معيار القبول برئيس الحكومة: بين الشرط الأعلى والشرط الأدنى

محمد عبد الجبار الشبوط

2025-11-23 04:34

ليست مسألة اختيار رئيس الحكومة مجرد عملية سياسية شكلية أو توازن قوى وقتي، بل هي في جوهرها قرار حضاري يعبّر عن مستوى الوعي الذي بلغته الأمة، والاتجاه الذي تريد أن تسير فيه الدولة. إنّ العراق اليوم، بعد عقود من التخلف والفساد وسوء الإدارة، بحاجة إلى أن يحدّد معاييره لاختيار القادة على أسس جديدة ترتبط برؤية حضارية شاملة، لا بمجرد الانتماءات الحزبية أو المصالح الفئوية.

الشرط الأعلى: الإيمان بنموذج الدولة الحضارية الحديثة

الشرط الأعلى لقبول أي رئيس حكومة هو أن يكون مؤمناً حقاً بنموذج الدولة الحضارية الحديثة، لا بمعنى التصريح اللفظي أو التوظيف السياسي، بل بمعنى الاقتناع العقلي والإيماني بمنظومة القيم الاثنتي عشرة التي تشكّل جوهر هذا النموذج: الحرية، العدالة، المساواة، المسؤولية، الإتقان، التضامن، التعاون، الإيثار، التسامح، الثقة، السلام، الإبداع.

هذا الإيمان ليس ترفاً فكرياً، بل هو الضمان الجوهري لأن يتحرك رئيس الحكومة ضمن فلسفة واضحة للدولة، فيرى الحكم أمانة، والمواطنة قيمة، والعدالة غاية، والتنمية رسالة. فالحاكم الذي لا ينتمي إلى هذا الأفق الحضاري سيكون ـ مهما كانت كفاءته التقنيةـ جزءاً من منظومة الأزمة لا من مشروع الحل.

الإيمان بنموذج الدولة الحضارية الحديثة يعني أيضاً أن يتعامل رئيس الحكومة مع الدولة ككيان حضاري يسعى إلى بناء الإنسان قبل العمران، ويقيس نجاحه بمقدار ما يضيفه إلى رصيد الوعي الحضاري للشعب لا بعدد المشاريع المنجزة أو العقود الموقعة.

الشرط الأدنى: رؤية علمية لإصلاح الاقتصاد العراقي

أما الشرط الأدنى فهو أن يمتلك المرشح رؤية علمية واقعية لإصلاح الاقتصاد العراقي وحل مشكلاته البنيوية الأساسية، وفي مقدمتها:

 • الاعتماد المفرط على الريع النفطي.

 • ضعف الإنتاج المحلي.

 • تضخم الجهاز الإداري والبطالة المقنّعة.

 • غياب العدالة في توزيع الدخل والثروة.

 • التدهور المستمر في البنية التحتية والخدمات.

إنّ من لا يملك رؤية اقتصادية واضحة ومتكاملة لا يستطيع أن يدير الدولة، مهما كانت نواياه حسنة. فالإصلاح الاقتصادي هو المدخل العملي لترجمة القيم الحضارية إلى واقع ملموس. والرؤية المطلوبة ليست شعاراً، بل خطة مدروسة تستند إلى بيانات وإحصاءات ومؤشرات علمية، وتربط بين السياسات المالية والنقدية والاستثمارية ضمن رؤية تنموية شاملة.

تكامل الشرطين: بين الفكرة والممارسة

الشرطان، الأعلى والأدنى، ليسا منفصلين، بل متكاملان. فالإيمان بالنموذج الحضاري يمنح الاتجاه، والرؤية العلمية تمنح الوسيلة. الأول يحدد الغاية الحضارية للدولة، والثاني يحدد الطريق العملي للوصول إليها. ومن يجمع بينهما يكون مؤهلاً لقيادة العراق نحو مرحلة جديدة من النهوض الحضاري.

خاتمة

إنّ قبول أي رئيس للحكومة لا يجب أن يكون محكوماً برضا الخارج أو توازنات الداخل، بل بمعيار واحد: مدى التزامه بمشروع الدولة الحضارية الحديثة فكراً وممارسة. فحين نرفع معيارنا الأعلى إلى مستوى الوعي الحضاري، ونربطه بالحد الأدنى من الكفاءة العلمية، نكون قد وضعنا الأساس الصحيح لاختيار قائدٍ يقود الدولة إلى المستقبل، لا يعيدها إلى الماضي.

ذات صلة

الإدارة الأخلاقية للدولة في مشروع الامام الشيرازيضفاف الرافدين المهملة: جريمة بحق إرث العراقالموت وسرّ الرحيلالشرق الأوسط يتكيّف مع أمريكا ترامبأسواق النفط.. وفرة المعروض وارتفاع الإنتاج وتباطؤ الطلب تفرض ضغوطاً على الأسعار