومسلمين، وهو يتعمق تحت مسوغات وتعلات مختلفة لا يسبغها الوجدان العربي، لم يعد بعد هذا التحالف بين تلك الأطراف أن يقال إن إسرائيل عدو للعرب والعرب أعداء لإسرائيل، بل هناك خلط للمواقف والأوراق والتحالفات في المنطقة بدأ الإرهاص به منذ عام 2006 في عدوان إسرائيل على لبنان.

فعرب إسرائيل يعادون عرباً ضدها تحت عناوين مذهبية صارخة لم يعد بالإمكان التغاضي عنها، وفي خلفية بساط الفتنة ذاك صراع على النفوذ من جهة، وجعل دول المنطقة وشعوبها في نزاع واحتراب لا يلتئم لهم صف... ومن الداخل بدأت إسرائيل اليوم تعمل أكثر من أي وقت مضى، ضمن تحالف يتصل بملف إيران النووي وبمعاقبة سوريا لأنها لم تقبل سلام السادات كما قال السيئ الذكر شمعون بيرس ولمصالح وأهداف أخرى تهم الناتو أيضاً.

ورغم وضوح زوايا الحقيقة حول الدور الصهيوني وامتطائه أنظمة وجماعاتٍ وأحزاباً، وتقنعه بأقنعة الكذب والنفاق، فإن هناك من لا يزال مصاباً بالعدوى ويرفض أخذ الأمصال والتخلص من الداء، بل إنه يرى في هذه الأدواء العضال سبباً في نيله الخاتمة التي يتوهم أنه سينالها بسلوكه مسالك الإرهاب والعنف التي يزينها له شياطين الإنس على أنها جهاد ينقله إلى مصاف الأنبياء والصديقين وجنات الحور العين...

وفق هذا التقدير، فإن هذا النجاح لمعسكر التآمر والتخريب بقيادة القوى الاستعمارية والامبريالية في بعثرة دول المنطقة وتشتيت شعوبها وتقسيمها إلى طوائف ومذاهب متصارعة متواجهة، دفع المنطقة إلى حفلة جنون كاملة يرقص المحتفلون فيها على أنهار الدماء البريئة المسفوكة عدواناً وظلماً وعلى جثث الأبرياء، ويتاجرون في الموت والقتل، ويطلقون صيحاتهم وتغريداتهم فرحاً وطرباً دعهم يتقاتلون، يتناحرون، وما علينا سوى التلذذ بمشاهد الذبح ومسيل الدماء.

فمتى يا ترى نرتاح من صبيب الدم وألوان وحشية الجُرم والإثم، ومتى نثوب إلى رشدنا فنرى ما صنعت أيدينا في الناس والوطن والعِمران، ومتى نتبصر بما ألحقناه بأنفسنا من عار ودمار كان يطلبهما عدونا فينا فلا يستطيع، وكأن أن نفذنا له ما يحلم به بأداء فريد وعزمٍ من حديد؟!

ألا متى نرى أنفسنا وأوضاعنا وأوجاعنا على حقيقتها فنكف عن الفتك والهتك ونفكر بتغيير الأحوال ونبصر ما تحت الجمر من نار إن لم نتدارك شررها فستأتي على ما تبقى منا جميعاً... والنذر في سورية وفي العراق ولبنان ومصر وتونس وليبيا واليمن، أوضح من أن تُشرح، وأفصح من أن تُعرب...

وما يبذر في الأرض اليوم من بذر الشوم سيتفتح عن وجوه للفتنة يعجز عن لملمتها الوعي والطيب من الإرادات والحسن من النيات، ذلك لأن انفجار العقل بالشر أشد فتكاً بالعباد والبلاد من شرر كالقصر، وحين تدب جنادب الفتنة المذهبية في الأنفس والدروب، يقتل الجارُ جاره والحِبُّ حِبَّه، وتتحجر القلوب، وتنطوي على ما فيها من حقد يفرخ إرهاباً ورعباً...

ويمكن للمتبصر أن يقرأه أو يراه اليوم في سياسات قصيرة النظر يعبر عنها ساسة أبالسة، بعباراتٍ مثيرة للمشاعر والذواكر وخطيرة، تفضح نفوساً أفعوانية تنطوي على الجهل بالحكم وأصوله وأسسه ومسؤولياته، وتنم عن الكراهية في تعابير دواهية، وتؤسس لصراعات مذهبية مقيتة بدأت نارها تعس هنا وهناك، وهي إن علا دخانها وثار أوارها لن تبقي ولن تذر، لا ممن ينتصر منا ولا ممن ينكسر؟!

ونحن نلمس مثل ذلك الإنجاز المعجز؟! في الفعل السياسي وخطابه العملياتي الذي يعبر عن نفسه في الاقتتال والملاحقة والتعذيب والاتهام والمحو والاجتثاث، وفي إنكار حق الناس المواطنين في معالجة شؤونهم وشؤون غيرهم من شركائهم في الوطن والقرار والمصير، مع من يتولى التدبير فيتصدى لكل من لا يروق له رأيه وموقفه وقوله وكأنه القدر المقدور والمصير؟! ونلمسه أيضاً في خطاب دعاةٍ ليسوا فقهاء ولا أمناء على الفقه إن هم فقهوا ولا رعاة للحق والدين ولا دعاة...

يتاجرون بالدين والقيم والبشر وبالجنة والنار وبالشهداء الأبرار، وأخطر ما نلمسه من ذلك في إعلام ذي آفات وأفانين افتراء، يتوالد من أدائه الداء، ويتكاثف بسببه في سماء العقول وطيات القلوب ظلم وقسوة وظلمات.

إن الأمور واضحة ولكن من لا يدافع عن حقه يخسر حقه ومن ثم نفسه... وهذا هو شأننا نحن المسلمون والعرب اليوم مع كثير من حقوقنا ومقومات وجودنا وقوتنا وهويتنا وحضارتنا.

وإذا توقفنا اليوم عند محنتنا في القدس ومحنتها معنا... وجدنا أنها تقضم متراً بعد متر وبيتاً بعد بيت، وقد وصل القضم الصهيوني حد التخطيط لتقسيم المسجد الأقصى ذاته، والتجرؤ على كل مقدس ومُلك ومواطن وحقيقة تاريخية، وشجرة يقتات منها الفلسطيني في ظل عجز عربي مقيم، وتنافر عربي لا يستقيم لهم معه أمر. ومن أسى أنهم أشداء على بعضهم ومغلولة إرادتهم ضد أعدائهم لأسباب تعود إلى انعدام الثقة، وإدمان التبعية والاستعداء... استعداء الأخ على الأخ، والغريب على القريب... والوقائع التي تشير إلى ذلك في تاريخنا أكثر من أن تحصى، وما نعانيه اليوم من ذلك يفوق الوصف.

لسنا بلا قوة أو شجاعة أو مكر أو إمكانيات أو... أو...

ولو دققنا فيما جرى في العراق أو فيما يجري في سوريا لأذهلتنا الوقائع والمعطيات... فنحن في حروبنا مع العدو الصهيوني الذي احتل أرضنا وشرد شعبنا ودنس مقدساتنا وشوه صورتنا... لم نستمر أكثر من ثلاثة أسابيع، وفي حروب الاستنزاف لم يزد الوقت على ذلك بكثير... ولم نقدم من الشهداء عشر ما قدمته سوريا في أزمتها الكارثة، هذا عدا عما لحق بالبلد الذي يتعرض للعدوان من دمار، وما يصرف في هذا الشأن من مال...

ولو أن نسبة 5 في المائة من الجهد والمال والشجاعة والصبر والعزم الذي قدِّم في حرب الإخوة بعضهم لبعض قد بذلت في مواجهة عربية صادقة مع الكيان الصهيوني لزلزلت الأرض تحت قدمه وانكمش إلى حدود الاضمحلال، ولو أن نسبة أقل من تلك مما نراه ونتابعه ونفجع به مما يتم في سوريا بين أشاوس العرب والمسلمين بُذلت في التصدي للعدو الصهيوني لما وصل في وقاحته وعدوانه وظلمه واستيطانه وتهويده واستهتاره بالأمة إلى ما وصل إليه ويستمر في ممارسته منذ عقود من الزمن..؟!

ولو أن هناك حكاماً عرباً ينتمون إلى أمتهم بوعي ويدافعون عن دينهم بمعرفة وصدق ويحرصون على حقوقهم ووجودهم وكرامتهم وأوطانهم لما وصلت أقطار من بلدان الأمة إلى محنة أو مأزق أو حالة من التبعية المزمنة كما هي عليه الحال اليوم، ولما بذل المال وماء الوجه لأعداء الأمة العربية وعلى رأسهم الأميركي لكي يحموا بلداً أو حكماً في بلد ويستنزفوه تماماً؟!

ولو أن 1 في المائة من العرب والمسلمين الحاكمين والمالكين صدَق في إيمانه في ضوء فهم صحيح للدين ولما يرتبه الإسلام على المسلم من نصرة المظلوم، سواء أكان مسلماً أو غير مسلم، ولم يخالف حكم قرآنه حين ينهاه عن أن يتخذ من غير المسلمين أولياء ضد المسلمين لما تهاوت كل القيم والعلاقات والبنى الاجتماعية والخلقية ومقومات الحكومات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية إلى درك الفساد والانحطاط والتآمر على الحق والشعب في بلد ونصرة الظلم والاستبداد والإرهاب والقتل والجهل الأعمى في بلد من البلدان أو مكان من الأمكنة...

ولكن في الأمة العربية الكثير الكثير مما لا يشرف، ومما لا ينم عن الوعي والإيمان والانتماء والتبصر وسعة الأفق... فحين نرى دولة تضحي بدولة ولا تسأل في حربها عن شعب، ولا تقيم وزناً للحياة ولا للمعاناة، وتزدري كل القيم والروابط والعلاقات الأخوية... وحين نرى حاكماً يضحي بمال وشعب وعمران من أجل أن يغلب خصمه أو يقهره، ومن ثم يشمخ بأنفه تيهاً ويصعِّر خده للناس... ندهش للمستوى الذي بلغه المسؤول العربي في هذا البلد أو ذاك، ونعجب من استمراره في ممارسة هذا النوع من الجنون، ومن أناس يضعون أنفسهم مادة لصراع غبي من هذا النوع، ويخوضون في الفتنة فيقتل بعضهم بعضهم ويتقاتلون حتى الإفناء؟!

هكذا يزج عدو الأمتين العربية والإسلامية كل من يستطيع زجه في معترك النار وهو يقول: تقاتلوا ومني السلاح والمال ومنكم الدم والأرواح... تقاتلوا حتى النهاية، حتى لا يبقى لكم لا قومية ولا دين، ولا حامٍ ولا ضعين، وحتى تبقى إسرائيل آمنة ومهيمنة وقوة أعظم، ولكي أنام أنا السيد مرتاحاً مطمئناً إلى ثروتي ونفوذي وسيطرتي عليكم وعلى بلدانكم وعقيدتكم وأموالكم وكل قواكم الحية... فهذا أمري أنا سيد السادة، ولتكن كل مفاتن بلدانكم على جيد سيدة بيتي قلادة؟!

ولا يستثنى أعداء الأمة من ذلك سوى أدواتهم التي يتخذونها واجهة لتنفيذ ما يريدون وللتنظير لما يفعلون، يلمعونها ويضربون من خلفها، ومن أولئك في السياسة والثقافة والفكر فئة متسلقة على الفكر البَّناء، والسياسة المدركة لذاتها ومسؤولياتها وأبعاد قراراتها وخياراتها، والثقافة التي تحمل هوية أمة وتجسد تاريخها وذاكرتها وشخصيتها وحضورها في صيرورة الزمن وسيرورة التقدم والنهضة...

اليوم، لا يواجه العالم الإسلامي هجمة خارجية عاتية ومهددة فحسب، بل الأنكى من ذلك أنه يشهد صراعات زعامات لن تنتهي في الواقع الراهن إلا إلى المزيد من التفكك والتبعية والارتهان، فهناك من يتطلع إلى وضع الدول العربية ملفاً قائماً بذاته في محاولة مشبوهة ومريعة لإعادة ترتيب الأولويات، وهناك من يغذي طموحاته السياسية الداخلية والمتوسطية الخارجية عبر إطلاق موجة كراهية مقيتة وحاقدة لا تتورع عن إعادة تصنيف المسلمين وفقاً للملل والنحل، للوصول من ذلك إلى حق حصري بتوزيع شهادات الإيمان، يمارس هؤلاء التكفير الديني والمذهبي في الطريق إلى التكفير السياسي ويتحدثون مع ذلك عن تهويد الأقصى وحرمة الدم في الإسلام.

وحكمة العرب في كل هذا مغيبة أو غائبة، فأهلها بين حليم يخاف أن ينطق، وحكيم ابتلع سم السياسة ومالها فغص ويسكت، ومسؤول في مرتبة روحية عليا، يختار الاعتكاف في وقت الحاجة إليه، ويرى أن يغيب في العزلة أو الاعتزال، أي في نسك تصوفي سلبي خير منه المواجهة بقوة العقل والقلب والإيمان وصلابة الصوفيين في الأزمات الطاحنات والملمات الكبار... ومن بين أهل الحكمة وكبار الرجال من يتفرقون شذر مذر، ويقفون على ضفاف الخلاف، لا يجمعهم جامع فيقويهم ولا يشدهم إلى الإيمان بالله جل وعلا ما يجعلهم حرباً على الفتنة وأهلها.

ولأننا أصبحنا لا نتقن إلا فن الكلام والاحتفال بالمناسبات دون أن نقرأها ونفهم دروسها انتصر الآخرون علينا في كل شيء، ولأننا لم نعمل بالحكمة القائلة (المثل العليا لن تستطيع أن تلمسها بيديك ولكنك كالمقاديم من البحارة تتخذها مرشداً لك وتتبعها فتبلغ غايتك)، لم نتمكن من التحرك إلى الأمام خطوة واحدة، فلا نحن تمسكنا بمبادئنا وقيمنا وأصول ديننا، ولا نحن أخذنا بأسباب القوة والعلوم والإنجازات والتطور الذي تشهده دول وشعوب العالم، فبقينا أسرى للجهل والتخلف وصرنا مضغة للأعداء والطامعين، ولم تعد لنا أية إسهامات وإضافات على الحضارة العالمية في إنتاجها العلمي والمعرفي والثقافي والصناعي والغذائي.

لقد سقطت بكل الأبعاد والمعاني في مراكزها العالمية وفي بيئاتها ومجتمعاتها الحاضنة لها... ولكنها ما زالت في بعض المواقع من وطننا العربي والإسلامي قائمة تفتك بمجانية واستعلاء وجهل وغباء،

والعجب العجاب أن سدنتها خشب مسندة، وأموات يحسبونهم فيما يشبه السبات، يستندون إلى منسأة كمنسأة سليمان الحكيم الذي شبع موتاً وهو يستند إليها حتى قرضها الدود وتهاوت فهوى...؟!

وكالعادة هناك كثرة من أبناء الأمة تتفرج وكثرة من الضحايا يسقطون، وهناك من ينغمس في الصراع، والأمة تضعف وأعداؤها يتسلطون عليها ويبتزونها ويستفيدون من ضعفها ويستثمرون في الصراعات التي تدور داخلها، ثم يمزقونها تمزيقاً ومع ذلك لا تجد من معتبر؟!

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا