هل يمكن إعادة إنتاج ظاهرة ممداني في العراق؟

ابراهيم العبادي

2025-11-11 04:11

أثار فوز المسلم "زهران ممداني" بعمادة مدينة نيويورك، المدينة الأكبر والأغنى والأكثر تنوعًا في الولايات المتحدة، دهشةً عالمية جديدة من ظواهر الديمقراطية الأميركية التي لا تزال قادرة على تجديد نفسها واستعادة حيويتها كلما غلبت عليها الرتابة أو طغت عليها ثنائية الصراع التقليدي بين الجمهوريين والديمقراطيين.

فوز "ممداني" لم يكن حدثًا انتخابيًا عابرًا بقدر ما كان تعبيرًا عن قدرة النظام السياسي الأميركي على امتصاص النزعات الجديدة، والتكيف مع مطالب الجيل الشاب، وكسر المألوف في الخطاب السياسي، في مجتمعٍ يفسح المجال أمام الطاقات القادرة على اقتحام الخطوط الحمر وخوض المنافسة السياسية بلا تمييز ديني أو عرقي أو طبقي. لقد برهن "ممداني" المهاجر القادم من القارة الإفريقية إلى مدينة المليارديرات، أن الحلم الأميركي ما زال ممكنًا حين يمتلك الإنسان الإرادة والعزيمة والقدرة على مخاطبة وجدان الناس بلغةٍ إنسانية صادقة.

بعد سبعةٍ وعشرين عامًا من العيش داخل المجتمع الاميركي، استطاع "ممداني" أن ينافس أعتى السياسيين بخبرة اكتسبها من الميدان، وبفهمٍ عميقٍ لنبض الشارع، وبخطابٍ وجداني يزاوج بين العدالة الاقتصادية والكرامة الإنسانية.

وللإنصاف، لم يكن ممكنًا أن يتحقق ذلك في بيئةٍ غير منفتحة كالبيئة الأميركية التي رغم تناقضاتها، ما تزال تحتفظ بمساحات حقيقية للتنافس الحر وتحقيق الذات الفردية. لقد واجه "ممداني" لوبيات المال والإعلام والرأسمالية المتوحشة التي أرعبها خطابه اليساري المعتدل، كما واجه رئيس الدولة الشعبوي الذي لم يتردد في التحذير من انتخابه بدعوى أنه "شيوعي" أو "عدو للأعمال الحرة"، فضلًا عن الحملة التي شنّها اللوبي الإسرائيلي ضده بسبب مواقفه المنتقدة لسياسات تل أبيب، ومع ذلك، اختار أكثر من 30 في المئة من يهود المدينة، وعددهم نحو مليون ونصف، التصويت له. كان ذلك تعبيرًا عن عمق التحول في المزاج العام ورغبة الناس في التغيير حتى داخل الفئات المحافظة.

لقد صدّقه الناس لأنه صدقهم، وآمنوا به لأنه آمن بقدرتهم على التغيير، ففاز بقوة الرأي العام لا بسطوة المال ولا بدعم النخب. وهكذا تحوّل "ممداني" إلى رمزٍ لجيلٍ جديد من الشباب الأميركي (جيل Z) الباحث عن كسر هيمنة الأجيال السابقة على مؤسسات السياسة والمال والإعلام. ومع ذلك، لا يمكن نقل التجربة كما هي إلى بيئاتٍ أخرى؛ فالديمقراطية الأميركية ابنة سياقها التاريخي والثقافي والمؤسسي، حيث تتوافر منظومات مستقلة قادرة على حماية التنافس الحر وصيانة إرادة الناخبين. أما في دولٍ كالعراق، فإن البنية الديمقراطية ما زالت في طور التكوين وتعاني من جمودٍ مزمن يجعل الانتخابات أقرب إلى طقسٍ شكلي يمنح الشرعية لسلطةٍ ثابتة تتبدل وجوهها ولا تتغير سياساتها.

المشهد العراقي الانتخابي يعاني من الرتابة، إذ تتكرر الوجوه والشعارات والبرامج، ولا يظهر تجديد حقيقي في الخطاب السياسي، مما جعل الثقة الشعبية تتآكل ببطءٍ في قدرة النظام الديمقراطي على إنتاج بدائل جديدة. الانتخابات تبدو أحيانًا ميكانيكية أكثر منها عملية تجديدٍ للمجتمع السياسي، والقوى الحزبية لا تزال تتحدث بلغة الماضي، متجاهلةً ما يقوله الشارع وما تهمس به عقول الشباب الباحثين عن فرصٍ وعدالةٍ وكرامة. في المقابل، تمكن "ممداني" من اختراق النخبة الأميركية لأنه فهم ما يريده الناس، وتحدث بلغتهم، وقدم نفسه باعتباره مسؤولًا عن الحلول لا مجرد ناقمٍ على الواقع.

من هنا يبرز السؤال المشروع: هل يمكن لبيئةٍ سياسية مثل العراق أن تنتج ظاهرةً مشابهة؟ قد يكون الجواب مرتبطًا بإرادة الطبقة السياسية في منح مساحاتٍ أوسع للمستقلين والشباب، وبمدى استعدادها للتخلي عن احتكار المشهد العام. إن القوى الأوليغارشية التي تمسك بإيقاع السياسة العراقية مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بأن تسمح بولادة جيلٍ جديد من القيادات يمتلك خيالًا سياسيًا مختلفًا، ولغةً أكثر التصاقًا بالواقع، وبرامج قابلة للتنفيذ. فالمجتمعات لا تتجدد إلا حين يُفسح المجال للعقول الشابة بأن تجرّب وتغامر وتخطئ وتتعلم.

قد لا يكون في العراق مناخٌ مؤسسي مماثل للديمقراطية الأميركية، لكن في كل مجتمع طاقة كامنة تنتظر من يحررها. ومتى ما تحررت تلك الطاقة، ووجدت من يمنحها الثقة والتمكين، فإن التجديد السياسي يصبح ممكنًا. فظاهرة "ممداني" ليست معجزة، بل هي نتاج إصرار شخصي وذكاء اجتماعي وفرصة مؤسساتية التقطها صاحبها في لحظةٍ نادرة. 

أما في العراق، فالمطلوب هو خلق بيئةٍ تشبه تلك اللحظة، بيئةٍ تسمح بأن يتنافس الناس على أساس الكفاءة لا الولاء، وعلى أساس البرامج لا الشعارات. عندها فقط يمكن أن نشهد ولادة "ممداني عراقي" يكون تعبيرًا عن جيلٍ جديد، وعن ديمقراطيةٍ تحاول أن تجد روحها في مجتمعٍ أنهكته الانقسامات ويبحث عن أملٍ حقيقي في التغيير.

ذات صلة

نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية ومؤشرات التغييرالانتخابات النيابية العراقية: النتائج المتوقعة وحيثيات المشهد القادمالانتخابات: مشاركة أم مقاطعة؟العراق يصوّت من جديد… لكن اللعبة لم تتغيّرأنا الشعب.. كيف حوّلت الشعبوية مسار الديموقراطية